الغلاف الذي يحجب الهدية ويغلّفها يوازي في افتعاله الإثارة والدهشة، معنى الهدية نفسها. في تغليف الهدية إضفاء لطابع الغموض على الشيء المقدّم. المرسِل يهِب متلقّيه لحظةً استثنائيةً نادرة، تتجسّد في جعله يزيل الغموض المطروح أمامه، ما يعني توفير متعة القبض على الوضوح بمجانيةٍ مفرطة بدون عناء المكابدة. يمزّق المتلقّي الغشاء الذي يفتعل ذلك الغموض ثم يحظى بهديته الماثلة أمامه، والتي تبدّت له بعدما كانت محجوبة إثر خبئها. تغليف الهدية بمثابة هدية ثانية. من هذا الفلك تحديداً، تنطلق الحملة الإعلانية الأخيرة التي قامت بها ماركة الثياب العالمية زارا، مستمدة ثيمتَها من الموت في غزة، باستطيقيا فنّية تماهي مناخ الخراب المعاصر.
في الوسط، تقف فتاة شقراء داخل خزانة مفتوحة، غير آبهةٍ بالشريط الفاصل الذي يمنعها من تجاوز الفسحة الضيقة التي تقبع فيها. على جانبيها، من اليمين واليسار، هناك عاملان يشتغلان في المجسّم الذي نقول إنه خزانة. بيدِ أحدهما مثقاب كهربائي يفكّ به المسامير المغروسة في السقف الخشبي للخزانة، وبضعة أحجار تصلح للبناء موجودة بالقرب منه. العامل الثاني غير مرئي، درفة الباب الذي يفتحه على مصراعَيه تغطّي وجهه. وعلى عكس زميله الأول، لا من حيث التغييب فحسب، بل من ناحية الهدم أيضاً، لا أحجار بناء في المساحات القريبة منه بل ثقوب وفراغات مزروعة في الجدار وراءه. ما إن فُتح باب الخزانة حتى ظهرت الفتاة الشقراء بوضعية تتراوح بين الهدوء والتأهّب. إطلالة تُوحي بخشونة تمتاز بها مجنّدة عسكرية أكثر من سلاسة تشتهر بها عارضة الأزياء. فالشقراء تبدو غير مبالية بالمكان الذي كانت محشورة فيه، لم يؤثر فيها ضيق المساحة الصغيرة ولا عتمتها. وأمامنا، في الوسط أيضاً، لكن في المساحة الخارجية من الإطار، جثةٌ ملقاة على الأرض. الجثة مكبّلة بحبال، مكفّنة بكيسٍ بلاستيكيّ، ويدها نصف مرفوعة. حركة اليد المرفوعة هذه ستجعلنا نشكّ في أنّ موتها طازج. نظنّ أن موتها المستجدّ ناجم إما بسبب تعذيب الشخص في خنقه حتى قتله، وإما من جرّاء انهيار سقف المبنى عليه. فالبياض الطاغي على المشهد يحرّك عند الناظر، في الوهلة الأولى، جلّ المشاعر التي تنتابه عندما يكون أمام ورشة إعمار. إنه ليس من الحماقة إذاً أن نضع لومنا على السقالة معتبرين إياها العنصرَ وراء الموت الحاصل في المشهد، ونغفل عن مرتكبي الجريمة. هذا ما يريده الوهم عندما يسطو على الحدس، وهو المراد من إعلان زارا أيضاً. إلى هنا، تكون مهمة سرد ما جاءت عليه الصورة قد انتهت.
دعنا الآن نتعامل مع المقطع السردي السابق بطريقة معكوسة. هناك جثة ممددة على الأرض، نكاد نشعر بأنها تتألم بالرغم من أنها ميتة لعدم قدرتها على الانفلات من الحبال الملفوفة على رجليها. يدها شبه المرفوعة توحي باستسلام صاحبها، ومن الممكن أن يكون قد حاول طلب النجدة. جثة يبدو صاحبها مقتولاً حديثاً. هناك عاملان، وهما موضع شبهة، ينهمكان في تفكيك مجسّم قلنا إنّه خزانة. وبفضلهما أُنجزت المهمة: يُفتح الباب أخيراً، وها هي الفتاة الشقراء تظهر. ألم تكتمل القصة بعد؟
في إعلان زارا الأخير، تنزاح الكلمات عن الأشياء. الفوتوغرافيا بعيدة عن المحاكاة والتقليد وغارقة في تصميم الاستعارة وبث الإيحاء. نحن أمام صورة فوتوغرافية تشترط علينا قراءتَها بمسار يعاكس كتابتها. قراءة توازي عملية تقشير وتمزيق أوراق الزينة التي تغلّف الهدية وتحجبها، تماماً كما يبدو العاملان في الصورة فاعلين. الصورة بشكلها الأفقي تصبو إلى إظهار العاملين منهمكين في مهمةٍ يحاصرها الخطر وحسّ التهديد. هما متورطان في تفتيت الحواجز بالرغم من الخلاء المهيب الذي يخيّم على «الخارج»، وفضاءات البياض الباردة في «الداخل». العاملان بصدد فكفكة الخزانة، يعمدان إلى كشف المخبوء فيها، وعند فتحها، سرعان ما سيجدان الهدية في داخلها: سترة جلد سوداء. يأتي إعلان زارا كتسويق لمجموعة الثياب الشتوية الصادرة حديثاً، وتبتغي تصوير منتجها الجديد، سترة الجلد السوداء، على أنها سدٌّ منيعٌ أمام الصقيع، والموت، ومواقف مقلقة غير مألوفة قد تواجه من يرتديها. فالشتاء مجاز جميل للدلالة على الحرب، فكيف إذا كانت المجازر هي حقيقة هذا الشتاء؟
في مشهدٍ زائف يطوف على سطح الصورة، نرى العاملَين منكبّين على إزالة الحاجب الذي يخبئ هديتهما الشتوية. عندما نشكّ في براءة العاملين، وننظر إلى الجثة المتروكة في الوسط باعتبارها مركز الصورة وليست الشقراء التي تقف منتصبة مستقيمة، فسوف ندرك أن البياض الطاغي هو أبيض التخفّي لا أبيض البراءة، وأنّ ثمة حركة مخفية تخبئها الصورة عنا، غير كشفِ العاملين للمخبوء الذي يتجلّى على هيئة فتاة شقراء ترتدي سترة جلد سوداء. هذا يعني، أننا أمام مشهد يتشكل كالآتي: المبنى أمامنا بتشققِ جدرانه وتوافر الحطام وتبعثر العناصر، يشبه إلى حدّ بعيد مباني المدارس والمستشفيات - وخصوصاً غرف العمليات والطوارئ - الموجودة في غزة. الجثة المستلقية على الأرض مربوطة بحبالٍ، وفي ربطها هذا ما يحيل إلى أثر الثأر والانتقام. يبدو أن الجثة المقتولة كانت تحرس ما نقول إنه خزانة، ويبدو أن العاملَين في الصورة، في إنجازهما مهمتهما، قد بدّلا المشهد رأساً على عقب: عوضاً عن أن يكون الحارس على الخزانة هو من يحشر خصمه ويزجّه في مساحةٍ لا تتعدى السنتيمترات القليلة، بات جثة هامدة مقتولة ومربوطة بحبالٍ سميكة. العاملان إذاً هما جنديان، يفتحان باب الخزانة وإذا بالفتاة الشقراء تظهر. هل هي بطلة؟ هل هي رهينة جرى تحريرها؟ هل هي صورة فانتازية جليلة ترمز إلى البطولة والأمل والصمود وسط هذا الشتاء القاسي، وتقدّم إلى «مواطني» زارا بمثابة هدية؟
إذا ما اتفقنا على أن الموضة هي إدلاء بموقفٍ وارتداء هوية وليست فقط مجرد لباس، فإن البحث يشترط عندها أن نقرأ سيناريو الإعلان بطريقة مقلوبة عمّا كتب فيها. قراءة تبتغي قشط الزيف عن الطبقات السميكة التي تغلّف المعنى وتحجبه. ليس إعلان زارا الأخير احتفاءً بالجثث المقتولة أو تدنيساً للمكفَّن. هو مداعبة للرغبة ومدّها بمثل عليا ترمز إلى البطولة والثبات والصلابة، والاقتداء به يقتضي شراء سترة جلد سوداء خرجت من المصنع حديثاً. سترة الجلد السوداء هنا لا تقي من الرياح القوية ومياه الأمطار الغزيرة فقط، وإنّما تجعل مرتديها لا يهتزّ، ولا يرتجف إزاء مواقف تخيّم عليها الحرب، وشبحية القتل، والتهديد بالخطف الذي يمتهن «الإرهابيون» فعله. لكن ما هو الفرق بين الخزانة والقبر؟ أليست لعبة الأطفال الصغار المفضّلة هي الاختباء في الخزانة وتمثيل الاختفاء، وإجبارنا على التصديق بأنهم أصبحوا في جوف العدم؟ ألا يمكن لمن هم ليسوا «مواطني» زارا، فهم أنّ هناك هدية بالفعل، لكنّ الهدية هذه ليست وقفة ثابتة على أنقاض القتل بل إنها رائحة الموت التي تفوح من فضاء الخزانة - القبر؟
الأعمال الفنية مرايا تتقصّى أوجه الحاضر العديدة، وإشارات دالّة على ما سيجيء. عام 1967 بعد مرور عدّة أعوام على خروج الأزياء من الأناقة والرقيّ إلى ما بات يعرف بالصناعة السريعة الجاهزة وهي لحظة صعود الموضة وبروزها، صرّح المصمم الفرنسي إيف سان لوران في ذلك العام: «يسقط الريتز، ويحيا الشارع». يومها كان سان لوران يصنّع ثياباً «حديثة» تتناسب مع شكل الحقبة وتطلعاتها، ويدعو الناس إلى أن يتعاملوا مع الشارع كمنصة لعرض الأزياء. لكن بعدها بعام واحد، كان أيار 1968 والباقي تفاصيل. في الستينيات نفسها، أقام مصمم أزياء عرضاً تحت عنوان «ثياب المستقبل». لباس العارضين آنذاك نبوءة متحققة لما صارت عليه أزياء نخب سيليكون فالي والمهجوسين بالتكنولوجيا.
ثمة نزعة عدمية هائمة تأصلت في السنوات العشر من الألفية الثانية ولا تكفّ عن مطاردتنا، ولا تلبث زارا تذكّرنا بأن هذه العدمية هي تحديداً روح هذا العصر. وزارا التي تستعين بمصممين ينسخون أزياء صمّمتها ماركات أخرى ثم يصنعونها بجودة أقل، أو يعيدون إنتاج أزياء كانت في ما سبق رائجة، هي دائمة التركيز على صناعة تلك الأزياء التي تدلّ على أجواء القنوط، والحنق، والجنازة. إذا ما تتبّعنا صيحات الـ«غوثيك» والـ«إيمو» وغيرها من الأشكال العدمية التي ذاعت، ننتبه إلى أن تلك الموجات لم تكن فقط نتاج موسيقى كانت «عصرية»، بل إن زارا كانت الرحم الذي انبثقت تلك الصيحات منه.
على أنّ حاضرنا اليوم مكتنز بحروبٍ، وإبادة، واستباحة الآخر تماماً مثلما كانت الأحوال في العصور الرومانية القديمة. لا يتوانى الموت عن إظهار نفسه مثلما لا يتردد القتل على الاعتراف بشهيّته. هذا حسّ عام نشترك فيه مع القدماء. تلك الفتاة الشقراء الظاهرة في إعلان زارا الأخير، كأنها بوقفتها وصلابتها، قادمة من العهد العدمي الروماني، من ذاك الفضاء الذي ينذر بالموت، والقتل، وسياقات القسوة. سترة الجلد السوداء التي ترتديها، تبدو عن بعيد، أشبه بذلك الدرع الواقي من ضربات الرماح والسيوف. العاملان اللذان يفتحان هديتهما، هما بالمبدأ، جنديان «خادمان»، يمهّدان الطريق أمام ملمحٍ باهت اللون، ليس لأن صاحبة الملمح مريضة بل لأن عروقها جافّة تحتاج لكي تستعيد لونها إلى إراقة الدماء وإزهاق الكثير من الأرواح.
كل هذا يجري في غزّة، في المخيّلة الصهيونية التي تهلوس جرّاء خللٍ أصابها، جعلها تتصور نفسها على صورة البطل المارد ومثاله. أو ربما، أنها هدية يقدّمها جيش الاحتلال وحلفاؤه لـ«مواطني» زارا: سترة جلد سوداء تشبه رداء سوبرمان الذي فور ارتدائه يجعله يطير. العاملان المتورطان بجريمة قتلٍ يزيلان إذاً الغطاء عن الهدية الموجودة في مبنى ما في غزة. ونحن بدورنا نشكر غزة على هديتها المقدّمة لنا، في جعلنا نرى، من خلالها، أنّ الموت، والانحطاط، والعدمية الذائعة، هي الهدية التي يقدّمها العالم لنا.