في روايتها السابقة «32»، كان ارتماء سحر مندور (1977) في حضن المقالة والتحصن بتقنياتها من المآخذ التي فتحت ثغرة لدخول الناقد عبرها. لكن قراءة روايتها الجديدة «مينا» (دار الآداب)، تحملنا الى عالم يشكّل معادلاً موضوعياً للعالم الفعلي والقائم، ولكن بصلصال خاص نفخت الكاتبة في عناصره روحاً فيها من الجرأة الكثير، فجاء عالمها مشيّداً بركائز مختلفة تقاسمت تلافيف النص. نرى روح كاتبة طامحة وواعدة وتقنيات روائية تشهد بقدرتها الفنية، كما نلاحظ ارتماءها من جديد في حضن المقالة كصدَفة لم تستطع الخروج منها نهائياً، إضافة الى توظيف قدراتها في التحليل النفسي. هكذا، جعلتْ صفحاتٍ من الرواية بمنزلة محاضرة في الطب النفسي، ممهدة لطبيعة الحالات التي تعاني منها شخصيات النص الأساسية، وهي حالات عصابية لها جذور ضاربة في عمق الماضي، أي الطفولة بشكل خاص...
بين بيروت المدينة التي لا تعرف الشخصيات استقراراً فيها لكن لا تستطيع الخروج من تحت لحافها، وبين باريس الحرية وتحقيق الذات والأحلام والشهرة، يمتدّ خيط من الأحداث، تقترب الكاتبة عبره من مشارف رواية «طواحين بيروت» الشهيرة، وإن اختلفت المُدد الزمنية. فـ«طواحين» يوسف عواد عرضت غليان المدينة على عتبة الحرب، في حين أنّ «مينا» ترسو بنا على ميناء السلم الهشّ المثقل بوزر الحرب التي لا تزال تهدد هذا السلم. من خلال هذه الأحداث، تحاول شخصيات الرواية التخلّص من ربقة المجتمع والتقاليد، وتنشد الحرية بشكل شبه متطرف هذه المرة. يشكّل موضوع العلاقات الجنسية بين المثليين عصباً رئيساً يشدّ أوصال الرواية إليه، فلا تدعو الى إعلانه كوعي ممكن فحسب، بل تجعله أمراً مقبولاً لدى المجتمع وغير مرفوض من الأهل كما تشير الحوارات بين مينا ووالديها: «حياتك الخاصة ملكك، الفراعنة عملوا أعظم حضارة، وما حدا سأل الابن ليه بيتجوز عمته... أضحكها [الوالد] وهو يستعين بالفراعنة، حتى عند تطرقه الى علاقات ابنته الخاصة». مهّدت الكاتبة لذلك باستعادة طفولة مينا، وتحرّش أحد المقاتلين بها في مدخل البناية وهي في السابعة من عمرها، وأنّ ما تعاني منه قد يكون ردّ فعل اليوم على فعل حصل في الماضي: «لو اختارت الإقامة في بيت جديد، لما تذكّرت ذاك الرجل الذي يقف خلال إحدى مراحل الحرب الأهلية في مدخل العمارة الداخلي، يطلب منها في كل صباح، وهي تنتظر وصول باص المدرسة، أن تقترب منه، ولا تقترب، فيهمس لها بكلمات تسمعها ولا تفهمها، لكنها تشعر بثقل وطأتها... وطأة تلك الكلمات ثقيلة على فتاة في السابعة من العمر، لأنها تسبّب قلقاً مجهول المصدر، يسبق وعيها لمضمونه».
هذا هو الموضوع الأكثر جدلاً في النص، تفرّعت منه موضوعات أخرى، اجتماعية وسياسية، ما دفع الكاتبة الى استثمار مهاراتها الصحافية، وتخصصها في علم النفس، وجعل النص يخرج في بعض المناسبات عن الإطار الروائي ليدخل في باب المحاضرات أو المقالات، خصوصاً في نبش بعض الشهادات عن الحرب الأهلية، ما يؤكّد تشبّث الذهنية اللبنانية بتلك الحرب ومكوثها في العقول كحدث يفرض نفسه على اللاوعي الجماعي. ولأنّ الموضوع حساس اجتماعياً ودينياً، نرى ارتباكاً في بعض تقنيات الرواية الفنية. ظهر التفكك والتشظي في الكثير من عناصر الحبكة الروائية، إضافة الى الوقوع في بعض الهنات اللغوية، وأكثر ما ظهر هذا التشظّي في تقنيّتي الزمن والراوي. الزمن متداخل بطريقة معقّدة بين زمن آني وبعض الاسترجاعات المفاجئة التي لا تحمل وظيفة الاسترجاع المألوفة، كالإضاءة على بعض الشخصيات الغائبة عن مسرح الأحداث أو نبش بعض الأحداث التي تسهم في تغيير مسار الحدث الرئيس. أما في ما يخصّ الراوي، فقد اعتمدت الكاتبة نمط الراوي العليم والكلي المعرفة. لكنّ هذا الراوي لم يلتزم بمشاهدته المحايدة فحسب، بل نراه يتدخّل كأنه شخصية مشاركة أحياناً، خصوصاً في الحوارات التي غصّ بها النص، ما يجعل بعض المقاطع أدراناً من المواعظ. لم يقف الأمر عند هذا الحد. فسرعان ما يفاجئنا الراوي، وبومضة سريعة، بتدخله كشخصية شبه أساسية تتحدث بضمير المتكلّم، ساردة حياة مينا حسب وجهة نظرها، ومؤكّدة التماهي بينها ككاتبة هذه المرة، وبين تلك الشخصية الورقية من خلال ستّ صفحات فاضت بضمير المتكلم، ما أدخل النص في سرداب من الخلخلة والتشظّي غير المسوّغ أحياناً.