بوتيرة متسارعة تواصل «الحركة الجهاديّة التركستانيّة» إعادة ترتيب أوراقها. وتشير معطياتٌ جديدة إلى أنّ القرار اتخذ بإغلاق باب «النفير التركستاني» إلى سوريا، وصرف الاهتمام إلى الاستعداد لـ«الجهاد ضدّ البوذيين». ولا يعني هذا حثّ «الجهاديين» الأويغور على مغادرة سوريا سريعاً، بل يحرص على توزيع الجهود على مسارين: أولهما مواصلة «المهمّة الشاميّة» إلى أن تتغيّر المعطيات الإقليميّة مع الاكتفاء بـ«الجهاديين» الأويغور الموجودين في سوريا لتحقيق هذه الغاية، بالتوازي مع رفد صفوف «الحزب الإسلامي» بمقاتلين من جنسيات مختلفة أخرى. أما المسار الثاني فيختص بالاستعداد لمرحلة «ما بعد سوريا».


«فرزٌ جهادي»
بدءاً من النصف الثاني من العام الماضي، بات جليّاً أنّ بعض الأصابع المؤثّرة في مسارات الحركات «الجهاديّة» قد دشّنت حقبةً جديدة في مسار «الجهاديين الأويغور» وحاضنهم الأساسي «الحزب الإسلامي التركستاني» (راجع «الأخبار»، 17 تموز 2017). وتؤكّد المعطيات المتتالية وجود حرص استخباريّ (تركي/ أميركي) على الحفاظ على ورقة «الجهاد التركستاني» وتجنيبها الاحتراق الكليّ في نيران المشهد السوري.

تستعد «الحركة الجهاديّة التركستانيّة» للعب دور يتجاوز المشهد السوري (مجلة تركستان الاسلامية)

ورغم أنّ التجهيز لاستغلال هذه الورقة في مرحلة «ما بعد سوريا» كان قد انطلق في معسكرات «التركستان» منذ قرابة عام، فإنّ المسار الذي سلكه هذا التجهيز توخّى في الوقت نفسه عدم خسارة الثقل «الجهادي» التركستاني في سوريا قبل أن تحين اللحظة المناسبة. في الشهرين الأخيرين من العام الماضي، دارت عجلة «الفرز الجهادي» لتقسم كوادر «التركستان» إلى قسمين أساسيين: أوّلهما مؤهّل للخروج من المشهد السوري استعداداً لما بعده، وثانيهما مكرّس لمواصلة المهمّة «السوريّة» حتى نهايتها. ونقلت «الأخبار» في مطلع تشرين الثاني الماضي عن مصادر «جهادية» موثوقة تأكيدها أنّ «الحزب التركستاني بدأ أخيراً بتسجيل أسماء بعض الشبان الأويغور الراغبين في مغادرة سوريا نهائياً والانتقال إلى الجهاد في بلدان أخرى». وفي خلال الشهور الستّة المنصرمة اتّضحت الصورة أكثر، وتبيّن أنّ المرحلة الراهنة قد خُصّصت لدخول «الحزب الإسلامي التركستاني» على خطّ «عولمة الجهاد»، والعمل على استثمار الساحة السوريّة إعلاميّاً لاجتذاب كوادر «جهاديّين» من غير أبناء العرق الأويغوري، في خطوةٍ تمثّل سابقةً في سجل «الحزب» المتطرّف («الأخبار»، 23 أيار 2018). في الوقت نفسه أظهرت الأذرع الإعلاميّة لـ«التركستاني» اهتماماً بالعناصر «الجهاديّين» السوريّين، وحرصت على إيلاء «الأنصار» اهتماماً خاصّاً، في ما يبدو خطوة لسدّ الفراغ الذي سيخلّفه «الجهاديون الأويغور» المغادرون لسوريا.

«الفتوى» تبحث عن حل وسط
أفرزت التحوّلات الجديدة تخبّطاً لدى بعض كوادر «التركستاني» وانقساماً في آراء حاضنته الشعبيّة بين أولويات «الجهاد» في المرحلة الراهنة، ما بين قائل بوجوب التمسّك بـ«الجهاد الشامي» ومواصلة «الهجرة» نحو سوريا، ومؤكّد ضرورة الالتفات إلى «مجاهدة العدو القريب» (في إشارة إلى الصين). أخيراً، دخلت «الفتوى» على الخط، وحرصت على إمساك العصا من المنتصف. وخصّصت مجلّة «تركستان الإسلاميّة»، التي يُصدرها «التركستاني»، ثلاث صفحات من عددها الأخير الصادر في شهر رمضان (حمل الرقم 23) لمناقشة هذه المسألة «شرعيّاً» تحت عنوان «في أي ثغر يجاهد التركستان؟». استُهلّت «الفتوى» التي خطّها «الشيخ أبو عبد الرحمن الشامي» بالتأكيد أنّ «الواجب أن يقاتل أهل كل دارٍ من يليهم (أي الأقرب إليهم) من العدو الصائل». لكنّ الشامي لم يُغلق الباب نهائيّاً أمام الآراء الأخرى، فأشار إلى وجود «استثناءات» تفرضها المعطيات «الجهاديّة» بشكل عام، من دون أن يعدم «الأدلّة الشرعيّة» التي تؤكّد «صواب» كلّ من الموقفين المتناقضين. شدّدت «الفتوى» على وجوب «إتمام الجهاد في الشام حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً»، مبيحةً في الوقت نفسه لمن لم «يهاجر» بعد أن يبقى في بلاده استعداداً لـ«مجاهدة العدو القريب». الخلاصة التي حاولت «الفتوى» الخروج بها تتمحور حول تخيير الأويغور المقيمين في الصين بين «النفير» إلى الشام، أو الاستعداد لـ«الجهاد» في بلادهم متى دقّت ساعته.
دخل أبو ذر عزّام على خط «الجهاد التركستاني» بشكل علنيّ

أما الموجودون في سوريا حتى الآن، فقد حرصت «الفتوى» على تأكيد وجوب التزامهم قرار «أمراء الجماعة» في شأن «الثغور» وأولوياتها، مع التركيز على تحريم «التحوّل من ثغر إلى ثغر من دون إذن الأمير». وتُشكّل هذه «الفتوى» سابقة من نوعها في مسار «الحزب التركستاني»؛ فطوال الأعوام الخمسة الماضية كان التنظيم المتطرف وداعموه قد حرصوا على الترويج لـ«الهجرة إلى الشام» بوصفها أولوية «شرعيّة» وواجباً «جهاديّاً» مُقدّماً على ما سواه. اللافت أن مجلّة «تركستان الإسلاميّة» لم تكشف بوضوح شخصيّة «المفتي» الذي اعتمدته واكتفت باسمه الحركي. وتنبع أهميّة هذا التفصيل من وجود شخصيّات «شرعيّة» عدة تحمل لقب «أبو عبد الرحمن الشامي»، ويبرز من تلك الشخصيات اثنتان على طرفي نقيض: د. مظهر الويس المحسوب على «هيئة تحرير الشام/ النصرة» ويرجّح أنه صاحب «الفتوى»، أما الشخصية الثانية فمجهولة الهوية ويُعرف صاحبها أيضاً باسم «أبو عبد الرحمن الزرقاوي» وهو أحد «شرعيي» تنظيم «داعش».

أبو ذر عزّام على الخط
قبل أيام دخل أبو ذر عزّام على خط «الجهاد التركستاني» بشكل علنيّ. أصدر «الجهادي» المعروف تسجيلاً صوتيّاً بمناسبة عيد الفطر حمل عنوان «أدركوا تركستان قبل فوات الأوان». وحرص التسجيل (مدّته ربع ساعة) على التذكير بتاريخ الإسلام في تركستان، قبل أن يعرّج على «مظلومية تركستان» بشطريها الغربي (على أيدي الروس) والشرقي (على أيدي الصينيين)، مع إيلاء الحيّز الأكبر لتركستان الشرقيّة وتاريخ «الظلم الصيني لأبنائها». وجرياً على العادة، أفرد أبو ذر حيّزاً للحديث عن «اغتصاب المسلمات في تركستان، وحبس الرجال وإجبار المسلمين على ارتكاب المحرّمات من أكل للخنزير وغير ذلك»، مشيراً إلى أنّ تلك الإجراءات ليست سوى برهانٍ على «تحدّي الشيوعيين لله، فأين الإسلام وأهله؟ وا إسلاماه... وا إسلاماه». ودعا أبو ذر المسلمين إلى «مقاطعة الصين تجاريّاً»، وأكّد ضرورة قيام «العلماء وأئمة المساجد والخطباء والأمراء والمعلمين والمفكرين والصحافيين بأدوارهم». وانتهى التسجيل بتوجيه خطاب خاص إلى «المجاهدين» جاء فيه «أنتم تيجان الرؤوس، (...) بكم تسد الثغور وتحفظ الأراضي والأعراض (...) من لنا وللأمة غيركم بعد الله؟». ودعا هؤلاء إلى «إشباع الصين وجعاً (...) هؤلاء الذين يلعبون بنا وبأعراضنا وبأخواتنا وأبنائنا وبناتنا، لكم أهداف هامة، فلتكن الصين أيضاً في أهدافكم أيها الإخوة (...) وانصروا إخوانكم في تركستان وفي كل مكان، وقوموا بعمليات نوعيّة داخل الصين وأجركم على الله».

أفرزت التحوّلات الجديدة تخبّطاً لدى بعض كوادر «التركستاني» (مجلة تركستان الإسلامية)

لا يقتصر نشاط أبو ذر عزّام على الخطاب التعبوي أعلاه. والواقع أن الخطاب المذكور ليس سوى بداية المسار «التعبوي» المعلن، بغية استقطاب كوادر «جهاديّين» جاهزين للانخراط في «الجهاد» في الصين وسائر شرق آسيا. وتؤكّد مصادر «جهاديّة» لـ«الأخبار» أنّ «أمراء الحزب التركستاني في سوريا قد استقبلوا في الشهور الثلاثة الأخيرة مبعوثاً جهادياً قادماً من أفغانستان، في زيارتين فصلت بينهما خمسة أسابيع». المبعوث المذكور باكستاني الجنسيّة، وقد غادر سوريا قبل أسبوعين بعد أن «مكث في إحدى قرى جبل الزاوية (ريف إدلب) مدّة يومين، عقد في خلالهما ثلاثة اجتماعات: اثنان مع قياديين في (النصرة)، وثالثٌ مع مجموعة قادة ميدانيين من (الحزب الإسلامي التركستاني) استمرّ قرابة خمس ساعات» وفقاً للمصادر نفسها. ولم تتوافر معلومات دقيقة حول الأسباب المهمّة وراء زيارتَي المبعوث المتتاليتين، غير أنّ أحد المصادر «الجهادية» الذي نقل هذه المعلومات إلى «الأخبار» أشار إلى مجموعة معطيات قد تكون مفيدة في تخمين الهدف. يؤكد المصدر أنّ «أمراء التركستاني في إدلب لم يستقبلوا مبعوثاً بهذا المستوى سوى مرة وحيدة، قبل حوالى ثلاثة أعوام». ويوضح المصدر أنّ توقيت هذه الزيارة جاء بعد أقل من أسبوعين على وضع الخطوط العريضة لتشكيل «مجلس أعلى لتنسيق الجهاد ضد البوذيين» في أفغانستان. ومن المتوقّع أن يُسمى المجلس المذكور بـ«الحركة الإسلاميّة للجهاد ضدّ البوذيين». وأشار المصدر إلى دور أساسي لـ«الجهادي» المعروف أبو ذر عزّام في تشكيل هذا المجلس. ويُعرف أبو ذر أيضاً باسم أبو ذر الباكستاني، وأبو ذر البورمي، وينتمي إلى العرق الروهينغي. وكان قبل سنوات المتحدث باسم «الحركة الإسلاميّة في أوزبكستان». جاء أبو ذر إلى سوريا في عام 2014 وانضم إلى صفوف تنظيم «داعش»، لكنّه انفصل عن التنظيم وغادر مناطق سيطرته سرّاً في النصف الثاني من عام 2016، ثم أعلن تبرّؤه منه. وتؤكد المصادر أن أبو ذر «حصل على دعم مباشر من أمراء حركة طالبان وزعماء تنظيم القاعدة لتشكيل المجلس الجديد، والذي سيتصدى لمهمة التنسيق بين الجهاديين التركستان والأوزبك وسائر جهاديي آسيا، بهدف وضع خطط للجهاد ضد البوذيين في كل مكان».