القاهرة | لا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد ساعة واحدة. هذه حال الأجهزة المختلفة في مصر. حالة ترقب تسيطر على الوضع، وسط معلومات متناقضة ومتضاربة، وقلقٌ من كسر حاجز الخوف بصورة غير مسبوقة، وتخبّطٌ في إدارة الموقف. صحيح أن التظاهرات لم تكن كبيرة لجهة الأعداد، وصحيح أن الأمن لم يقمعها بقسوة، على رغم أنه حَرِص على فضّها، وأنها وصلت إلى ميدان التحرير، لكن كل هذا إن كان يُفسَّر بسلوك مقصود من الدولة لفهم ما يحدث وقياس حجمه، فقد يُفهم على أنه «تروٍّ» من الطرف المحرّك في حال كان هذا الطرف موجوداً فعلاً. هكذا، ستستمرّ «جمعات» الغضب على ما يبدو في الأسابيع المقبلة، ربما مع توسع طفيف في أعداد المتظاهرين وأماكن المسيرات، يقابله تصاعد في القمع ومستوى الاعتقالات أيضاً. وما يصعّب حسم الموقف أن مفارقات كثيرة وعلامات استفهام تدور حول المشهد من جميع جهاته: هل هناك من قرر الانقلاب على عبد الفتاح السيسي الذي سَجن والده الروحي في الجيش، سامي عنان، وقصّ أظفار كثيرين؟ هل محمد علي الذي يعترف بأنه كان جزءاً من منظومة الفساد يعمل وحده كنسر جريح، أم أن هناك من عرف من أين تؤكل الكتف؟ هل التظاهرات عفوية محضة ولم تصل إلى حدّ التنظيم والتحشيد؟ أسئلة كثيرة تنتظرها أسابيع لا أيام، على ما يبدو.على رغم تركّز إدارة الأزمات داخل مصر خلال السنوات الخمس الماضية في يد اللواء عباس كامل، الذي انتقل من منصب مدير مكتب رئيس الجمهورية إلى مدير المخابرات العامة، ويعمل برفقة مساعده الأيمن أحمد شعبان، فإن حالة التخبط التي يدير بها الرجلان الأزمة الراهنة بعد ما فجّره المقاول والفنان محمد علي عن إهدار مليارات الجنيهات في بناء قصور واستراحات رئاسية، لم تحدث من قبل، حتى في أصعب الأوقات، كما في مواجهة جماعة «الإخوان المسلمون» التي صنّفتها الحكومة جماعة إرهابية وصادرت أموالها وأموال قيادتها وشنّت عليها حرباً كبيرة.
حالة التخبط هذه المرة مرتبطة بكسر حاجز الخوف، وخاصة بعد النتائج العكسية التي جاء بها «مؤتمر الشباب» الذي أكد فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي ما قاله المقاول المصري، بل زاد على ذلك نيته بناء المزيد من القصور غير عابئ باتهامات الفساد التي لاحقته بصورة غير مسبوقة، وأيضاً تشكّل نواة لتظاهرات في الشارع تطالب برحيله للمرة الأولى، مثلما حدث في القاهرة وبور سعيد والسويس والإسكندرية. تظاهراتٌ، وإن كانت بأعداد محدودة، إلا أنها تلقى دعماً معنوياً كبيراً من آلاف الشباب، ما بين يائسين من النظام بفعل الإحباطات المتكررة عقب «30 يونيو»، وما بين مكتفين بالمتابعة. أما «الإخوان»، فتحاول بصعوبة العودة إلى المشهد، وقد أصدرت بيانات تؤيد فيها الحراك الشعبي البعيد كلياً عن الجماعة وقادتها المقيمين في الخارج، بعدما فقدت جزءاً كبيراً من قوتها على مدار السنوات الماضية.
كل ذلك بات يرسّخ فكرة أن التغيير لن يكون من دون موافقة النظام، بل سيأتي من داخله، لكن مع حراك شعبي مقبول يمكن التعويل عليه. تفسيرات عدة تدور حول طبيعة ما يمكن أن يحدث خلال الأيام المقبلة، وهي مرتبطة بأبعاد قائمة بالأساس على الوضع السياسي لدى رأس النظام، إذ إن المأمول من داخل الأجهزة حالياً أن تُجرى «عملية تحول ديموقراطي» من الداخل، تُعجِّل برحيل السيسي من السلطة ربما قبل 2026 كما هو مقرر وفق التعديلات الدستورية التي جرت الربيع الماضي، ما يخلق مجالاً للحياة السياسية وفرصة لعمل الأحزاب، إلى جانب تسويات في شأن المسجونين وخاصة من الشباب.
من المقرر أن يلتقي السيسي ترامب في نيويورك اليوم


حتى الآن، تبدو هذه الرؤية الداخلية سائدة لدى القطاع الأعرض من المتعاونين مع النظام، وخاصة أن تدخل نجل السيسي، محمود، في القرارات، والدور الذي يقوم به لم يعودا يلقيان قبولاً، كما أن ثمة حالة غضب وفقدان للسيطرة على متابعة الموقف، في ظلّ محاولة لاستخدام فزاعات عدة من أجل السيطرة بأقلّ الأضرار الممكنة راهناً. في البداية، كان التسويق يقوم على أن ما يحدث هو «مؤامرة إخوانية». لكن مع الاعتراف بالحراك الشعبي وصعوبة إنكاره، تحوّلت الاستراتيجية لتُظهر الدولة وكأنها تواجه «قوى خارجية» مختلفة، بداية من إثيوبيا التي جرى تصدير أزمة «سدّ النهضة» معها إلى الواجهة بعد عام من جمود الملف، وصولاً إلى تدوير قصة الصراع مع تركيا. إذ إن تعليمات صدرت أمس باستغلال تغريدات مقرّبين من أنقرة وربطها بمسألة التنافس المصري ــــ التركي على الغاز في البحر المتوسط. ولذلك، تنصّ تكليفات الإعلام المصري خلال الأيام المقبلة على الحديث عن رغبة تركيا والدول المعادية لمصر في استهداف الرئيس وأسرته، وإفقاد الشعب الثقة بالمؤسسات المختلفة وصدقيتها.
سيعمل الإعلام على التأكيد أن السيسي يحقق أهداف «ثورة 25 يناير» باستقلال القرار المصري، وأن ما يحدث حالياً هو محاولة للنيل مما حقّقه. كما سيزيد الترويج لفكرة أن «الإخوانيين» يسعون إلى الفتن وإثارة الشغب من أجل التغطية على الخلافات الداخلية والانشقاقات لديهم، وهو ما يجري عبر مواقع التواصل الاجتماعي على نحو أكثر تنظيماً. واللافت أن النظام لم يجد وجوهاً سياسية يستعين بها خلال الأيام الماضية، فاستعاد وجوهاً مُنعت من الظهور قبل شهور وربما سنوات، من بينهم إبراهيم عيسى الذي جرى استغلال تدوينته للدفاع عن الدولة، إضافة إلى نشر تسجيلات للإعلامي الساخر باسم يوسف الممنوع من دخول مصر عن فبركة الفيديوات من قِبَل «الجزيرة» القطرية.
وبينما تتسرب معلومات متضاربة عن الجيش، وخاصة مع وجود السيسي في نيويورك من أجل رئاسة وفد البلاد في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد المتحدث العسكري، العقيد أركان حرب تامر الرفاعي، أن البيانات والمعلومات الخاصة بالقوات المسلحة كافة تصدر عبر المتحدث العسكري فقط. في غضون ذلك، تأثرت البورصة المصرية التي أوقف فيها التعامل أمس بسبب هبوطها بنحو 5.32%، وسط حالة من المخاوف من الأوضاع السياسية. والآن، تزداد المخاوف بعدما دعا محمد علي إلى تظاهرات جديدة الجمعة المقبل، في وقت لا تزال فيه الشرطة تحتجز نحو 200 شخص منذ تظاهرات الجمعة الماضي من دون أن تحرّر بحقهم أي محاضر.
وبينما من المقرر أن يلتقي السيسي نظيره الأميركي، دونالد ترامب، يرى كثيرون أن هذا لن يعطي ضمانات أكيدة للرئيس المصري في شأن السيطرة على الوضع، وخاصة أن الأخير فعل كل ما يمكنه من داخل النظام وخارجه لقمع معارضيه، في وقت تردّدت فيه أنباء عن توسع الاعتقالات المدروسة التي طاولت أمس الناشطة والمحامية، ماهينور المصري، التي اختُطفت من أمام مقرّ نيابة أمن الدولة، عقب خروجها من حضور التحقيقات مع بعض المتهمين المقبوض عليهم.