أدوات القوة التقليدية لم تعد تسمح بالسيطرة على العالم الجنوب «الضعيف» بات يتحكّم في الأجندة الدولية
تريد واشنطن اليوم قتل العولمة وهي وليدتها


المقاربات السائدة للعلاقات الدولية وللوضع الدولي، مهما كانت الانحيازات الأيديولوجية والسياسية لأصحابها، تنطلق عادة من تحليل استراتيجيات القوى العظمى وقدراتها على وضعها موضع التنفيذ وانعكاساتها على بقاع مختلفة من العالم والتفاعلات التي ستفضي إليها مع اللاعبين المحليين والإقليميين. هذه المقاربات تتعرض لتحديات كثيرة عند خضوعها لامتحان واقع دولي من صفاته الجديدة تراجع قدرة القوى الغربية المهيمنة سابقاً على السيطرة وعجز القوى الدولية الصاعدة عن الحلول مكانها. هذه الحقيقة التي تؤكدها تطورات يومية، شجعت بعض المفكرين على بلورة قراءات جديدة لهذا الواقع من منظور يقطع مع المركزية الأوروبية التي نشأت نظرية العلاقات الدولية في سياقها. أحد أول وأبرز هؤلاء هو عالم السياسة الفرنسي، ذو الأصول الإيرانية، برتران بادي. كان بادي قبل تقاعده، أخيراً، من كبار أساتذة «معهد العلوم السياسية» في باريس، ومن رموز المدرسة الفرنسية في العلاقات الدولية، أوصلته مسيرته الفكرية إلى إعادة النظر في ثوابت أساسية في هذه النظرية، وإلى تقديم قراءة جديدة منفتحة على رؤى وتطلعات شعوب الجنوب. لبادي مؤلفات كثيرة، منها: «الدولة المستوردة»، «عجز القوة»، «زمن المهانين»، «لم نعد وحدنا في العالم»، وكتابه الأخير «عندما يعيد الجنوب صياغة العالم».
تتحوّل العلاقات الدولية والنظام الدولي نفسه بفعل ديناميات انطلقت في الجنوب. فهم هذه الديناميات يتطلب برأي برتران بادي النظر إلى العالم «بعيون الجنوب»: «في مساهماتي الأخيرة، وتحديداً في كتابي الأخير، عندما يعيد الجنوب صياغة العالم، هناك منظور ثابت هو نتاج لرغبة في النظر إلى أحوال العالم من الجنوب، عكس المقاربات السائدة التي تنطلق دائماً من منظور الشمال وخياراته واستراتيجياته.
عندما نحاول فهم العالم من الجنوب، نكتشف ديناميات لا تظهر للعيان في القراءات التقليدية السائدة. أولى هذه الديناميات هي تغيّر الأجندة الدولية. لقد اعتقدنا دائماً في عالم القوى المسيطرة القديمة أن الأجندة الدولية يحددها باستمرار من يمتلك القوة، أي إن الأقوياء هم من ينظمون جدول الأعمال اليومي للحياة الدولية. لكننا نكتشف، إذا انتقلنا إلى منظور مختلف، أن الأجندة الدولية، منذ فترة ليست بقصيرة، بدأت على الأقل منذ انهيار جدار برلين، باتت أكثر ارتباطاً بديناميات قادمة من الجنوب، أكانت صراعات تدور في الجنوب أم تحديات دولية برزت كنتاج للظروف الاجتماعية والسياسية لدولة أو أحداث اتسقت وتيرتها مع محاولات هذه الدول لتحقيق برامجها وإخفاقها في ذلك. إذا أردنا الاختصار، نستطيع القول إن التراكم الكبير للقوة في العالم أدى أيضاً إلى تراكم كبير للضعف بات يحكم الأحداث العالمية فيما يشبه انقلاباً للتاريخ».
وصول دونالد ترامب وفريقه إلى السلطة وعودة التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها، من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، لن يحددا وحدهما الأجندة الدولية. «ما حصل فعلاً منذ نهاية الثنائية القطبية هو انتقال الحرب من الشمال نحو الجنوب. استعرت الحروب والمواجهات في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط. لم نشهد سلاماً، بل ابتعاداً للحرب عن أوروبا، ساحتها التقليدية في القرنين الماضيين. ثانياً، هناك انبعاث للنزعة القومية في بلدان الشمال، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وأحد المفاعيل التقليدية للقومية في هذه البلدان هو الدفع نحو الحرب. لكن قراءة متأنية لهذا الانبعاث تظهر أنه لا يؤدي إلى تمحور الصراعات الدولية حوله. وعندما تريد قوى الشمال اللجوء إلى الحرب، تكون في الغالب معزولة على المستوى الدولي. لم يعد للولايات المتحدة أي قدرة على التحكم في الصراعات الدولية وهي، في الشرق الأوسط مثلاً، تعلن رغبتها في حل مشكلاته لكنها لا تعرف من أين تبدأ. هي أيضاً عاجزة في أفريقيا. صعود النزعة القومية في الشمال يتزامن مع إدراكنا لعجز قواه القديمة وعدم قدرتها على المبادرة على الساحة الدولية. قد تفضي هذه النزعة إلى تغذية التوترات والخلافات بين القوى الدولية القديمة وتلك الصاعدة، لكنها لن تمكن الأولى من استعادة موقعها الريادي في لعبة الصراعات الدولية. علينا أن لا ننسى أن السمة الرئيسية للحربين العالميتين في القرن العشرين هي احتفاظ القوى الغربية بموقعها الريادي في الصراعات، نتيجة قدرتها على تنظيمها وإدارتها.
اليوم، فقدت جميع القوى المذكورة القدرة على ذلك. تحاول روسيا القيام بهذا الدور في سوريا وهي تنجح جزئياً على المستوى العسكري، لكن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت ستستطيع أن توظف هذا النجاح لمصلحة حل سياسي نهائي للأزمة».
لكن ألا تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة هيمنتها العالمية عبر تصعيدها ضد الصين وروسيا؟ «بمعزل عن المواقف المعلنة والتقارير الاستراتيجية، لا تعرف الولايات المتحدة ما هي السياسة الأكثر فاعلية لمواجهة الصين التي استخلصت دروساً واضحة من إخفاقات القوى «الوستفالية»، التي سادت عالمياً في الحقبة السابقة، وهي لا تعتمد السياسات نفسها. استفادت الصين، وما زالت تستفيد، بطريقة خلاقة من العولمة لتوسيع دوائر نفوذها وأسواقها وتنويع مصادر تزويدها بالطاقة، من دون أن تتسبب حيويتها الدولية العالية بتورطها في أبرز الصراعات التي يشهدها الكوكب.
فعلى الرغم من قوتها العسكرية المتنامية، هي تتجاهل عملياً حروب الشرق الأوسط وأفريقيا، وتتجنب الصدام مع القوى الكبرى، ولا تزال تعطي الأولوية للمساهمة في ديناميات العولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذه السياسة هي تغيير متميز في المنهج، إن صح التعبير، الذي اتبع من القوى القديمة. المنطقة الوحيدة التي تضطر فيها الصين للعودة إلى لعبة القوى التقليدية هي آسيا الشرقية حيث هي مجبرة على التحرك كقطب إقليمي واستعراض قدراتها العسكرية، ما يسبب توترات في بحر الصين الجنوبي، ومع بعض دول جوارها. السياسة الأميركية، التي ما زالت تعتمد المنهجية التقليدية للتنافس بين القوى الدولية، هي عامل التوتير الرئيسي في هذه المنطقة، وتسعى لاستغلال الخلافات بين الصين وبعض دول جوارها، لكن هذه التوترات لا تحتل موقع الصدارة حالياً في الأجندة الدولية».
لتوصيف الوضع الدولي الراهن، كثر الحديث عن عالم اللاقطبية أو عن فوضى عالمية أو عدم استقرار دولي. اللاقطبية تحولت إلى سمة فعلية لهذا الوضع منذ بداية الألفية الثانية: «تحدثت مبكراً، قبل ريتشارد هاس، في كتابي (عجز القوة)، عن اللاقطبية، ولم أقتنع يوماً بمفهوم (القوة الخارقة) الأميركية (hyper puissance américaine) وبفرضية هيمنة القطب الواحد، لأن وجود أقطاب على المستوى الدولي كان ظاهرة استثنائية. قبل عام 1945، لم يكن هناك من أقطاب في تاريخ العلاقات الدولية. كانت القوى الكبرى تتنافس وتتصارع، لكن أياً منها لم يكن قطباً. القطب، وفقاً للتعريف، هو الدولة القادرة على جذب آخرين وقيادتهم.
أصبح اليوم من الصعب جداً معرفة من هي الدول القادرة على القيادة، لأن مجموعة من الدول الصاعدة دخلت إلى المسرح الدولي إلى جانب القوى القديمة، ما زاد من تعقيد اللعبة الدولية. قدرة الجذب لدى القوى القديمة ضعفت من جهة أخرى. كان للولايات المتحدة قدرة جذب خلال الحرب الباردة، لأنها كانت الطرف الوحيد المؤهل لحماية الأوروبيين من التهديد السوفياتي. عند نهاية التهديد الذي يمثله معسكر منتظم حول قطب، تنعدم الحاجة إلى الحماية أو تتحلل تدريجياً. التهديدات التي يتعرض لها العالم اليوم متشعبة ومتداخلة ومتغيرة، ولا يتحمل معسكر بعينه المسؤولية عنها، ما يمنع الاعتماد على دولة واحدة للحصول على الحماية. وبعد وصول ترامب إلى السلطة، يرى الكثيرون في أوروبا أن أحد التهديدات المحتملة بالنسبة إليها هو الولايات المتحدة. إذا اعتمدنا تحليلاً كلاسيكياً، بإمكاننا القول إننا عدنا إلى لعبة التنافس التقليدية بين قوى كبرى غير منتظمة حول أقطاب، لكن هذا التحليل غير كاف، لأن العنصر الجديد في العلاقات الدولية هو الدور المستجد والمركزي الذي تلعبه المجتمعات والاقتصادات على المستوى الدولي، والذي يوازي من حيث أهميته دور الدول، وأحياناً يفوقه أهمية. فرضية إعادة تنظيم العالم حول الدول وحدها غدت مستحيلة. عنصر آخر يضيف إلى تعقيد المشهد الدولي هو أن تأثير (الضعف) على واقعه وتحولاته، يفوق أحياناً تأثير القوة. إذا انطلقنا من هذه الوقائع، تنتفي إمكانية تحليل الوضع الدولي انطلاقاً من نظرية الأقطاب. المنظور الذي حاولت تقديمه في مساهماتي ينطلق من فرضية أن الضعف ومخاطر التفكك الاجتماعي والسياسي تلعب دوراً حاسماً في بلورة الأجندة الدولية».
اليوم من الصعب جداً معرفة من هي الدول القادرة على القيادة


التفاعل بين عاملين أوصل الوضع الدولي إلى هذه الحال. «لقد برهنت التطورات في العقدين الأخيرين أن أدوات القوة الكلاسيكية، العسكرية والسياسية والدبلوماسية، تفقد من فاعليتها في إعادة تنظيم المشهد الدولي وفي السيطرة على الصراعات والتحكم في مآلاتها. هذا المعطى فرض نفسه منذ حروب التحرر الوطني. لقد أبرزت هذه الحروب للمرة الأولى مدى عجز القوى الاستعمارية. لقد هزمت فرنسا في معركة «ديان بيان فو»، وكذلك الولايات المتحدة في فيتنام. عامل آخر ظهر تأثيره بعد ذلك، وكرست كتابي الأخير لدراسته، و هو ذلك المرتبط بتراكم الضعف في الجنوب نتيجة سياسات القوة وتداعياتها. إخفاق عمليات التحرر الوطني في تحقيق غاياتها النهائية ونشوء دول هشة ومتداعية لا تؤدي وظائف الدولة المتعارف عليها وفشل محاولات الاندماج الوطني والاجتماعي، هي سمات مشتركة للأسف بين قسم كبير من بلدان الجنوب. لقد أحسن بعض اللاعبين في الجنوب الاستفادة من هذا الضعف لفرض وجودهم على الخارطة والتعبير سياسياً عنه، واستخدام شتى السبل والوسائل الاحتجاجية، بما فيها سلاح الضعفاء، وهو الإرهاب، ضد القوى الكبرى القديمة. القدرة الرادعة لسلاح الأقوياء محدودة جداً، بينما سلاح الضعفاء نجح في إرباك، وحتى في بعض الحالات تعطيل، قدرة النظام الدولي على فرض سياساته. الضعف يكتب التاريخ ويعيد تعريف ساحات المعركة في اللعبة الدولية».
يجزم برتران بادي بأن عدم فهم النخب الغربية للطبيعة المركبة لمسار العولمة وإمكانية استخدامه كرافعة من قبل أطراف غير غربية، يفسران بداية ضمور نفوذ الغرب. «لقد خابت آمال قطاعات واسعة من النخب السياسية الغربية من إمكانية أن تعزز وتجدد العولمة الهيمنة الغربية على العالم. سمحت العولمة بصعود قوى دولية جديدة، أهمها الصين، وأضرّت أحياناً بالمصالح الوطنية للدول الغربية. هذا ما يفسر ازدهار التيارات القومية فيها، وشروع الولايات المتحدة بقيادة ترامب في قتل وليدها، وهو العولمة، التي كانت في مراحلها الأولى مستحيلة من دون الهيمنة الأميركية، لكن الكتل الاجتماعية التي صوّتت لترامب تعتبرها اليوم تهديداً لمصالحها الحيوية».