ثلاثة أرباع المنازل في رأس بيروت ما زالت على حالها منذ 1975. هذا يعني أنها نجت من الحرب، لكن 20 % فقط من العائلات عاشت في تلك البيوت قبل الحرب. كان هذا جزءاً من العرض الذي رعته «مبادرة حسن الجوار» في كلية الصحة بالجامعة الأميركية في بيروت، لمناقشة «دراسة العافية في رأس بيروت» في باحة مبنى ستراند. وفقاً للدراسة، التي أجاب عن الأسئلة المدرجة فيها، 60% من العينات المختارة علمياً، لتقويم الأحوال الصحية والديموغرافية والاقتصادية في رأس بيروت، فإن ثلاثة أرباع البيوت صمدت، حتى الآن، من همجية الباطون الحديث، الآخذ في قضم معالم المدينة. والواقع، أن السكان الأوائل لم ينجوا. وقعوا في قبضة الحرب. غادر معظمهم. والرقم الأكبر، في ما يخص الفترة الزمنية التي يعيش فيها السكان داخل الحي، أي 28% من المجموع العام للسكان، أتوا إلى المنطقة بعد عام 2005 ضمناً. أحد المارة توقف كثيراً عند الرقم. «طنّ» عام 2005 في أذنيه. هذا عام «مشؤوم» لبنانياً. حك إصبعه بإبهامه وأغلق شفتيه مستغرباً هذا «النزوح» إلى رأس بيروت بعد «اغتيال الرئيس الحريري»، واستفاض محللاً الطابع الديموغرافي للنازحين.كان سيجد إجابات أكثر عقلانية في الدراسة، لولا أنه «غرق» في السياسة. فديموغرافياً، وعلى عكس الشائع، فإن 4% من المساكن في المنطقة، يقطنها أشخاص لا يكوّنون عائلة. ذلك رغم أن منسقة المشروع، أساميا قدّور لفتت إلى أن الدراسة لم تشمل سكن الطلاب، بينما يقطن 24% من الأفراد مساكن بلا شركاء. وبدا لافتاً، أن هناك عائلات تقيم منذ عقود في البيوت، وتمثل نسبة 13% من إجمالي البيوت المسكونة في الحي. وهذا يعني أن رأس بيروت منطقة تحتفظ بشيء من التقاليد الشرقية. وتعاود هذه التقاليد الظهور، في إحصاء ضمن الباب الديموغرافي عينه، إذ إن نسبة العاملات القاطنات في المنازل التي يعملن فيها، تبلغ 30% فقط. هذا لا يعني أن نسبة المنازل التي تستعين بعاملة هو 30%، بل إن ذلك الرقم يمثل نسبة الساكنات في المنازل. والعينة هنا بدت صادمة بالنسبة إلى المشاركين. فيوم الأحد، يبدو شارع الحمرا أقرب إلى مانيلا. وتزيّنه العاملات الأجنبيات، ما يوحي بنوع من الألفة بينهن وبين رأس بيروت تحديداً. الدراسة تبيّن شيئاً آخر. 70% من العاملات يعملن على الدوام ولا يسكنّ مع العائلات التي تستعين بهن. وقد لمس متابعون شاركوا في إعداد الدراسة أن حواجز ثقافية تحول بين العاملات والعائلات، لكن ذلك لم يكن ضمن الأسئلة المطروحة، حيث لم تدرج هذه المعلومات في الدراسة لأنها «غير دقيقة» ومبنية على «انطباعات عامة».
الأمر المؤكد، الذي لا يحتمل الانطباعات، أن القسم المتعلق بالصحة في الدراسة، حمل إجابات مخيفة. 25% يعانون الضغط. 24% يعانون الكولسترول. 23% يعانون ألماً في الظهر. 20% يعانون أوجاعاً في مفاصلهم. وهنا رقم كبير أيضاً: 14% مصابون بالصداع النصفي، و 12% لديهم فقر في الدم. أما السكري، فنسبة الإصابة به في رأس بيروت، 11%. وفي الحي المزدحم 11% تؤلمهم صدورهم، ومثلهم تقريباً، مصابون بالربو، فيما يعاني 10% مشاكل في الدورة الدموية. توقفت إحدى المشاركات عند رقم المصابين بأمراض القلب: 7% فقط. مازحت متفاعلاً آخر، 7% رقم مقبول بالنسبة إليها. تقارب الموضوع من زاوية «شعبية». أمراض القلب، برأيها، هي الأكثر منطقية، لأنها «تشعر بأن لذلك علاقة بالصحة النفسية». طبعاً، تعليقها لا يستند إلى مرجع علمي دقيق، لجهة معالجة ضخامة أرقام المرض في منطقة تعد «راقية» وتستريح في عمق العاصمة. فللأسف، 51% من السكان، أي نصفهم تقريباً، يملك تأميناً صحياً خاصاً، في مقابل 18% يملكون تأميناً عاماً. 25% من سكان رأس بيروت لا يملكون تأميناً إطلاقاً، وفي العام الماضي، 14% منهم كانوا بحاجة إلى عناية صحية ولم يستطيعوا الحصول عليها. والمباني ليست أفضل حالاً من البشر. 32% من الشقق في المباني المأهولة بحالة سيئة، و 43% بحالة متوسطة. 25% فقط في حال جيدة. ثلث البيوت في رأس بيروت لا تدخل الشمس إلى غرف جلوسها. وتالياً، غرف النوم لا تعرف الضوء، ما يفسر النقطة اللاحقة، التي توضح أن 40% من المنازل مشبعة بالرطوبة.
الرطوبة ليست الضيف الوحيد. 5% من سكان رأس بيروت يجنون أقل من 400 ألف ليرة شهرياً، وهي النسبة الأقل، وذلك في موازاة 35% يجنون أكثر من مليونين ونصف مليون شهرياً، وهو الدخل الأعلى بين المداخيل المطروحة. تبين المعلومات بوضوح تقلص الطبقة الوسطى وانقسام السكان على قاعدة تكاد أن تكون عمودية. وللمناسبة، بيروت ليست مدينة كوزموبوليتانية. تحديداً رأس بيروت. 3% من سكانها فقط أوروبيون أو أميركيون. ثلاثة أرباعها لبنانيون، والآخرون معظمهم عرب وقلة آسيويون. والأمر اللافت الآخر، أن ثلاثة أرباع المشمولين بالإحصاء هم «متدينون» أو «متدينون قليلاً». و1% من السكان يعمل في فنادق ومطاعم، في منطقة «السهر والمطاعم». بيد أن النقطة الإيجابية في الموضوع، أن الغالبية الساحقة منهم رفضت التصريح عن طائفتها.
النقاشات مستمرة، والجميع مدعو إلى جلستي نقاش إضافيتين مع الأساتذة المشاركين في الإشراف على الدراسة، اليوم في باحة مبنى «حمرا سكواير»، قرب مقهى ستاربكس، وغداً الخميس، في باحة سنتر الحمرا، مقابل مقهى يونس، من الحادية عشرة صباحاً حتى السادسة مساءً.



أغنياء أو فقراء؟

جاءت الإجابات المتعلقة بالاكتفاء من الدخل المخصص للأسرة متعادلة نوعاً ما. 1% فقط صنفوا أنفسهم أغنياء، و4% اعترفوا بأنهم فقراء. هكذا قوّم السكان أنفسهم. عملياً، القطبة ليست مخفية، في رأي أساميا قدّور، منسقة الدراسة، فالتناقض بين تدني الدخل الحقيقي أو ارتفاعه وتصنيف الوضع الاجتماعي من صاحبه، يعود إلى «التركيبة الاجتماعية للبنانيين». كيف يعترفون بذلك، و71% نفوا أن يكونوا من المديونين؟ ربما تكون الأرقام صادقة، لكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك خلل ما في الإجابات، يعود إلى «قلة جدية اللبنانيين في التعاطي مع هذه الأمور».