عبد الحليم فضل اللهأخفقت قمة الكويت في أداء واجب التضامن مع غزة، فالهوّة بين المشاركين اتسعت إلى حد لم تعد تجدي معه جسور الكلمات، ولا طنين العبارات القوية. وما بين سقف الحد الأدنى في لقاء الدوحة، التي عُقدت بمن حضر وقعر المبادرة المصرية، مسافة قصيرة، لكنها كافية للتمييز بين وجهتي نظر، واحدة ترى أن على العرب أخذ زمام المبادرة، والثانية تعتبر أن مستقبل المنطقة مرهون بنتائج المفاوضات الطويلة التي تجريها «إسرائيل» مع نفسها.
وعلى أي حال، كان من دواعي الواقعية السياسية إرجاء القمة الاقتصادية إلى وقت آخر، فالتنمية ليست شأناً تقنياً، ومن شروط استتبابها أن تحتضنها بيئة تتّسم بالصلابة والتوازن، لكن القمة العقيمة فلسطينياً عُقدت، وشهدت ولادة «إعلان الكويت» الذي خلص إلى سلسلة قرارات «لتعزيز التكامل الاقتصادي العربي»، وتضمّن عدة برامج واستراتيجيات في حقول الأمن الغذائي والطاقة والمياه والبطالة والتعليم وغيرها.
تفرّق العرب في السياسة واجتمعوا على مسائل أخرى، وهذا جزء من سياق طويل لعزل المسار السياسي في المنطقة عن غيره من المسارات، وصولاً إلى تحويل بلدانها إلى كيانات غير سياسية، تتصرف وفق المصالح الضيقة والقصيرة الأمد لنخبها الحاكمة.
ويجسد إعلان الكويت بوضوح فكرة أن التعاون الاقتصادي لا يتطلب بالضرورة تقارباً سياسياً، ولعله يرى أنّ النمو الاقتصادي والمشاريع الكبرى المشتركة، ودعم الأعمال الصغيرة، وتعزيز التنمية البشرية... هي التي ستحسّن في نهاية المطاف العلاقات العربية ـــــ العربية وتساعد على تفكيك المحاور. وهذا الرأي الذي يبدو للوهلة الأولى جديراً بالنقاش، يخفي وراءه النية بأن يكون التعاون الاقتصادي بديلاً للتعاون السياسي لا متمماً له، وشكلاً من أشكال التعويض عن ضعف حضور العرب في القرارات الإقليمية وغيابهم شبه التام عن المسرح الدولي.
أكثر من ذلك، يبدو إعلان الكويت الاقتصادي الاجتماعي، قريباً جداً من النظرة الأوروبية للشراكة مع الضفة الجنوبية للمتوسط، فهو لا يتعامل مع التنمية كهدف بحد ذاته، بل كعامل مساعد في تحقيق أهداف أخرى، مثل «الأمن، والسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي». كما أنّ تركيز الإعلان على المشاريع المشتركة وعلى دور القطاع الخاص، يوحي بأنّ قيام فضاء اقتصادي موحّد لا يستلزم الاتفاق على المبادئ الأساسية والسياسات العامة، بل يمكن بناؤه تدريجياً اعتماداً على توافقات موضعية بشأن قضايا محددة غير مشروطة بأفق سياسي موحّد.
هذه النزعة للتقليل من شأن السياق السياسي للتنمية، تتزامن مع تراجع الضغوط الداخلية والخارجية التي كانت تدفع باتجاه تحريك الجمود السياسي في المنطقة، وإذا كان أداء بعض الأنظمة قد تأثر بمزاعم إدارة جورج بوش بشأن نشر الديموقراطية، فإن بوسعها الآن العودة إلى التشدد، بعدما أظهرت صناديق الاقتراع أن الديموقراطية تتناقض مع مصالح واشنطن، وفي هذا المجال ينصح «دنيس روس» و«ريتشارد هاس» الإدارة الأميركية الجديدة، بالتخلي عن مبدأ نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط والاكتفاء بتعميم قيمها ومبادئها، حرصاً على الأنظمة الحليفة.
المريب في الأمر، هو أن الاستقالة من واجب التضامن العربي في مواجهة العدوان، قابلها في بيان القمة التزام غير مشروط بالتضامن مع الدول التي عانت الأزمة المالية، ففي الفقرة الأولى من البيان الختامي، أقرت القمة مبدأ المساعدة على إعادة إعمار غزة، شرط أن يتم ذلك وفق «الآليات العربية والدولية المعتمدة لدعم الشعب الفلسطيني»، وفي إطار «التنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية». أما الفقرة الثانية المتعلقة بالأزمة المالية، فحثت الدول العربية على ممارسة دور أكثر فاعلية في العلاقات الاقتصادية الدولية، والمشاركة دون قيد أو شرط في «الجهود المبذولة لضمان الاستقرار المالي العالمي». وهذه مواربة بليغة في الدعوة إلى استعمال ما بقي من فوائض النفط لإخماد الحرائق الاقتصادية القادمة، بعدما استُنزف جزء منها في تهدئة الأسواق المالية في العامين الفائتين.
لدينا إذاً منطق متناقض، فالتنمية بمعناها الضيق، تكتسب أولوية على السياسة بمعناها الواسع عندما يتعلق الأمر بقضايا العرب المشتركة، لكن السياسة تتقدم على التنمية عندما يتصل الأمر باحتياجات النظام الدولي. وقد هوّنت قمة الدوحة قليلاً من شأن هذا المنطق، فأظهرت أن استعادة العرب لدورهم هو الأرضية التي يجب أن تُبحث على أساسها قضايا الشراكة، وطمأنت إلى أن استعادة الدور لا تتطلب بالضرورة تحولات جذرية في بنية النظام الرسمي، بل مجرد تغيير محدود في سلوك الأنظمة ومواقفها بشأن القضايا الرئيسية.
المشاركون في «منتدى بيروت للمقاومة والتضامن بين الشعوب والبدائل» وهم مئات من الناشطين والمفكرين والخبراء والنقابيين الدوليين، عبّروا عن اتجاه آخر مخالف لمقاربة الكويت القائمة على التفكيك ما بين المسارات السياسية والاقتصادية للتنمية، فالمطلوب حسب المنتدى هو العمل بصورة متزامنة على ثلاثة مستويات، مستوى استراتيجي تمثّله المقاومة، ومستوى أيديولوجي هو مناهضة الهيمنة، ومستوى ثالث يعنى بإيجاد البدائل الاقتصادية والسياسية خارج ديكتاتورية السوق وتسلّط النخب المسيطرة. ومع أن هذه المفاهيم هي ذات فضاء دولي، فإنّها تتيح للعالم العربي الإسهام في بناء رؤية عالمية جديدة، تلخّصها العبارة الآتية: إن المقاومة هي «جزء لا يتجزأ من معركة تثبيت المنجزات الاجتماعية»، وكفاح الشعوب لنيل حقوقها الاقتصادية، هو جزء من معركة المقاومة، ومن دون هذين الأمرين لن يكون ممكناً قيام «عالم بديل تسوده مبادئ العدالة والتكافؤ واحترام حقوق الإنسان».
المجتمع العربي عالق بين جدارين، الأنظمة من جهة والنظام الدولي من جهة أخرى، لكن الجدار ليس قدراً، وما عليه سوى النظر من النافذة ليتأكد من أنه ليس وحده وأن الكثير من شعوب أهل الأرض تنتظر استيقاظه.