الجزائر | قبل أن يُصدِر الأديب الجزائري الشاب أنور رحماني (1992) روايتيه المثيرتين للجدل «مدينة الظلال البيضاء» (نُشرت إلكترونيا عام 2016) و«هلوسات جبريل» («فاصلة للنشر والتوزيع» ــ القاهرة – 2017)، كان قد اشتهر كمدوّن جريء ذي قلم ناري. مدونته «يوميات جزائري فوق العادة» ألّبت ضده السلطات والأصوليين المتطرفيين، في آن معاً، بسبب أفكاره «الصادمة» المنادية باحترام حقوق الأقليات، وتشريع زواج المثليين، وإقرار الحق في الإلحاد.
أفكار لم تلبث أن عرّضته للضغوط والتهديدات بالقتل في جامعة تيبازة، حيث يدرُس القانون. اتُّهم بـ «المروق والمجاهرة بالشذوذ»، وبالأخص منذ قصيدة شهيرة بالعامية الجزائرية نشرها على صفحته على فايسبوك، في ربيع 2016، بعنوان «أنا نُقش» («نقش» يعني «مثلي» باللهجة الجزائرية). قصيدة أثارت ضده موجات عارمة من الانتقادات، وخاصة أنها دفعت مجلة Têtu، الناطقة باسم جمعيات المثليات والمثليين والمتحولين ومزدوجي الجنس في فرنسا، الى الاحتفاء به، تثميناً لنضالاته من أجل حقوق الأقليات الجنسية في الجزائر.
في لقائه مع «الأخبار»، في أحد مطاعم العاصمة الجزائرية، استعاد أنور رحماني باستغراب لم يخل من الحزن سوء الفهم الكبير الذي أحاط بتلك القصيدة وبالبورتريه الذي خصصته له المجلة الفرنسية الشهيرة بدفاعها عن حقوق المثليين. «أغلب وسائل الاعلام الجزائرية تعمدت تكريس الانطباع لدى الناس بأن الضغوط والتهديدات التي طاولتني بسبب تلك القصيدة سببها المجاهرة بمثليتي. كانت هناك رغبة واضحة في الاساءة لي، وتحويل النقاش الى موضوع ثانوي. أنا لم أكتب تلك القصيدة لأكشف بأني مثلي، كما تبادر الى أذهان من لم يقرأوا سوى عنوانها! بل كتبتها مدفوعاً بتأثري الشديد بشريط فيديو انتشر آنذاك على شبكات التواصل الاجتماعي يصوّر الاعتداء بشكل وحشي على أحد المتحولين جنسياً بمحاذاة أحد الملاهي الليلية في الجزائر العاصمة. العنف الجسدي الذي سُلّط عليه، لمجرد كونه مختلفاً، وما رافقه من تعليقات وتعابير مشينة تخل بالكرامة الإنسانية، جعلتني أكتب تلك القصيدة بصيغة المتكلم لأنقل معاناته. لكن بعضهم قرأوا القصيدة بشكل حرفي أو لم يفهموا منها سوى عنوانها! بالتالي، صاروا يروّجون بأن المشكلة تكمن في كوني أجاهر بمثليتي، وأن ذلك هو سبب احتفاء مجلة مثل Têtu بكتاباتي»!
لم يكن مستغرباً، في ظل هذه السوابق، أن يكون لباكورة أنور رحماني الروائية، «مدينة الظلال البيضاء»، وقع القنبلة فور صدورها. هي جاءت لتعمق الجدل المحيط بكتاباته وتزيده حدة واحتقاناً. كيف لا، وهذه الرواية، المهداة الى روح الشاعر الجزائري الكبير جان سيناك، تناولت قصة حب مثلية بين «مجاهد» جزائري و«معمّر» فرنسي! جرأة اعتبرها كثيرون تطاولاً على رموز الثورة، واستفزازاً غير مقبول في بلد المليون شهيد.
لكن الانتقادات والتهديدات لم تنل من عزيمة أنور رحماني وإصراره على مواصلة التحدي، والاستمرار في خلخلة يقينيات المجتمع الجزائري الذي يعيب عليه «مسايرته للردة الأصولية التي تريد تدجينه من خلال إغراقه في القيم المحافظة والرؤى الذكورية، بعدما عجزت عن إخضاعه بقوة السلاح، خلال سنوات الإرهاب في التسعينات».

قصة حب بين «مجاهد» جزائري و«معمّر» فرنسي اعتبرها كثيرون تطاولاً على رموز الثورة الجزائرية


هذه الروح الصدامية دفعت الفئات المحافظة المقربة من النظام الحاكم الى اللجوء الى أسلوب ملتو، لمحاولة إسكات صوته، عبر تأليب السلطات القضائية ضده. هكذا وجد نفسه مطلوباً من القضاء بتهمة التطاول على الذات الإلهية. في 28 شباط (فبراير) الماضي، تم استدعاؤه من قبل المدعي العام. «لم يجرؤ المحققون على مساءلتي بخصوص موضوع المثلية، بل اكتفوا بأسئلة تلميحية من قبيل: هل لديك حبيبة. وكنت أجيبهم بأنه ذلك شأن شخصي لا علاقة له بالتحقيق القضائي». أما التهمة الرسمية، فتمثلت في ازدراء الدين والتطاول على الذات الإلهية (تهمة تعاقب عليها المادة 144 من قانون العقوبات الجزائري بالسجن 3 الى 5 سنوات). وقد برّر قاضي التحقيق توجيهها الى أنور رحماني بمشهد من روايته «مدينة الظلال البيضاء» يصادف خلاله الراوي شيخاً مشرداً ومجنوناً يزعم أنه الله وأنه خلق السماء من العلكة!
قبالة قاضي التحقيق، لم يتخذ أنور رحماني موقفاً دفاعياً أو تبريرياً، بل تمسك بحرية التعبير والمعتقد، رافضاً مساءلته حول معتقداته الدينية. ولم يتردد في اللجوء الى وسائل الاعلام للتنديد بهذا الاستغلال غير القانوني للجهاز القضائي بهدف إرهاب المبدعين وإسكات أصواتهم. وقد وجدت قضيته صدى كبيراً في وسائل الإعلام في بلاده وفي الخارج، وأصدرت جمعيات حقوقية، مثل Human Rights Watch وFront Line Defenders وObservatoire de la liberté de création، بيانات دعت السلطات الجزائرية إلى كف المضايقات عن أنور رحماني وحمايته من تهديدات المتطرفين. ثم جاءت «قضية رشيد بوجدرة» (الاخبار 2/6/2017) وحراك المثقفين الذي تولد عنها، خلال الصيف الماضي، لإرغام السلطات الجزائرية على حفظ القضية.
رغم خروجه منتصراً في هذه المعركة القضائية، الا أن أنور رحماني يتحدث بكثير من المرارة عن هذه التجربة التي يعتبرها قاسية على أكثر من صعيد. يقول متحسراً: «هل من المعقول، في بلد يكفل دستوره حرية الرأي والمعتقد وحرية التعبير والإبداع، أن يقوم القضاء باستدعاء روائي لمساءلته حول أقوال شخصية من شخوص رواياته، علماً بأن النص يشير بوضوح إلى أن الأمر ليس سوى هذيان شخص مجنون!».
من جهة أخرى، يقول أنور رحماني إن ردود فعل بعض الكُتّاب الجزائريين «الكبار» صدمته كثيراً. «أحدهم برّر عدم تضامنه معي في محنتي بأنني مدوّن ولست روائياً، علماً بأن القضاء استدعاني رسمياً لمساءلتي بخصوص نص روائي! لم أفهم ما هذه التراتبية العبثية: هل مقاضاة مدوّن بسبب كتاباته أقل خطورة على حرية التعبير مما لو كان روائياً!؟». ويضيف: «كاتب كبير آخر انتقص من قيمة روايتي، قائلاً إنها ليست عملاً أدبياً حقيقياً لأنها نشرت الكترونياً ولم تصدر عن دار نشر حقيقية! كنت أتوقع من كاتب في منزلته أن يشجب عدم قبول أي دار جزائرية بنشر روايتي، بسبب مضمونها الجريء، مما أرغمني على نشرها إلكترونياً. والشيء ذاته بالنسبة الى روايتي الثانية «هلوسات جبريل»، حيث اضطررت لنشرها في مصر».
من وحي تلك المضايقات التي اكتوى بنارها، والتجارب الكافكاوية التي عانى من عبثيتها الفاقعة، استوحى أنور رحماني أجواء روايته الجديدة «ما يخفيه الله عنا». رواية يحس قارئها بأنها خرجت من معطف فرانز كافكا أو جورج أورويل. هي تنتمي الى تقليد الأدب الديستوبي Dystopique، أي الأدب الغرائبي القائم على ابتكار عوالم ودول وأنظمة خيالية تسودها قيم ومفاهيم غير معقولة ومخالفة للمنطق والمألوف. أدب يتخذ من هذا النوع من التخييل الغرائبي تورية رمزية للتحذير من مخاطر التسلط والاستبداد.
تدور أحداث «ما يخفيه الله عنّا» في بلد خيالي يسوده الفساد، ويتبع شعبه ديناً غريباً يُؤْمِن أتباعه بأن أكل التمساح للإنسان يجعل هذا الأخير يشعر بالمتعة، اذ أن متعة التمزّق بين فكي التمساح، في معتقداتهم، ألذ مئة مرّة من الجنس! هذا البلد الفاسد، الذي لا نعرف له اسماً، يحكمه زعيم اسمه «جاكوشا»، وهو رئيس شفّاف ومتاور عن الأنظار، لا أحد يراه لكن الجميع يُؤْمِن بأنه «زعيم أبدي لا يظهر ولا يموت».
لإحكام قبضته على البلاد، يسلط «جاكوشا» رهبانه الفاسدين على الشعب، من خلال ديانة التماسيح التي تمجد الخضوع وتقدّس التبعية العمياء، حيث يسعى الجميع للتدرج في سلك الخنوع، بغية بلوغ منزلة «القوّاد»، وهي الفئة الأعلى في المنظومة الدينية والسياسية الحاكمة! وإذا براهبة متمردة تدعى «ألجا» تشق عصا الطاعة على الاستبلشمت الديني، مناديةً بتحرير البشر من عبادة التماسيح. فيلقى عليها القبض، لتقام لها محاكمة جائرة، ويصدر بحقها حكم بالإعدام لأنها تجرأت على الترويج للفكر الحر!