فرصة نادرة لإعادة اكتشاف بعض أبرز التجارب التشكيليّة السوريّة، في الستينيات السبعينيات العابقة بالمشروع النهضوي. مرّة أخرى ترقى دمشق إلى موقعها كـ«عاصمة للثقافة العربية»
خليل صويلح
يتيح المعرض الذي استضافته احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» في متحف الفن الحديث، فرصة للتعرف إلى كنوز المحترف السوري في الستينيات والسبعينيات. وإذا كانت أعمال الرواد قد اتسمت بالانطباعية والصبغة التزيينية ومحاكاة الآخر، فأعمال هذين الجيلين سعت لتأكيد حساسية محلية وخصائص جمالية ألقت بظلالها على التجارب اللاحقة لجهة ترسيخ هوية تعبيرية وملامح تجريدية وواقعية، امتدت على مقترحات لا تزال مجال جدل حول هوية هذا المحترف وعلاقته بمفردات الحداثة والمعاصرة والاختلاف. والمعروف أن الستينيات شهدت في سوريا والعالم العربي فورة تشكيلية تواكبت مع مشروع نهضوي أثّر في أعمال هذا الجيل لجهة الالتزام والحلم الثوري، والاشتباك مع الموروث التراثي لإنتاج لوحة حديثة بروح عربية تنطلق من مكوّنات محلية كالحروفية والمنمنمات.
المعرض الذي ضم أعمالاً لفاتح المدرس، والياس زيات، وغسان السباعي، ولؤي كيالي، ومحمود حماد، ونصير شورى، ونذير نبعة، وأسعد عرابي وآخرين، يضعنا وسط انفعالات متباينة أمام هذا الخزّان اللوني الآسر ويقودنا إلى حقيقة منجز الأجيال اللاحقة. كأنّ المحترف السوري توقف عند هذه التجارب التي وضعت بصمتها الفريدة لتتناسل منها تيارات أخرى. استعادة لوحات فاتح المدرس (1922 ــــ 1999)، ترسم مساراً فردياً للقيم الجمالية التي أرساها في المحترف السوري عبر بحثه عن لغة تشكيلية تمزج بين الحسية والصوفية من جهة، والهوية المحلية والبعد الكوني للمفردة التشكيلية من جهة أخرى. وإذا بلوحته تنطوي على حس مأساوي يغلّف الوجوه الغائمة التي تحتل مساحة اللوحة، فتطل على الذاكرة والهواجس الطفولية التي تسكن مأساوية الفراغ. المدرس أحد أبرز ممثلي الواقعية التعبيرية بتفاعله مع الفنون الشرقية القديمة والأسئلة الكونية المعاصرة، والقلق من دمار الجمال وخراب الروح.
على جدار آخر، نواجه أسئلة أخرى أمام لوحات لؤي كيالي (1934 ـــ 1978)، بنسختها الأصلية. الفنان الذي غاب على نحو تراجيدي إثر إحباطات متكررة، أبرزها هزيمة 67، يسعى إلى بلورة أسلوب واقعي وتعبيري، يستمد ثيماته من الشارع، فيرسم بائع صحف، وماسح أحذية... قبل أن يلتفت إلى الطبيعة الصامتة في مقاربات لرسوم فان غوغ. مجموعة «عباد الشمس»، يغلب عليها اللون الذهبي والبهجة الغامضة، لكن كيالي سينتهي منتحراً في مرسمه!
في ركن آخر، نحن على موعد مع نساء نذير نبعة، في أحد أكثر منعطفاته التشكيلية ثراءً. هنا يفصح عن قيم الجمال الدمشقي بتطويع العلاقة بين المرأة والمدينة في قراءة أسطورية تزاوج جماليات النماذج التراثية والشعبية، فنتلمّس أسطورة عشتار في حوارية المرئي والافتراضي، بالإفصاح عن رموز تتكيف مع «ألف ليلة وليلة» والمخزون الحكائي الشرقي، في منمنمات مرسومة بدقة واقعية. نساء بكامل زينتهن، مسربلات بحزن دفين هن الصورة الأخرى لدمشق بتاريخها المتحوّل والمنهوب. لكنّ خزيمة علواني ذهب أبعد في ربط الواقع بالأسطورة، فتوجهت تجربته «للبوح بقسوة عن نموذج آخر للإنسان» في نزوع سريالي يحدث صدمة لمرأى كائناته الممسوخة، وأحصنته المطعونة.
وستفتح تجربة محمود حماد على أفق مغاير باستلهام الحروفية كمناخ للتجريد العالي في نفحة شرقية تعلن قطيعة مع ما سبقها بتعزيز نبرة حداثية لافتة، سنجد تجلياتها لاحقاً عند الأخوين أدهم ونعيم إسماعيل وعبد القادر أرناؤوط. ونتوقف عند أعمال غسان السباعي ذات النفحة التعبيرية المغرقة بالدلالات الإنسانية والميثيولوجية والمنطوية على قلق وجودي. وتتكئ أعمال الياس زيات على معطيات الأيقونة المعاصرة، بينما تصفعنا وجوه مروان قصاب باشي في أنساقها التعبيرية المتعددة. وتقتحم ليلى نصير بألوانها الشمعية الجسد العاري لتمنحه بعداً حلمياً يتماهى مع كائناتها الأسطورية. ويتوغّل أسعد عرابي في الميثيولوجيا الشرقية ليكشف عن شهوانية الجسد في شحنة لونية حارة ومتدفقة.