نهلة الشهالمصر تبني جداراً غريباً على طول حدودها مع غزة. غريب لأنه (شبه) سريّ حتى الآن، أو فلنقل غير مُفصح عنه رسمياً. ولكنه غريب، وخصوصاً لأنه يذهب عميقاً في الأرض بدل أن يرتفع إلى السماء. وهو يتبع في هذا هدفه: تدمير الأنفاق مع غزة، ومنع تجديدها. يشاد الجدار الجديد على بعد عشرات الأمتار من الحدود الرسمية المحددة بجدار آخر معروف، سبق أن سقط مرة. مصر حرة (يسمّون ما يقومون به ممارسة لـ«السيادة الوطنية»)، وهي فعلاً تقوم بالإنشاءات داخل أراضيها. وهي حرة في الاستعانة بالتقنية الأميركية، وكذلك حرة في اتخاذ قرارها بالاستجابة لضغوط أميركية وإسرائيلية، أو بإبداء نوع من النيات الحسنة تجاههما. وكل ذلك: الحفر، وتركيب أجهزة إنذار معقّدة، واتخاذ قرارات التعاون مع الجهات المناسبة، كله سيادة وطنية.
لا يجادل أحد في أن الأنفاق باتت «بزنس» عالي المردود لأصحابها، وقد يكون معظمهم مدفوعين بالجشع، وليسوا مناضلين، ولو أن ضرورة حياتية أملت إنشاء تلك الأنفاق. وهي ضرورة امتلكت رمزية وطنية. فلولا (مئات، آلاف) الأنفاق، وما يُهرّب عبرها، لأصبح الوضع في غزة أصعب بكثير مما هو عليه في كل المجالات: من حليب الأطفال حتى الأدوية والمحروقات وقطع غيار كل شيء. إذ ما يمر رسمياً إلى غزة لا يسد حاجاتها الأساسية ولو بنسبة واحد في المئة، باعتراف المنظمات الدولية المعنية. ولعله أيضاً يهرَّب عبر الأنفاق بعض السلاح، أو ما يمكِّن من تطوير الأسلحة الموجودة، مما يمنع تجريد غزة وقواها السياسية من عنصر توازن القوى هذا، وهو واحد من بين عناصر أخرى.
المشكلة أن تدمير الأنفاق، سواء بالقضبان الفولاذية المغروسة كل بضعة سنتمترات في عمق الأرض، أو بقساطل ستغرق كل شيء بالمياه، أو بكليهما معاً، سيكشف المسألة الفعلية: ما هو مصير المليون ونصف المليون المقيمين في غزة؟ هل سيُتركون يموتون جوعاً ومرضاً وقهراً؟ هل سيتمكن أي طرف، سواء كان مصر أو الولايات المتحدة أو حتى إسرائيل (بغضّ النظر عن طاقاتها على ارتكاب الأفعال الوحشية)، من استخدام هذا الوضع لإدارة العملية السياسية مع غزة وفق ما يرى أو يهوى؟ ولكن أيّ عملية سياسية؟ ذلك هو السؤال. فتلك المنبثقة عن هذا الإجراء لها عنوان وحيد هو ابتزاز حماس بخطر إيقاع مزيد من البؤس على الناس، بينما الهامش الباقي قبل الوصول إلى الإبادة الجماعية ضيق. وكذلك وضع حماس أمام مزيد من الحصار عليها، وهو ما قد يدفع العديد من أجنحتها إلى التجذّر، والى مغادرة المنطق السائد حالياً، والقائم بوضوح على أفعال وأقوال تأكيد الذات والقدرات، بغاية انتزاع الاعتراف على كل المستويات، بما فيها تلك الإقليمية والدولية، والوصول إلى تقاسم السلطة.
من المؤكد أن تدمير الأنفاق ـــــ على فرض تحقّقه فعلاً، وعلى فرض ألّا تولد بدائل من طينة الأنفاق، أي حلول عملية للموقف ـــــ سيعيد الأمور إلى نصابها، إلى السياسة بمعناها العام، وسيفرض نقاش الوضع في فلسطين كما هو فعلاً، لا كما تتدبّره الوجهة السائدة، الترقيعية والانتظارية. ففي الأثناء، تمضي إسرائيل قدماً في تحقيق استراتيجيتها القائمة على ترسيخ الوقائع على الأرض، مما يعرفه الجميع، وإنما ينبغي وصل بعضه ببعض لتقدير المعطى القائم كما هو: مستوطنون بمئات الآلاف في الضفة الغربية، ولا يكفّون عن التزايد، ومستوطنات تتضخّم فتقطع مجال الضفة الحيوي وتحيلها باندوستانات مبعثرة بمساعدة الجدار المنجز، والقدس مهوّدة بأموال الصهاينة من العالم كله، ومسجدها الأقصى يمكن أن ينهار في أي وقت، وفلسطينيو 1948 واقعون تحت ضغط التسليم أو الرحيل، واللاجئون في البلدان المحيطة يعامَلون كقنابل موقوتة... وغزة إلى الجحيم. ومن جهة أخرى، السلطة حائرة ضائعة ـــــ في أحسن الأحوال ـــــ وتسيّر الأمور وفق المتوافر، بمزيج من العجز والعماء والقمع التي تُضاعِف حظوظ انتشار فساد «النخبة» المهيمنة بالتوازي مع انتشار اليأس العام لدى الناس. فيما لا تبصر النور البدائل السياسية لهذه الحالة المعلّقة، ولا يطغى، كبداهة، مقترح وطني للخروج من المأزق، يمتلك بُعد الرؤيا والشجاعة اللازمتين. أما الدول المحيطة، وخصوصاً مصر والأردن، فلا تعرف بالتأكيد مما هو مصنوع الغد، وهي أيضاً تسير وفق مبدأ تدبّر الأشياء دفعة إثر أخرى بانتظار الفرج.
معلوم أن الأنفاق ما كان لها لتوجد لولا غضّ الطرف المصري. وهي جزء من تدبّر الأمور لمنع احتقانها وانفجارها. حسناً: كيف يترافق إجراء تدميرها مع الشروط التي ستولد عنه؟ لا يمكن مصر أن ترى أن الأمر لا يعنيها، ولا التعلل بممارسة «السيادة الوطنية» يكفي. لعل تدمير الأنفاق ينبئ بقرب إعلان مقترح سياسي كبير لحل المسألة الفلسطينية، لعلّه يستحضر ما أشار إليه، على بعد آلاف الكيلومترات من رفح مقترح الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي، وما يخفيه «الغموض البناء» لوعد أوباما، بأنه سيصل إلى حل مقبول في غضون سنتين. فهذه الـ«لعلّ» كلها تنطلق من افتراض أن الفعل المصري ليس خبط عشواء، وأنه جزء من استراتيجيا عامة، في مقابل الاستراتيجيا الإسرائيلية العنيدة. ربما كنا «نقبضهم جدّ» أكثر مما ينبغي؟!