كانت رسالة الكاتب النمسَوي فرانز كافكا إلى أبيه في كتابه «رسالة إلى الأب» ملهمة للفنّانة اللبنانية شذا شرف الدين، فقد حوّلتها إلى عمل فني يتركنا نراه من زوايا أخرى، فلا نهتم بقراءة الرسالة، بل مشاهدتها كلوحة بحدّ ذاتها. في معرضها «رسالة إلى الأب» الذي يحتضنه «مركز مينا للصورة»، تنسخ شذا بخط يدها الرسالة الألمانية ثم تكتبها بالعربية لتقدّمها بأشكال مختلفة. وفي مكان آخر على ورق أبيض طويل، تكتب شذا رسالتها هي لأبيها. رسالة طويلة لا تنتهي، وبخطّ غير مفهوم كأنّها لن تصل حقاً إلينا وإليه، كأننا ندرك لوهلة أنّ هذا التوتر في التواصل هو مضمون هذا العمل الفني الذي يقول أشياء كثيرة بدون كلمات.

يقول كافكا لأبيه في الرسالة: «أحاول أن أجيبك كتابةً، فهذا لن يكون سوى محاولة ناقصة، لأن الخوف يعيقني إزاءك». من هنا ندرك أن العلاقة المتوترة بين كافكا وأبيه لا تنقلها الكلمات فقط بل العمل الفني أيضاً. ها هو كافكا يعترف بصعوبة الكتابة لأبيه، وهذا ما تمسك به الفنانة لتنقله إلى العمل الفني الذي يرتكز إلى الاضطراب أو المحو. تتابع الفنانة عمل كافكا في محو الكتابة عبر نسخها بخط صغير نعجز عن قراءته، ربما لتقول بأنّ المحو كان جزءاً من كتابة كافكا، وهو جزء من اللوحة التي تجعلنا ننظر إلى الصمت ليدلّنا إلى مشاعر داخلية دفينة. هناك أشياء كثيرة داخل الرسالة ربما تنبّهنا لأن نعود إلى العمل الأدبي لقراءته، لكن المثير أن القلق واضح، وهو الوحيد الذي لا يمحى. لا تزخرف الفنانة الخطّ، لكنّها تدرك أنّه خريطة داخلية لأحاسيسنا. لذلك، لعبت قليلاً على الحجم، فكتبت رسالة كافكا بخط صغير جداً، بينما رسالتها إلى أبيها كتبتها بخط كرشوني (العربية المكتوبة بأحرف سريانية) وغير مفهوم. في الحالتين، ندرك تماماً أنّ القراءة صعبة، لكن رسالة كافكا أقرب إلى الهمس، بينما رسالتها إلى أبيها صارخة أو كما تقول الفنانة: «أردت أن أكتبها بخط كبير كأنني بذلك لا أقول الكلمات بل أصرخها».
حوّلت الرسالة إلى مخطوطة قديمة كتبتها بخط يدها كما المخطوطات العربية القديمة

هناك إذن صعوبة في الكتابة في الحالتين، في الهمس والصراخ، لأنّ تلك العلاقة المضطربة تحتاج إلى قراءة مختلفة لفهم العلاقة بينهما. وهي علاقة حب مختلفة بين الأب والابن تحتاج إلى فهم خاص ومختلف.
لا تكتب الفنانة الرسالة بشكل أفقي، بل هناك حركات مختلفة داخل النص، أفقية وعمودية وأحياناً بطريقة دائرية، ربما لتعطي شكلاً بصرياً للوحة. عندما ننظر إليها، سنرى موجة من الانفعالات الداخلية، كأنّ هناك تياراً متدفقاً أو كما قالت الفنانة عن كتابة كافكا التي تعجبها بأنّها «تأخذنا إلى متاهات ودهاليز في الداخل». وهذا ما حاولت أن تنقله لنا بلا كلمات أو بلغة صامتة كأنها تريد أن ترسم الرسالة بكلماتها من دون أن تضيف شيئاً جديداً. الكلمات هنا هي الشكل والمضمون معاً، لا تحبّذ الفنانة أن تبتعد عن فضاء اللغة، لأنها تدرك أنّ قوة الرسالة هي اللغة وأن تتحول إلى عمل فني بدون إضافات، فهذا لغز الرسالة وقيمتها.
وهكذا تتحول اللغة إلى لوحة فنية، حين تبتكر شكلاً ما للعالم داخلها، فنتأملها كشكل خارجي يحضر لنا الصوت الداخلي المكتوم، كأن شرف الدين تستفيد من عوالم الخط العربي الكبير الذي لا نستطيع قراءته أحياناً لتخلق عالماً آخر لا يهتم بالخطّ، بل بحركته وجمال انسيابه كأنه سيل من الدموع أو موجة من الأحاسيس التي لا تنتهي ولا تصل، ولكن يصلنا تدفقها وانفعالاتها ونقر بوجودها.


مرت الفنانة وهي تعمل على اللوحات بالمراحل التي نمر بها ونحن نكتب الرسالة، نمحو ونمزّق، ولهذا تقول: «كنت أنسخ الكلمات بتلقائية أجعل فيها يدي تتحرك على إيقاع تحدده الفقرات والكلمات، إلى أن تشكّلت أمامي معالم الخريطة للنسخة العربية من الكتاب التي جاءت على شكل المخطوطات العربية القديمة».
هكذا حولت شذا الرسالة إلى مخطوطة قديمة كتبتها بخط يدها كما المخطوطات العربية القديمة، ربما لم تصل إلى أبيها لكنها وصلتنا. نفكّر لوهلة بمصير الرسائل التي لا تصل أصحابها، ماذا يفعل بها الزمن؟ هل يحولها إلى عمل فني؟ هل تصل بطريقة أخرى؟ تجيب شذا: «قد تختفي في الهباء لكن العمل الفني أنقذها. ربما هنا يصبح الفن دعوةً للبحث عن الرسالة وليس فقط قراءتها. إنّه فضاء آخر لسماعها والإحساس بها بعيداً عن الكلمات التي تؤثث الرسالة. إنها إعادة كتابة لذلك التوتر الذي عاشه كافكا، ليقول ما يريد من دون أن يستطيع ذلك. وهكذا تكتب شذا القلق وتزخرف العناء وتضيء لنا الحبّ الذي لم يصل. وهنا ندرك أن الغموض جعل الرسالة جديرة بالاهتمام، وذاك الضوء الذي يخرج منها وسط عتمة الصالة يضفي على وجودها هالةً سحريةً. كأنّه ينبهنا بأنّها رسالة من هذا الزمن ونحتاج أن نضيء عتمة داخلنا، لنقرأ رسائلنا الخاصة إلى آبائنا في زمن تكثر فيه الرسائل ويقلّ فيه التواصل الحقيقي.

«رسائل إلى الأب»: حتى 30 كانون الاول (ديسمبر) ـــــ «مركز مينا للصورة» (المرفأ ــ بيروت). للاستعلام:
[email protected]