عمّان ـــ نوال العلي
لن يكون لفندق الملك غازي وجود على الأرجح مع حلول عام 2010، حيث سيباع البناء الذي يعود لعشرينات القرن الماضي لأحد المستثمرين، وقد تضاربت المعلومات حول المبلغ الذي سيدفعه، فقال البعض إنه مئات آلاف الدولارات، وقال آخرون إنه 12 مليون دينار (أي نحو 15 مليون دولار)!
المبلغ الذي عرضه المستثمر ــــــ الذي لم يُعلن اسمه ـــــ لم ترفضه عائلة علي الكردي مالك المبنى الذي يقوم فيه الفندق، وربما اعتبرته أثمن من «كليشيهات» الحفاظ على التراث والتاريخ. وسيقوم المستثمر بهدم الفندق وإقامة بناء حديث مكانه.
وستكون حال الفندق، الذي استأجره محمد الزعبي عام 1950 ليحوله من بناء سكني إلى فندق، كحال مقهى «وادي النيل» الذي جاء ذكره كثيراً في رواية «سلطانة» لغالب هلسا، حيث كان الكلام عليه كثيراً، ولم يعد أحد يذكره.
عملية بيع الفندق والنية المعلنة لهدمه، تثير الانتباه، فيما أمانة عمّان الكبرى أطلقت مشروعاً بعنوان «تعتيق وسط المدينة» الذي يتجسد في طلي الجدران بألوان طينية وتبديل اللافتات الحديثة بلوحات خشبية أو حجرية. بيد أن الأمانة نفسها لم ولن توقف هدم بناء عتيق أصلاً، وإن كان العتيق في مدينة كعمّان حديثاً إذا ما قيس بتاريخ المدن العريقة.
في العشرينات من القرن الماضي، لم تكن حدود عمّان تتجاوز منطقة سقف السيل ووسط البلد، حيث انتشرت العائلات الشركسية والدمشقية. ولذا بُنيت البيوت العمانية على الطراز الشامي. هكذا أُسس مبنى أوتيل الملك غازي، في شارع السعادة المتفرع من شارع الملك طلال، بشرفاته الهلالية و«العقدة القديمة» والباحة الداخلية والمناور العالية والملتفة.
كانت للفندق شهرة واسعة، إلاّ أن المرء يحتاج الآن إلى بذل جهد كبير للعثور عليه، وذلك نظراً إلى بوابته البائسة والقديمة ولافتته المتهالكة، إضافة إلى أن الفندق صار يقع فوق عدد كبير من محال الملابس والأحذية.
كان الفندق واحداً من الأماكن القليلة في عمّان، حيث يمكن الغرباء والعابرين وأصحاب الحاجات في الدوائر الرسمية أن يقيموا فيها.
وكان واحداً من خمسة فنادق أخرى في المدينة وهي: «السعادة» و«الكمال» و«فلسطين» و«حمدان»، وكان للفندق الأخير مقهى يحمل الاسم نفسه، وفيه عقد أول مؤتمر وطني أردني عام ضم العديد من السياسيين والحزبيين، لكن فندق «حمدان» هُدم قبل أعوام قليلة وأُقيم مكانه مقهى حديث لخدمات الإنترنت.
وإلى فندق «الملك غازي» كان يحضر قائد الجيش الأردني السابق غلوب باشا ومعه رجالات من البادية ليقضوا معظم أوقاتهم.
في النصف الأول من القرن العشرين، كانت كلفة الليلة الواحدة في فندق «الملك غازي» خمسة قروش، ولم يكن جميع النزلاء قادرين على دفعها مرة واحدة، لذلك اضطر الشيخ الزعبي إلى استرداد الكلفة بالتقسيط، أو تقييدها ديوناً على أصحابها تُسدد في مواسم الزراعة أو التجارة الرائجة، بحسب حسين الزعبي ابن مؤسس الفندق، حيث كانت العلاقات الإنسانية تحكمها المعرفة والصداقات والثقة.
الآن يغصّ الفندق بالعمال الوافدين من مصر وسوريا وببعض السياح الذين يفضلون الإقامة في الفنادق الرخيصة والقريبة من المناطق الشعبية، إذ لا تتجاوز كلفة الليلة الآن خمسة دنانير (6 دولارات).
ما زال الأوتيل محافظاً على تقسيماته الداخلية، وما زال يحتفظ ببعض الأثاث القديم، ويفرد مساحات للجلسات العربية، وما زالت نباتات الزينة الداخلية بأسمائها الشعبية، كالشمعة، وورق الليمون، وقلب عبد الوهاب، تعربش على الجدران وتحتفظ بذكريات العابرين.
هناك يمكن المرء أن يحس بحركة المدينة الشعبية، يحس بها عند استيقاظ العمال المغادرين الفندق في رحلة ركض يومية خلف لقمة العيش، فيما يظل المكان «يتمطّى» ببطء ولا يتغير كثيراً.
هكذا هي الحال في العاصمة الأردنية، تختصرها «صفقة» بيع الفندق الشهير، حيث غدت علاقة الناس بالمكان فاترة وقابلة للهدم والتفكيك باستمرار، فربما يرتبط ذلك بالثقافة البدوية القائمة على الرحيل والبعد الدائم. وقد يكون مرتبطاً بالهجرات المتلاحقة التي توالت على المدينة والتي حرمتها أن يكون لها عشاق يمكثون فيها ويرتبطون بأماكن إقامتهم.