لقياس فداحة الخسارة، علينا أن نستعيد الذكرى الأولى لغياب حاتم علي، ليس على طريقة «حدث في مثل هذا اليوم»، وإنما لجهة عمق الطعنة التي أصابت الشارع الدرامي العربي عموماً، وهذا ما يفسّر مشهد الجنازة العظيمة التي رافقت غيابه الأخير، الجنازة التي بدت كما لو أنّها مشهد من أحد أعماله الدرامية، وبتوقيعه الشخصي: كوادر الحِداد المشبعة، والفجيعة الجماعية، والشجن السوري الأصيل.تكمن فرادة أعمال حاتم علي في مساهمته المباشرة بتأثيث تاريخ بصري مضاد في مخاطبة الذائقة العامة، لا يستلهم مفرداته من أرشيف التاريخ الرسمي، سواء في ما يخص سوسيولوجيا المجتمع السوري، أو ما يتعلّق بالتاريخ بوصفه متوالية حكائيّة، إذ أدرك حاتم علي باكراً الوصفة السحرية للسرد البصري الموازي لسرديّة «ألف ليلة وليلة»، متكئاً بأدواته على بصيرة الجدّة الأولى شهرزاد، وبمعنى آخر الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، أو الحكي نحو الخطاب، بتفكيك الحكاية وإعادة صوغها درامياً، تكمن أهمية المنجز البصري لحاتم علي إذاً، بالحذف لا الإضافة، مخفّفاً إلى أقصى الحدود ما يقع في باب الثرثرة التلفزيونية، ورفض الأعمال التي تقوده إلى مشية عرجاء، بناء على وعي معرفي متراكم، سواء من الميراث المسرحي أو قراءة التاريخ بعين مضادة. في استعادتنا لمشهد الجنازة المحمولة على الأكتاف مسافة ثلاثة كيلومترات، سندرك أن من شيّعوه كانوا يردّون دينًا له بحقهم، هو الذي أهداهم أعلى درجات الغواية البصرية، أقله، في «التغريبة الفلسطينية»، هذا العمل الذي وثّق درامياً لقضية نزوح الفلسطينيين من ديارهم بعد نكبة 1948 بشحنة إنسانية مشبعة عاطفياً، أعادت صوت النشيج إلى أقصاه من دون أن يتكئ على الهتاف والشعار بقدر عنايته بوجع الناس العاديين وملحمية اقتلاعهم من بيوتهم في مشهدية شكسبيرية عن معنى التيه. وتكمن أهمية هذا العمل سرديّاً (كتبه وليد سيف) بتقشيره طبقات الألم، ورصد أوجاع النزوح، ومحاولة لردّ هذه النكبة ليس فقط إلى مشروع استعماريّ، وإنما أيضاً إلى أسباب ذاتية خاصة بالمجتمع الفلسطيني نفسه لجهة الأعراف الصارمة والنزوع العشائري، وانكسار الأحلام. تنطوي «التغريبة» إذاً، على سرد روائي يقارب المناخات التي اشتغل عليها غسان كنفاني قبلاً، بالإضافة إلى النزوع الذاتي لدى المؤلف الذي عاش وقائع النكبة عن كثب، وآلام المخرج الذي نزح من الجولان ليشتبك مع الهمّ الفلسطيني في المخيمات السورية. هكذا امتزج السّرد الأدبيّ بالسّرد البصريّ نحو أقصى حالات التّطابق الإبداعيّ لإنعاش الذاكرة بقصصِ المهمّشين وإعادة تركيبها على نحوٍ خلّاق. وسوف يجد حاتم علي نفسه في موقع من يتذكّر سيرته الشخصية، عندما لعب دور «رشدي» الذي اختار فكرة الكفاح المسلّح انسجاماً مع الصيرورة التاريخية للقضية الفلسطينية.