نهاية آذار الماضي، زار الرئيس نبيه بري العراق. قبل سفره، عُقد اجتماع، ظل بعيداً عن الاعلام، بينه وبين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، جرى خلاله البحث في دور يمكن لرئيس المجلس أن يلعبه مع القوى والشخصيات العراقية عموماً، ومع «أركان البيت الشيعي»، كما يحلو للعراقيين توصيف قواهم السياسية ذات القواعد الطائفية.وانطلاقاً من دوره المحوري في الملف الاقليمي، ولا سيما العراقي منه، أطلع السيد نصر الله الرئيس بري على تفاصيل مهمة وحسّاسة حول الواقع السياسي العراقي ومستوى التقاطعات القائمة مع الوضع في الاقليم. واتفق الرجلان على وجهة مفتاحية، انطلاقاً من تجربة لبنان، السياسية الداخلية منها أو في ما يتعلق بالعلاقة مع الجوار ودول الاقليم. واتفقا على أهمية الاستفادة من تجربة المصالحة والتحالف بين حركة أمل وحزب الله، ودعوة العراقيين، لا سيما القوى الشيعية، الى التعامل معها كنموذج قابل للأخذ به لمنع الانقسامات الحادة والخلافات المدمرة، والمحافظة على كل تنوع وتمايز خاص، وكذلك الاستفادة من تجربة هذا الثنائي في التعامل مع بقية المكوّنات السياسية في البلاد، خصوصاً أن العراق يعيش اليوم ظروفاً مشابهة للانقسامات اللبنانية، على خلفية طائفية ومذهبية.
بعد عودته الى بيروت، لم يكن الرئيس بري أقل قلقاً، بعدما لمس مستوى التوتر القوي بين القوى السياسية الشيعية، والذي يخفي انقسامات واختلافات تحتاج الى علاج مكثف وسريع. وهو أبدى استعداداً للعب أي دور ممكن للمساعدة في التوفيق بين المتخاصمين، معوّلاً على معرفة جيدة بالوضع العراقي نتيجة نقاشات سابقة مع عدد غير قليل من المسؤولين العراقيين، إضافة الى هوامشه التي تتيح له لعب دور مع دول الاقليم، ولا سيما إيران.
ما يجري اليوم في العراق يعيد الى الاذهان صورة القلق التي تكوّنت لدى الرئيس بري، والموجودة أصلا لدى قيادة حزب الله، وغالبية دول وقوى محور المقاومة في المنطقة، خصوصاً أن للعراق موقعه الاستراتيجي في المواجهة القائمة مع المحور الذي تقوده أميركا والسعودية وإسرائيل. وما يزيد من هذا القلق هو ما يغلب على هواجس القادة العراقيين وحساباتهم وتقديمهم التنافس في ما بينهم على السلطة ومراكز النفوذ في الدولة، فيما لا يجري التوافق إلا نادراً على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويبدو ان الوضع اليوم «شديد الحساسية» وينذر بـ«احتمالات قاسية إذا لم يتم إيجاد آلية لتنظيم الخلافات في الايام القليلة المقبلة، حيث يتصرف الجميع على أنهم أمام هدنة مرتبطة بمناسبة إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين التي تتحول الى مناسبة عامة في العراق». هذا ما يقوله معنيون مباشرة بالاتصالات الجارية. ويوافقون على تقدير جهات محايدة، بأن «القوى الشيعية على وجه الخصوص، لا تتصرف بمسؤولية كبيرة في هذه المرحلة، ولا تدرك أنها الآن الجهة الحاكمة في العراق أو الأكثر نفوذاً، وأن الخلافات القائمة في ما بينها من شأنها فتح الباب أمام حالة من الفوضى تشبه الحروب الاهلية، يكرر العراقيون فيها أخطاء ما هو قائم في دول المنطقة العربية، وغالباً ما تنتهي من دون رابح، بل يكون المستفيد الوحيد فيها من خارج دائرة المتنافسين، بمعزل عن كل اتهام لهذا الطرف أو ذاك بالتعاون مع الخارج. وهذه الفوضى ستؤذي كل العراقيين وليس الشيعة فحسب، خصوصاً أن القوى المعارضة للحكم الحالي تلجأ الى استخدام كل ما تصل اليه يدها لزرع الفوضى، وغايتها لا تتصل بالداخل العراقي، بقدر ما تتصل بصراعات المنطقة والمحاور. كما أن خصوم إيران والحكم العراقي لا يوفرون استخدام قواعد شعبية واجتماعية تتأثر بقيادات وكوادر من حزب البعث، كأداة للانتقام من الخصوم لا أكثر».
كلما استغرق القائمون على الملف في سياسة الانكار، كلما تعمقت الازمة


في حالة القوى الشيعية، هناك وقائع باتت واضحة لكنها قاسية على الجميع. وكلما استغرق القائمون على الملف في سياسة الإنكار، تعمّقت الأزمة. فحال القوى الاساسية ليست جيدة على الإطلاق؛ فحزب الدعوة يواجه مشكلة كبيرة، على صعيد الفكرة والبرنامج والتنظيم والهيئات القيادية، وسط إصرار من قياداته على البقاء في المربع نفسه، متجاهلة أن تجربة 15 سنة من النفوذ الأكبر داخل مؤسسات الدولة، تسبّبت في أزمات كبيرة للبلاد، وجعلت الدعوة الى إقصاء الحزب عن السلطة مطلباً عاماً، وتحول الرجل القوي في الحزب، نوري المالكي، الى عنصر خلاف على صعيد العراق ككل وليس فقط عند الشيعة؛ وحيدر العبادي لا يريد الإقرار بأنه لم يعد مؤهلاً لادّعاء لعب دور محوري؛ وعمار الحكيم يغرق في سياسة انتهازية مكشوفة، فيتنقل بين الغرف عارضاً خدماته على الجميع، في وقت تتآكل قاعدته الشعبية، ويخسر هو عنصر الثقة من القوى الداخلية وحتى من قبل القوى الاقليمية، ووصل به الأمر الى حد أن إيران وقوى محور المقاومة لا تجد فيه شريكاً جدياً، بينما يئس منه الطرف الآخر لعدم قدرته على إحداث تغيير جدي.
على أن الجميع يتوقف عند الحالة الخاصة بالسيد مقتدى الصدر، وارث أكبر تيار جماهيري عند الشيعة في مرحلة ما بعد الاحتلال الاميركي. وهو تيار معقد من كل النواحي التنظيمية والسياسية وحتى الفكرية، إذ ليست فيه مؤسسة وآليات لإنتاج قرار ووجهة. وحاله رهن ما يقرره الزعيم الأوحد، الذي يخسر مع الوقت كل الكوادر المفيدين. لكن الخطير، أن واقع التيار الصدري اليوم يسمح لكل القوى المتنافسة في البلاد وخارجها باستخدامه في هذه المعركة أو تلك. وصار التيار جامعاً لكل أنواع المتناقضات على الصعيد السياسي، وصولاً الى تعاظم نفوذ «تيارات المرحلة السابقة» التي ترفع شعار «العراق أولاً»، وهدفها الفعلي ليس القطع مع محاور المنطقة، بل مواجهة ما تسميه «النفوذ الفارسي» في العراق.

المرجعية... آخر الحكام
في حالة القوى الشيعية المعنية اليوم بالتحديات الكبرى، تبقى المرجعية الدينية والسياسية في النجف، بقيادة السيد علي السيستاني، محط أنظار الجميع داخل العراق وخارجه. والكل مقتنع بأنها أمام التحدي الأكبر في واقع العراق. والجميع ينتظر منها تصرفاً مسؤولاً بطريقة لا تقل عمّا قامت به يوم اشتداد خطر تنظيم «داعش». لأنه في حالة العراق، اليوم، فإن ترك الأمور على ما هي عليه، واللجوء الى علاجات على شكل دعوات ونصائح، سيؤدي إلى انفلات هذه الامور حتى من يد المرجعية، وسيكون من الصعب عليها ضبط حراك القوى المتآلفة في الحكم، خصوصاً أنها الحاكم والحكم الآن، ولا يجرؤ أي طرف داخلي أو خارجي على مواجهتها، وتقع على عاتقها مسؤولية تنظيم حتى الاحتجاجات على السلطة القائمة، خصوصاً أن بعض الخارج يستهدف ضمناً المصالح الاستراتيجية التي تمثلها المرجعية. وهنا، يجب لفت الانتباه الى أن داعمي الحراك المعارض من خارج العراق، يتعاملون مع الذي يجري على أنه «ثورة عربية ضد الإسلام السياسي الشيعي وضد الاحتلال الفارسي». ولا يمكن للمرجعية حصر دورها واتصالاتها مع القوى الشيعية، بل تقع على عاتقها مسؤولية إدارة حوار منطقي وعادل مع سنّة العراق، الذين ارتفع منسوب الغضب لديهم جرّاء سياسة الإقصاء المنظمة التي قادها من تولى الحكم من شيعة العراق خلال السنوات الماضية، سيما أن السنّة اليوم يرون أن الفرصة مناسبة لخوض «معركة استعادة الحقوق» داخل الدولة وداخل دائرة القرار السياسي، بعدما تعرضوا للاستبعاد تارة بذريعة حل الجيش وتجديد المؤسسات، وتارة أخرى تحت تأثير قانون «اجتثاث البعث» الذي يقول مسؤول نافذ في الحكم العراقي إنه تحول الى قانون «اجتثاث السنّة» من الدولة.

الطفولية الثورية ودور الخارج
لكن الجانب الأكثر سلبية في المشهد العراقي، يتركز على كيفية تعامل الخارج مع الاحداث الجارية. والخارج هنا، فيه تيار قوي ينتمي فعلياً الى المحور الحليف للولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة. ورغم وجود تناقضات داخل هذ الفريق في أماكن كثيرة، إلا أنه يمكن ملاحظة تطابق في المساعي لدفع العراق نحو الفوضى، بين القطريين والأتراك والسعوديين والإماراتيين، إضافة الى الدور الأمني والتحريضي الكبير الذي تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في العراق. ولكل من هؤلاء أجندته وأهدافه، من الغرب الذي لا يريد قيام دولة في العراق، الى حكام الجزيرة العربية الذين انتقلوا الى موقع التخريب في كل الأمكنة، مروراً بقوى الاسلام السياسي السنّي، بتياراتها «المعتدلة» أو «السلفية» التي لا ترى في العراق سوى شيطان يحكم يجب التخلص منه بأي ثمن.
على ان السذاجة التي تخفي خبثاً وسوء نوايا لا سوء تقدير فقط، تجدها عند الذي يتعاملون مع الحدث العراقي على أنه مناسبة لتجديد الربيع العربي. هؤلاء الذين يجيدون نسج الروايات الخيالية عن القوى الثورية التي تقود الجماهير نحو تغيير ديموقراطي، هم أنفسهم الذين لا يزالون يسكنون الغرفة نفسها منذ عام 2011، ولا يريدون الإقرار بعدم صوابية ما نظّروا له في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن. وهم أنفسهم الذين قرروا تقديم أولوية الصراع مع إيران على مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. وهم الذين تنفق عليهم الاموال الطائلة لخلق رأي عام يسوده الخوف من كل حكم قائم.
الغريب في حسابات هؤلاء، ليس ما يقصدونه في ما يقولون، بل في تجاوزهم لحقائق ووقائع قاسية تخص العراق. هم يتجاهلون عمداً المآسي التي قامت خلال الحكم الاستبدادي لصدام حسين، ويتجاهلون حالة العوز والفقر التي سادت فئات كثيرة من الشعب العراقي خلال مرحلة تثبيت صدام لحكمه في بغداد. وهم يتجاهلون مسؤولية الغرب وعرب أميركا عن الحرب التي شنّها صدام ضد إيران وأدخلت العراق في أزمات لم يخرج منها. ثم هم يتناسون الجنون الذي أصاب الجميع يوم دخل صدام الى الكويت وما تلاها من حرب أميركية مدمرة، ظلت تحاصر العراق وتقتل أهله حتى يوم الغزو الكبير في العام 2003، عندما شرعت الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما حشد من حكومات وقوى وشخصيات عميلة في أكبر عملية تدمير لبنى الدولة العراقية. ثم هم يتجاهلون أن الحصار لم يرفع بصورة جدية بعد الحرب، وأن فترة الاحتلال الاميركي، وبروز التيارات التكفيرية المدمرة المدعومة من ممالك القهر في الجزيرة العربية، لعبت دوراً لا يقل خطورة عن دور السلطات الفاسدة التي تعاقبت على حكم بغداد خلال 15 سنة.
ومع كل هذه الوقائع، فإن غالبية الذين يتحدثون ويحرّضون ويكتبون عن الثورة الشعبية، ليس بينهم شخص واحد على صلة حياتية مباشرة بالناس المساكين في العراق، كما لم يكن لهم أي علاقة فعلياً بفقراء ومساكين سوريا واليمن وليبيا ومصر والسودان. لكن هؤلاء الذين يطلق عليهم وصف «النخب»، لا يزالون ينهلون من عطاءات شيوخ يتحكم فيهم الحقد والانانية والغرور، وهم يجلسون على عروش تعتاش من مقدرات الجزيرة العربية. وليس هناك اليوم ما يميز قطر عن الإمارات العربية أو الكويت أو السعودية. كلهم في العهر سواء!