strong>ننشر في ما يلي ترجمة لمقالة صدرت في العدد الأخير من «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، حول إمكانيّة السلام في الشرق الأوسط. وتكتسب هذه المقالة أهميتها نظراً للخلفيّة الأكاديميّة للكاتبين، والدور الذي يمكن أن يؤدّيه روبرت مالي مستقبلاً، بعدما عُيِّن مستشاراً للمرشّح الرئاسي الأميركي باراك أوباما
حسين آغا وروبرت ماللي
1- في آخر سنة تتولى فيها الحكمَ إدارةُ الرئيس بوش وأوّل سنة تخصصها للدبلوماسية الإسرائيلية الفلسطينية، قدمت هذه الإدارة الفكرة الأخيرة والأغرب، من بعض النواحي، لتحقيق السلام، وهي فكرة اتفاقية الرفّ. ومنطقها صريح وواضح. يجب أن يعقد رئيس الوزراء إيهود أولمرت والرئيس محمود عباس اتفاقية سلام نهائية بحلول أواخر 2008، فيقوم الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني بالموافقة عليها لاحقاً في الاستفتاءات أو الانتخابات شبه المتزامنة. وعندئذ، بعدما تتم الموافقة على الاتفاقية، توضع جانباً بكل بساطة (على الرف الآنف الذكر) إلى أن تسمح الظروف بتنفيذها. فما من اتفاقية يمكن أن توضع موضع التنفيذ كاملاً لدى التوقيع عليها. ولكن فيما تتضمن الاتفاقية المؤلفة من مراحل جدولاً زمنياً تمت الموافقة عليه يشمل تاريخ البداية والنهاية، يتوقف تنفيذ اتفاقية الرفّ على تقدير الطرفين أنّ الشروط المحددة قد توافرت.
ليس اعتماد هذا المفهوم مصادفة، بل صُنع ليلائم الظرف الخاص الذي يمرّ به كلّ من عباس وأولمرت: فالاثنان في وضع هش سياسياً، والاثنان بحاجة ماسة إلى تفويضين مجددين، ويتمتّع الاثنان، كما يُفترض، بأغلبيتين شعبيتين كبيرتين تؤيدان عقد اتفاقية سلام، ومع ذلك لا يقدر أيّ منهما على ترجمة الاتفاقية المتوقعة إلى حقيقة ملموسة. وإذا أضفنا إلى ذلك رغبة الرئيس بوش في تحقيق إنجاز ما بحلول نهاية ولايته، ستبدو بداية تكوّن المفهوم أوضح. فمن خلال هذا المفهوم، سيتمكّن أولمرت أن يعزّز سلطته، وعباس أهمية وجوده، وبوش الإرث الذي سيتركه وراءه.
بالنسبة إلى كثر مقتنعين بأنّ الساعة تدق إيذاناً بحل الدولتين، وبأنّه لا بدّ من التحرك من أجل إنقاذ التعبير العلماني عن القومية الفلسطينية مقابل التجسيد الديني لها، ومن تجديد إيمان مخيّمَيْ السلام في الطرفين بأنّ الاتفاق ممكن، يبدو ذلك السبيل الأمثل لتحقيق كل هذه الأمور. فمهما كان عباس وأولمرت ضعيفين، إلاّ أنهما يحتفظان بالقدرة على التوقيع على قصاصة ورق. وعلى الرغم من صعوبة الوضع، لا يزال الشعبان يتوقان إلى تسوية عادلة. ومهما كانت المدة التي قد يستلزمها تطبيق الاتفاقية، فالتوصل إليها ـــــ ودعمها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي ـــــ سيعني على الأقل كفالة ثوابت اتفاقية ما والتوكيد عليها.
هل يمكن أن تنجح الحيلة؟ وإن نجحت، فأي قيمة لها؟ سيواصل بوش وعباس وأولمرت سعيهم إلى عقد اتفاقية رفّ، وقد يحققون هدفهم حتى، مَن يدري؟ ولكن ماذا لو وُقِّع على اتفاقية لا يأخذها أحد بعين الاعتبار؟


2- إنّ مضمون اتفاقية إسرائيلية فلسطينية عامل مهم في تحديد ردة الفعل الشعبية من الجانبين، ولكن يصعب أن يكون هو العامل الكافي. فقد منحت خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1947 الفلسطينيين أكثر بكثير من أي اقتراح حالي. وعلى الرغم من ذلك، رفضوها لأنّهم كانوا أغلبية في ذلك الزمان ويسيطرون على القسم الأكبر من فلسطين الخاضعة للانتداب وقتها. وكانت اتفاقية أوسلو الموقعة سنة 1993، وسيعترف بذلك معظم الفلسطينيين، اتفاقية أقل من عادية في أفضل الأحوال، يرفضها كثيرون. فهي لم تذكر بتاتاً إقامة دولة أو استقلال، ولم ترسم الحدود، ولا حددت مصير القدس، ولم تأتِ بأي عمل لإيقاف المشروع الاستيطاني. ومع ذلك، ونظراً إلى المرحلة الزمنية (والطريقة) التي وُقّعت فيها، شاع اعتراف في الضفة الغربية وغزة بأنها واحدة من الإنجازات التاريخية التي حققها ياسر عرفات. المضمون مهم، ولكن المهم أيضاً، وربما ما يفوقه أهمية، هو السياق.
فالسياق اليوم ـــــ السياسي والعملي، والأهم من هذين، النفسي ـــــ قد يكون هو الذي يدفع بعباس وأولمرت باتجاه حل ما، ولكنه أيضاً هو الذي يحكم عليه بالفشل. فأولمرت وعباس يفتقران بشكل شبه مؤكد إلى السلطة اللازمة والدعم المطلوب للتفاوض على تسوية تاريخية. فأولمرت أفقدته هيبتَه حربُ 2006 في لبنان وتقريرُ لجنة فينوغراد المتعلق بإدارة حكومته الحرب والصادر في كانون الثاني/ يناير 2008. ربما نجا من السقوط، إلّا أنّه لا يزال موهناً للغاية سياسياً ويفتقر، على الأرجح، إلى الدعم المطلوب للتوقيع على اتفاقية تقضي بتقسيم القدس أو بالانسحاب من القسم الأكبر من الضفة الغربية. أما عباس، فقد تضرر من الانقسام ضمن حركة فتح، والتباعد بين فتح وحماس، وفقدانه السيطرة على غزة منذ سيطرت عليها حركة حماس في حزيران/ يونيو 2007، والاتهامات الموجهة إليه بأنّه ينفذ أوامر أميركا وإسرائيل في معركتهما مع الإسلاميين. يتكلم بصفته رئيس سلطة فلسطينية جوفاء وقائد منظمة تحرير فلسطينية صارت أشبه بطيف. وتكاد الألقاب الطنانة المسبغة عليه لا تحجب نفوذه المتضائل. فهو أيضاً سيجد صعوبة في عقد تسوية بشأن حق اللاجئين بالعودة إلى القدس.
سيبقى مصير المفاوضات مرتبطاً إلى حد بعيد بقرارات حماس. وإذ تستمر بالسير على طريق «المقاومة» وتصعيد هجماتها الصاروخية على الأهداف الإسرائيلية، فقد تعطل المفاوضات، كما سبق أن أثبتت في الأسابيع الأخيرة. فيتعرّض أولمرت للضغوط لوقف المحادثات بما أنّ عباس عاجز عن منع تصاعد العنف. وسيضاعف الرد الإسرائيلي الواسع النطاق، بما يوقعه حتماً من ضحايا مدنيين، صعوبة وضع عباس ويعرضه لانتقاد عنيف. فكم من الوقت سيمضي قبل أن تنهار المفاوضات أمام حمام الدم بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ علماً أنّ العنف ليس خيار حماس الوحيد، كما أظهرت الحركة عبر إحداث فجوة في الجدار الفاصل بين غزة ومصر.
حتى لو افترضنا أنّ عباس وأولمرت تمكنا من التغلب على عجزهما السياسي والتغاضي عن استفزازات حماس، ومن توقيع اتفاقية، فماذا سيحدث حينئذ؟ بالنسبة إلى السواد الأعظم من الفلسطينيين والإسرائيليين، ستجد اتفاقية الرفّ مكانها إلى جانب مجموعة الاتفاقيات خاوية المعنى غير المطبقة، بدءاً من أوسلو وصولاً إلى خارطة الطريق. ففي ما يخص الإسرائيليين، سيكون توقيع الاتفاقية بمثابة منح تنازلات لسلطة فلسطينية غير قادرة على فرض سيطرتها على أراضيها ولا التكلم بالنيابة عن شعبها بأكمله، ولا لجم مناضليها الذين يلجأون للعنف، ولا توقيف إطلاق الصواريخ. وسيرى الفلسطينيون في ذلك تخلياً عن أقدس حقوقهم مقابل وعود مقطوعة تزداد الشكوك فيها لأنّ تنفيذها يتوقف على رضا العدو. وفي الحالتين، إنّ التناقض بين التعابير الرنّانة والحقيقة القاسية ـــــ هجمات بالصواريخ، وغارات مسلحة، ونشاط استيطاني وما شابه ـــــ سيزيد تعميق الشكوك والسلبية.
الأسوأ من ذلك أنّ الاتفاقية التي تبقى على ورق قد تنتهي بإضعاف الدعم للأفكار المهمة التي تحويها. فسيحظى منتقدو هذه الاتفاقية بأهداف كبيرة يصوّبون عليها بما أنّ التنازلات ستكون واضحة أمام نظر الجميع؛ أما الداعمون لها، فلن يجدوا الكثير من الإنجازات التي يمكنهم أن يشيروا إليها بما أنّ التنفيذ سيؤجّل. ولأنّ الخسائر ستبدو ملموسة أكثر من المكاسب، فستكون إثارة المعارضة عليها أسهل بكثير من تعبئة الداعمين لها من الجانبين.
تبدو إدارة بوش والمؤيدون الآخرون لاتفاقية رفّ غير قلقين من احتمال أن يعطي استفتاء شعبي على مثل هذه الاتفاقية، يُخضَع له الفلسطينيون أو الإسرائيليون أو الاثنان معاً، نتيجة سلبية. ربما وجب أن يقلقوا. فمن الجانب الفلسطيني، ستأتي المعارضة حتماً من المجموعات الإسلامية، على الأرجح من المنظمات اليسارية والقوى الرافضة للاتفاقية ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، وممكن جداً من شرائح كبيرة ضمن فتح والمستقلين. فقد ساعد ائتلاف أقلّ قوة على وصول حماس إلى الحكم عام 2006. هذا وقد يقوم الإسرائيليون بردة فعل سلبية حيال استمرار العنف الفلسطيني، فتضعف ثقتهم في قدرة نظرائهم على تنفيذ الاتفاقية. وفي الحالتين، ستكون الظروف السياسية المحيطة بالاتفاقية، لا مضمونها الفعلي، قد أدت إلى رفضها، ولكن ماذا ينتج من ذلك؟ سوف ينهار هدف تحقيق حل الدولتين، وجوهرياً، تكون أقوى ضربة توجَّه للاتفاقية تتضمن إقامة دولتين دائمتين قابلتين للحياة قد سُرّعت وأتت قاضية.
أما التوقيت فتعقيد آخر. فأي اتفاقية تُعقد ستأتي على مسافة قصيرة زمنياً من الانتخابات الجديدة، ربما في كلّ من إسرائيل وفلسطين، وبالتأكيد في إحداهما. وإذا تولت قيادة جديدة الحكم في أي من الجهتين، فليس بديهياً أن تشعر بأنها مقيّدة بالالتزامات التي قطعتها سالفتها. ففي إسرائيل، أدى كلّ تغير حكومي عملياً إلى الاعتراض على الاتفاقيات السابقة المعقودة مع الفلسطينيين وإطلاق مفاوضات جديدة بشأنها. فعندما تسلم رئيس الوزراء شيمون بيريز السلطة، لم ينسحب من الخليل كما تم الاتفاق مع إسحق رابين؛ وشكّك رئيس الوزراء بنيامين ناتانياهو باتفاقية أوسلو وأجرى مفاوضات لتوقيع اتفاقية واي ريفر؛ واعترض رئيس الوزراء باراك على اتفاقية واي ريفر، فيما أظهر رئيس الوزراء شارون التزاماً ضعيفاً بالتفاهمات المعقودة سابقاً.
إنّ وضع الفلسطينيين مختلف، لكنه لا يدعو إلى الارتياح. فهم لا يشاركون الإسرائيليين تجربة تغيير مواقفهم باستمرار، لأنهم لا يشاطرونهم تجربة تغيير قادتهم باستمرار. وقد لا يبقى الوضع على هذه الحال. فبما تتصف به سياساتهم من تقلّب وعدم استقرار، قد يختارون قادة ميالين إلى التشكيك باتفاقية معقودة سابقاً، ولا سيّما إذا كانت تطال معتقدات يتشبثون بها بعمق أو مثيرة للجدل ولا تتمتع بدعم متوافق عليه. ومع اتفاقية الرفّ، يكون حافز الاعتراض عليها أكبر بعدُ لأنّ المسألة نظرية أكثر مما هي واقعية، تسلط الضوء على تنازلات تاريخية وتحجب المكاسب الملموسة.
في المناخ السائد اليوم، سيشك الإسرائيليون أيضاً في أنّ الاتفاقية تعكس المشاعر الجماعية لدى الفلسطينيين. فالخطوة المعدة لاسترضاء حليفهم الأميريكي، وإنقاذ شريكهم الفلسطيني وتعويم رئيس وزرائهم ستفوح منها رائحة الانتهازية السياسية. فما يريدونه، ولن ينالوه في هذه الظروف، هو قبول فلسطيني بأنّ الوجود الإسرائيلي ضمن حدود 1967 ليس تكتيكياً ولا قابلاً للتغيير، بل استراتيجي ودائم. فلمَ يلزم الإسرائيليون أنفسهم بمنح مكاسب مادية قيمة مقابل وعود قد يتبين لاحقاً أنّها كاذبة؟
سيجد الفلسطينيون الاتفاقية تقهقراً أكثر من إنجاز. فهم يدركون مدى ضعفهم وانقسامهم، ومدى اعتماد حركتهم الوطنية على رضا الأجنبي، على الولايات المتحدة لتأمين المساعدة الأمنية، وعلى قوات الدفاع الإسرائيلية لتوطيد سيطرة السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية وتأمين مقومات الحياة في بقية المناطق: يسمعون ذلك في صوت بوش عندما يستعجل حلاً كخدمة للفلسطينيين «المصلَحين»، وكوسيلة لهزم حماس وكبح القوى المتطرفة في المنطقة. ويشعرون بها في موقف أولمرت عندما يقبل بإقامة دولة فلسطينية كحل لمشكلة إسرائيل الديموغرافية بدلاً من أن تكون تحقيقاً للطموحات السياسية الفلسطينية. يرونها في فوقيّة موقفَي الرجلين، اللذين ينقصهما تقدير لحركة قومية فقدت احترامها لذاتها وباتت تعيش تحت رحمة داعميها الأجانب وفي ظل مؤسسها الراحل.
كان ياسر عرفات، المثير للضجيج و الصخب، قادراً على جعل الانكسارات الفلسطينية، مثل اتفاقية أوسلو، تحمل طعم الانتصار. أما القيادة الفلسطينية الحالية، المهزومة والمرفوضة، فمن شأنها أن تجعل إنجازاً، مثل ولادة دولة، يبدو أشبه بهزيمة. ومن جديد، إنّ مضمون أي اتفاقية ليس بالأمر الأكثر أساسية. فالمهم هو الطريقة التي تُعاش فيها النتيجة: كانتصار المناضل من أجل الحرية أو كتعزية للمهزوم.
بالنسبة إلى العديد من الفلسطينيين، لم تكن إقامة دولة الهدف الأخير، وبالطبع، لم يُنظر لهكذا دولة كمكافاة مرجوّة. وقد أتى القبول بحل الدولتين متأخراً ومكرهاً، وفقط بعدما أقنع عرفات شعبه، بطريقة ما وعبر عملية سياسية طويلة وشاقة، بأنّه إنجاز يستحق التصفيق. واستلزم الأمر عرفات خمسة عشر عاماً، من سنة 1973، عندما نوقش حل الدولتين للمرة الأولى بين الفلسطينيين، إلى سنة 1988، عندما تمت الموافقة عليه في مؤتمر وطني فلسطيني في الجزائر العاصمة، لتشريع الفكرة وتغيير وضعها من عمل خيانة إلى تتويج نهائي للحركة الوطنية الفلسطينية. وحتى في ذلك الحين، كانت إقامة الدولة تُعدُّ دوماً أنّها تنوب عن أمور أثيرية يصعب وصفها أو تحديدها ــ كالتحرير وتحقيق الذات والكرامة والاحترام.
في هذه المرحلة الحاسمة، سيكون حلّ الدولتين بعيداً جداً عن تحقيق هذه الأمنيات. فقد جُرّد مما جعله قيّماً. سيراه الفلسطينيون بمثابة هدية مُنحت لهم بدلاً من أن يكون الحق المنتزع بالقوة. فبنظرهم، يُعتبر الداعمون الثلاثة الأكثر حماسةً لهذا الحل أيضاً الأقل شرعية: إسرائيل، التي «سيُقضى عليها» من دون دولة فلسطينية، على حد قول رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ والولايات المتحدة التي تحاول جاهدة تحقيق «رؤية» رئيسها؛ وتلك الشريحة الضيقة المؤلفة من النخبة الفلسطينية الطُفيلية التي تفيد بشكل كبير من السلطة الفلسطينية ولا تتوقع أقلّ من ذلك من خليفتها المزعومة.
يمكن تحسين الزخرفة الخارجية لاتفاقية رفّ، ومعها احتمالات نجاحها. فالوقت الذي تقضيه على الرفّ، تلك الفترة الزمنية المكلفة الفاصلة بين الاتفاقية والتنفيذ، يمكن تقصيرها من خلال تسريع إنشاء قوات أمن فلسطينية وتدريبها، أو عبر إدخال قوة دولية. ويستطيع الطرفان أن يقوما بخطوات من أجل خلق شعور بتحقيق تقدم ملموس عبر تنفيذ ما يُسمى «خطة عمل»، فيعزز الفلسطينيون قدراتهم الأمنية ويبذلون مجهوداً أكبر لإيقاف الهجمات على إسرائيل. وتطلق إسرائيل سراح أعداد كبيرة من السجناء الفلسطينيين، وتزيل بعض العوائق من الطرقات والقواعد الأمامية من المستوطنات، وتُقرّ قانوناً يوفِّر تعويضات للمستوطنين المستعدين لترك منازلهم طوعاً. وحتى إنها قد تعيد انتشار بعض الجنود في الضفة الغربية وتسلم المزيد من الأراضي للفلسطينيين.
لكن هذه الإجراءات غير ملائمة على الأرجح، ولا يُحتمل اتخاذها. فهي لا تعالج المعضلة التي تفرضها حماس، ولا السلطة المتزعزعة للقيادة الفلسطينية الحالية، ولا ضعف النظام السياسي الإسرائيلي. بل تقوم على افتراض أنّ إسرائيل ليست مستعدة لتقديم تسويات سياسية وحسب ــ مع أنّ الفلسطينيين في حالة تضعضع ــ بل تسويات عملية أيضاً، على الرغم من أنّ السلطة الفلسطينية تتولى زمام الأمور جزئياً. لكن بغض النظر عن التزامات إسرائيل، وعلى الرغم من التشجيع الأميركي، وإذا وُضعت الإشارات الرمزية جانباً، إنّ إسرائيل تعوّق تحسين الوضع في الضفة الغربية، ولن تتبخر الأسباب التي تدفعها إلى القيام بذلك مع اتفاقية رفّ أو من دونها.
من بين كل الوسائل التي يمكن أن تدعم اتفاقية رفّ، إن إدخال قوة دولية هو الأكثر إثارة للاهتمام، لأنه قد يسد الثغرة القائمة بين التوقعات الإسرائيلية والأداء الفلسطيني، غير أنّه قد يكون الأصعب من حيث التحقيق. فقد يتساءل المرء عمّا إذا كانت إسرائيل تثق بجنود دوليين، ولا سيّما بعد تجربة قوات الأمم المتحدة في لبنان؛ وعن المكان الذي يمكن أن تكون فيه هذه القوات، إذا أُخذ بعين الاعتبار الإخفاق في العراق والمهمة التي لم تتم في أفغانستان، وبخاصة إذا كانت ستواجه بيئة معادية، في ظل معارضة حماس وفرق مجاهدة أخرى.

strong>هل ما زال السلام ممكناً في الشرق الأوسط؟
3- طريقان بديلان قد يحسّنان فرص عقد اتفاقية سياسية إسرائيلية فلسطينية قابلة للتطبيق. الأوّل هو الأبسط، يبدأ بالاعتراف بأنّ المسارّة (الثنائية) بين إسرائيل والفلسطينيين قد انتهت، إذ أصبحت العملية تضم ثلاثة فرقاء مع دخول حماس على الخط. لن تحرز إسرائيل والسلطة الفلسطينية تقدماً حقيقياً بشأن اتفاقية سلام إذا عزمتا على استبعاد حماس. فيمكن الإسلاميون أن يلجأوا إلى العنف، وأن يقوموا بحملة لحرمان عباس وأي اتفاقية يعمل من أجلها من الدعم الشعبي، أو أن يحولوا دون إجراء استفتاء موثوق فيه في غزة حيث يسيطرون، وفي الضفة الغربية حيث يحتفظون بقوة تأثير كبيرة. فما دامت حماس مبعدة، ومفاوضات السلام تنوي تهميشها أكثر وأكثر، سترى الحركة أي اتفاق بين عباس وإسرائيل بمثابة تهديد لها بالموت، وتتعامل معه على هذا الأساس.
يجب أن تقضي الخطوة الأولى بتجديد اللحمة بين فتح وحماس، بما في ذلك إنشاء حكومة موحدة تمارس سلطتها على غزة والضفة الغربية، وضم محتمل لجناح حماس السياسي إلى منظمة تحرير فلسطينية يُعاد إصلاحها، وجناحها المسلح إلى البنية الأمنية للسلطة الفلسطينية. بالإضافة إلى الاعتراف بشرعية عباس كقائد منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، تخوّله معاهدةُ وحدة تُوقَّع مع حماس التفاوض باسم الشعب الفلسطيني، وإجراء وقف للنار والتوقيع على معاهدة سياسية مع إسرائيل. وستلتزم حماس مسبقاً بالسماح بإجراء استفتاء شعبي على أي اتفاق، وتتقيد بنتيجته. قد لا تكون هذه الحركة مستعدة للاعتراف بإسرائيل، ولكنها قد تقبل بالوجود معها.
إنّ حماس لقادرة على كل ذلك؛ ليس هذا وحسب؛ فقد سبق أن أعلنت أنّها مستعدة للقيام بذلك، بغض النظر عن خطابها المتصلب أحياناً. ويجب ألاّ يجد عباس هذا الأمر مقبولاً وحسب، بل مألوفاً أيضاً، فتلك كانت نيته الأولى، المنطق القائم وراء قبوله مشاركة حماس في انتخابات سنة 2006: ملاطفة الحركة الإسلامية من أجل إقناعها بدخول النظام السياسي، ومنحها حصة في الحكم ودوراً في عملية السلام، وكل ذلك بقيادته،
وتعقب ذلك مفاوضات بشأن وقف نار متبادل بين حماس وإسرائيل، وإنهاء الحصار لغزة وتبادل للسجناء. ولأنّ عباس سيقود هذه المفاوضات كجزء من الاتفاق مع حماس، ولأنّ حماس لن تبقى المسيطرة حصرياً على غزة، يجب أن يخف القلق من صفقة تدعم الإسلاميين على حسابه. وأخيراً، يجب أن تقضي الخطوة الثالثة بمفاوضات مسرّعة بشأن السلام تُجرى بين الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي. مع انقسام الفلسطينيين ونبذ حماس، تملك الحركة الإسلامية كل الدوافع لنسف الاتفاقية، وتتمتع بقدر كبير من الحرية لإظهار عدائها. ولكن بالمقابل، عندما تصبح حماس جزءاً من النظام السياسي، ستخسر إذا هزّت استقراره. قد لا تكون معارضة الإسلاميين لعقد اتفاقية مع إسرائيل حقيقية، ولكن طريقة التعبير عنها ستكون ملجومة أكثر. فقد يقومون بحملة إعلامية لرفضها، ولكنهم سيسمحون بإجراء الاستفتاء، وسيلتزمون بنتائجه ولو على كره.
مع التفويض الذي تمنحه حماس لعباس، سيكون أقل ضعفاً، ولن تكون شرعية المفاوضات موضع نزاع. كذلك إنّ إدراج حماس ضمن نظام سياسي فلسطيني وُطّدت فيه العلاقات بشكل أكبر، يجب أن يمنح السلطة الفلسطينية أيضاً قدرة أكبر على معالجة التحديات الأمنية، ما يحسّن فرص وضع الاتفاقية موضع التنفيذ،
وتُجرى مساع لتحقيق جزء كبير من كل ذلك. فمصر تقوم أخيراً بوساطة بين إسرائيل وحماس سعياً لوقف النار. واستضافت اليمن محادثات بين فتح وحماس تتعلق بمعاهدة صلح ممكنة. حتى الآن لم يعط تدخل أي من الدولتين ثماره، مع الإشارة إلى أنّ بعض هذه المساعي تتّصف بالفتور، فقد كانت معارضة الولايات المتحدة وإسرائيل لوحدة الفلسطينيين صارمة؛ وتبقى الخلافات بين الفريقين حقيقية. وسيتطلب النجاح اعتراف الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين بأنّ الخلافات بين فتح وحماس ليست شرطاً أساسياً لمعاهدة سلام، لا بل تمثّل حاجزاً يعترض سبيل هذه الاتفاقية ويضعفها.


4- إذا كان ضم حماس إلى العملية البديلَ الأكثر تواضعاً، فإشراك سوريا فيها سيكون البديل الطموح. في الماضي، كان يُعدّ العمل بالتزامن على الحلبتين الفلسطينية والسورية غير عملي ومحفوفاً بالمخاطر، وقد قال العديدون إنّ إسرائيل لا تستطيع أن تتولى المفاوضات مع الطرفين في الوقت عينه، فيما حذّر آخرون من أنّ المفاوضات مع سوريا قد تصرف الانتباه فقط عن المحادثات الأهم، وهي المحادثات مع الفلسطينيين. واستمر عرفات بالاعتقاد بأنّ أي اتفاق بين إسرائيل وسوريا سيأتي حتماً على حساب الفلسطينيين، ولكن ألا تزال الأمور على هذه الحال؟
ستواجه عملية سلام إسرائيلية فلسطينية تتجاهل سوريا عقبات كبيرة. أولاً، نظراً إلى الإصرار العربي على سلام شامل، سيجعل غياب سوريا من المستحيل على إسرائيل إقامة علاقات طبيعية مع جيرانها، علماً بأنّ إسرائيل تمتلك دوافع أخرى للتوصل إلى اتفاقية مع الفلسطينيين، فهي تريد إنهاء العنف ومعالجة التهديد المتمثل باحتمال تفوّق عدد العرب على اليهود في المستقبل في إسرائيل كبرى تشمل غزة والضفة الغربية، ولكنْ قليلون هم الإسرائيليون الذين يعتقدون أن اتفاقية مع الفلسطينيين وحدهم ستؤمن استقراراً دائماً. أما بالنسبة إلى الحجة الديموغرافية، فقد تكون حقيقية وقائمة، ولكنها ستبقى كلاماً مجرداً للغاية، أقلّه لبضع سنوات، ولا يُرجّح أن تدفع الإسرائيليين إلى اتخاذ الخطوة العملية جداً والمكلفة، أي الانسحاب من أراضٍ، واجتثاث عشرات آلاف المستوطنين، والمخاطرة بحدوث اضطراب داخلي. على العكس، قد تبرر اتفاقية سلام شاملة تضم سوريا المخاطرة بكل ذلك، وتقديم هذه التنازلات، لأنّها تعد بتأمين أكثر مما ذُكر بكثير.
ثانياً، قد يجعل تأثير سوريا على المجموعات المجاهدة من المستحيل على الفلسطينيين توفير أمن حقيقي، من دونه يصعب الضغط على إسرائيل للتنازل عن مزيد من الأراضي.
ثالثاً، قد تحرم سوريا القيادة الفلسطينية من دعم العرب الآخرين الضروري لها. فثمة قرارات لا يستطيع الفلسطينيون أن يتخذوها بمفردهم: الاتفاق على القدس ومواقعها المقدسة هو أحدها، وحل مسألة اللاجئين هو القرار الآخر. فالموافقة العربية والإسلامية مطلوبة للقرار الأول، وتعاون الدول العربية مع أعداد كبيرة من الفلسطينيين ضروري للقرار الثاني، وكلما ضعف نظام الحكم الفلسطيني، كبرت الحاجة إلى الدعم العربي، لا سيما السوري.
قد يبدو التركيز على دور سوريا في هذه المرحلة غريباً. ففي النهاية، يظهر نظامها بمظهر المعزول إقليمياً ودولياً، نظاماً يواجه وضعاً اقتصادياً صعباً، ويتربع فوق انشقاق طائفي محفوف بالمخاطر، ويقيم علاقات مضطربة مع أعضاء ما يسمى المعسكر العربي «المعتدل» الذي يشمل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. وبرأي كُثر، إن كان يُفترض بطرف عربي أن يلعب دوراً مؤثراً في المنطقة، ويساعد على عقد اتفاقية إسرائيلية فلسطينية، فلا بدّ من أن يكون من هذا المعسكر.
غير أنّ هذه الصورة ليست إلا جزئية، فأعضاء المعسكر العربي «المعتدل» لم يصوغوا استراتيجية متماسكة ذات معنى تجاه إيران، وهم غائبون عملياً في العراق، ولم يتمكنوا من تنفيذ إرادتهم في لبنان، وأثبتوا عجزهم عن استخدام نفوذهم على السياسات الفلسطينية لتحقيق إمّا مصالحة بين فتح وحماس، أو انتصار حزبهم المفضل. ويبقى مستقبل عملية أنابوليس الدبلوماسية التي يدعمون غير مؤكد. في هذه الأثناء، تملك سوريا على الأقل استراتيجية تحالف واضحة مع إيران؛ وتقيم علاقات جيدة مع الحكومة والمعارضة والمتمردين العراقيين على حد سواء؛ وتدعم القوى الأقوى على الأرض في لبنان؛ وتؤمن المساعدة للمعارضة الفلسطينية وللقوى الإسلامية من دون أن تقطع علاقتها مع عباس؛ ولا تخسر إلا القليل إذا فشلت عملية السلام الحالية. وعلى الرغم من المشكلات التي تعانيها سوريا، سواء كمفسدة للمساعي التي يبذلها الآخرون، أو كمروّجة لمصالحها الخاصة، تبقى حاضرة بشكل مباشر أكثر من مصر أو الأردن أو المملكة العربية السعودية، وذلك بأشكال أكبر وعلى جبهات
أكثر.
أدى الجدال بشأن مواصلة الجهود من أجل عقد اتفاقية إسرائيلية سورية إلى تكوّن أفكار خاطئة. يقول المؤيدون لها إنّ دمشق ستفك ارتباطاتها مع إيران وحماس وحزب الله كجزء من اتفاق تستعيد بموجبه مرتفعات الجولان، ولكنّ منتقديها يناقضون هذا الكلام، زاعمين أنْ لا جدوى من الاتفاقية، لأنّ سوريا لن تتخذ تلك الخطوات. غير أنّ الطرفين بعيدان عن الواقع، فمن غير المرجح أن تقطع سوريا علاقة مع طهران تقوم منذ ثلاثين عاماً، وتقاطع حليفها اللبناني الرئيسي والمصدر الأساسي لتأثيرها في ذلك البلد، أو تتخلى عن شركائها الفلسطينيين في منظمة التحرير الفلسطينية وبين الإسلاميين. فهذه العلاقات، التي بُنيت على مر السنين، دعمت المصالح السورية الاستراتيجية والسياسية في مجموعة من القضايا الإقليمية: العراق، ولبنان، وتركيا، والخليج، ودعمت أيضاً قضايا اقتصادية ومخابراتية، والنزاع مع إسرائيل واحدة منها ليس إلاّ. فلن تضحي سوريا بتأثيرها في المنطقة من أجل اتفاقية مبتكرة حديثاً مع إسرائيل، أو احتمالات غير مؤكدة لاستئناف العلاقات مع الولايات المتحدة.
ولكن هل يجب أن يكون ذلك ما يقرّر ما إذا كانت الاتفاقية تستحق عناء السعي إلى توقيعها؟ فبعد توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، حافظت على علاقاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت موضع انتقادات كثيرة في ذلك الحين؛ ومنظمة التحرير هي التي قطعت علاقتها بها، لا العكس. وبعد ثلاث سنوات، عندما رُحّل عرفات من بيروت عام 1982، كان أول مكان قصده هو القاهرة، وفي ذروة الانتفاضة في أواخر الثمانينيات، أمّنت مصر الدعم السياسي والدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ولعرفات الذي كان مكروهاً جداً في ذلك الحين. أما الأردن، فبعد أن أقام علاقات مع إسرائيل عام 1994، أبقى على اتصالاته مع حماس ـــ وقد يقول البعض إنّه عززها ـــ واستضاف زعماءها في عزّ حملة العمليات الانتحارية في منتصف التسعينيات. يذكر قليلون أنّ الملك حسين أنقذ حياة خالد مشعل، قائد حماس الحالي، أو أنّه أصرّ على أن تطلق إسرائيل سراح مؤسسها السجين، الشيخ أحمد ياسين.
لن تفك سوريا ارتباطاتها مع حلفائها، ولكنّها قد تعمل بطرق مخفية أكثر. فلا حماس ولا حزب الله ولا حركة الجهاد الإسلامية أدوات تعمل عوضاً عن سوريا، ولكنّها تعتمد على دعم حيوي من دمشق، وتستطيع قراءة الخارطة الإقليمية. تشعر هذه الحركات اليوم بأن الرياح تهب في أشرعتها، وتحسّ بمزاج شعبي رافض، وتعتقد أنها قادرة على توجيهه نحو أهدافها بمساعدة سوريا وإيران. إنّ استئنافاً للمحادثات الإسرائيلية السورية ومعاهدة محتملة سيرسلان إشارات واضحة بأن تلك الرياح تتحوّل، والخارطة تتغيّر، وعمقها الاستراتيجي يتضاءل. في حال التوقيع على اتفاقية سلام، تعرف دمشق أنّه سيتوجب عليها أن تكبح جماح حلفائها المجاهدين، وتتوقف عن دعم نشاطاتهم العسكرية. وحتماً ستعيد حماس وحزب الله وحركة الجهاد الإسلامية النظر في الخيارات، ومن غير المرجح أن تغير إيديولوجيتها، ولكنها قد تُجبر على تعديل سلوكها، وقد يقول قائل، إنّ هذاأهم. ما ينطبق عليها ينطبق أيضاً على إيران. فبعد أن قالت طهران تكراراً ومراراً إنّها ستقبل أي اتفاق تعقده سوريا، ستحتاج إلى تعديل علاقتها مع سوريا ومقاربتها النزاع العربي الإسرائيلي. قد تختار متابعة نزاعها مع إسرائيل، ولكن سيتوجب عليها القيام بذلك عبر وسائل مختلفة، فسيصبح دعم المواجهة العسكرية عبر فرقاء آخرين صعباً، لأن سوريا لن تستطيع السماح بذلك، ولأن إيران لن تتحمل معاداة سوريا في مسألة دقيقة من هذا النوع. فللبلدان مسائل عديدة على المحك، ولذلك يُرجَّح أن يدوم تحالفهما. ومع ذلك، ستضطر إيران إلى التأقلم مع الظروف الجديدة، على غرار المجموعات المجاهدة التي تدعمها. فعوض أن تدفع إيران سوريا إلى التطرف، يمكن لسوريا أن تجعل إيران معتدلة. وبدلاً من أن تختفي التوترات، بشأن مستقبل العراق مثلاً أو لبنان، بين الاثنتين، يمكن أن تزداد حدة، مع تراجع أولوية النزاع الإسرائيلي السوري. قد لا يكون ذلك مثالياً، ومع ذلك، في النهاية سيكون تأثير إيران في سوريا بعد عقد اتفاق إسرائيلي أقل بكثير من تأثيرها في العراق بعد الحرب الأميركية.
إذا بدا هذا الاحتمال مستبعداً، فلنتذكّر الأحداث السابقة. بعد أن وقّع الأردن السلام مع إسرائيل، حافظ على علاقات وثيقة مع عراق صدام حسين. طبعاً يمكن الادعاء بأنّ هذا البلد هو الأقرب إليه من بين الدول العربية الأخرى، ولكن، لم تكن تلك العلاقات بالأمر الهيّن أو البسيط: فقد كانت الشكوك تحوم حول صدام بأنه يطوّر أسلحة الدمار الشامل؛ وهدد بـ«إحراق» إسرائيل؛ وقبل ذلك ببضع سنوات فقط، كان قد أطلق صواريخ على إسرائيل. قد لا يرى الإسرائيليون بشار الأسد ملك حسين آخر، ولكن الدول العربية تستطيع أن تعقد اتفاقات سلام مع إسرائيل وأن تبقي على علاقات، تبدو متضاربة ظاهرياً، مع ألد أعدائها. وفي النهاية، قد تثبت المصلحة الوطنية أنه يمكن الاعتماد عليها بقدر ما يمكن الاعتماد على الثقة.
إذا تمكنت إسرائيل وسوريا من التوصل إلى اتفاقية سلام، فلن تتغير التحالفات الإقليمية بشكل كبير أو بين ليلة وضحاها، ولن تختفي التهديدات لإسرائيل ــ لا أكثر مما اختفت على أثر المعاهدات المصرية أو الأردنية، ولا أكثر مما قد تختفي بعد معاهدة فلسطينية. فكثيرون سيكافحون منعاً للتغيير، ولكنّ التغيرات تبقى جديرة بالانتباه على الرغم من ذلك، ويمكن القول إنّها ستأتي أكبر مما قد تكون عليه في الحالات الأخرى، فسيتوجب على سوريا إعادة تقييم موقفها، ما سيجبر إيران على التصرف بالمثل، وبدورهما سيُكرهان المجموعات المجاهدة الفلسطينية واللبنانية على حذو حذوهما. ما من نتيجة مضمونة، ولكن قد يتأتى عن عملية إعادة التقييم الموحدة ابتعاد جماعي وملحوظ عن العنف والمواجهة العسكرية.


5- في الوقت الحالي، لا يعتقد الإسرائيليون ولا الفلسطينيون أنّه سيتم التوصل إلى اتفاق؛ ليس هذا وحسب، لا بل إنّهم يكادون لا يبالون. فقد ألفوا الحلول الممكنة إلى درجة اللامبالاة، الحلول الموعود بها إلى ما لا نهاية، والمؤجلة إلى ما لا نهاية. دولة فلسطينية، وحدود نهائية معترف بها، وتقسيم القدس: تلك حلول ممكنة ما عادت تثير حماسة كبيرة، سواء تأييداً لها أو اعتراضاً عليها، بل تململاً شكاكاً. وثمة أمر أسوأ بكثير من فقدان الثقة بحل الدولتين، إنّه فقدان التوق إليه.
عوضاً من ذلك، ينصبّ التركيز على شؤون محلية وإقليمية. إنّ الحركة الوطنية الفلسطينية، التي كانت ثائرة ذات مرة، ونُسيت قضيتها منذ أمد بعيد، تفتقد التماسك وبرنامجاً سياسياً ومركز قوة شرعياً. فما يشغل الفلسطينيين هو النزاعات الداخلية، أكانت ضمن فتح أو بين فتح وحماس. أما الإسرائيليون، فبعد أن خاب أملهم تماماً من الفلسطينيين، وازدادت قناعتهم بأنّهم لن يكونوا مصدر خير كبيراً، يتشبثون بالمسائل الداخلية التي تشغل بالهم: فاعلية اتخاذ القرار على أعلى المستويات، ومستقبل الجيش، والانقسام الديني/ العلماني، ومسألة كيفية التساكن مع أقلية عربية يتزايد إثباتها لنفسها تدريجياً.
في الوقت عينه، تلوح في الأفق عوامل إقليمية. فقد ضعفت السياسات الفلسطينية أمام المساعي الأجنبية لتأسيس مجموعات محلية وتسليحها والتأثير فيها، والمعركة بين ما يُدعى المتطرفين والمعتدلين تلقي بثقلها. وتهديد إيران وحزب الله لإسرائيل، سواء كان حقيقياً على الأرض أو كامناً في الأذهان، يحل محل أي أمر آخر. فبعد أن أصبح النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عالقاً بين السياسات المحلية والإقليمية، تراجعت أهميته ومركزيته، وقد صار صعباً تخيّل التوصل إلى تسوية دائمة قابلة للتطبيق من دون إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وإعادة ترتيب موازين القوى الإقليمية. ثمة خيارات متاحة. فيمكن أن يعترف الفاعلون الإقليميون والدوليون بأنّ السعي إلى السلام وهمٌ من دون الإجماع الفلسطيني، وبوسعهم أن يواجهوا الواقع القائل إنّ التوصل إلى مرحلة أخيرة تتصف بالاستقرار أمر متعذر من دون سوريا، أو يستطيعون أن يراكموا تفكيراً رغبياً فوق تفكير رغبي، ويأملون أنّ أولمرت وعباس سيجدان، بطريقة ما، القوة في خضمّ ضعفهما؛ وأنّه سيتم التوصل، بطريقة ما، إلى اتفاقية سلام؛ وأنّ المعارضة العنيفة، بطريقة ما، لن تنسفها؛ وأنّ الاستقطاب الإقليمي، بطريقة ما، لن يكون له دوره؛ وأنّ السيطرة ستتم، بطريقة ما، على الدعم الشعبي؛ وأنّ الاتفاقية، بطريقة ما، ستُطبَّق. في تلك الحال، سيكونون بعيدين عن اتّباع استراتيجية محددة، سيكونون مطاردين وهماً محفوفاً بالمخاطر.


* عن «نيويورك ريفيو أوف بوكس» ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية
** حسين آغا هو عضو مشارك في كلية سانت أنطوني في جامعة أوكسفورد. وروبرت مالي هو مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، وأحد مستشاري المرشح الرئاسي الديموقراطي لشؤون الشرق الأوسط، باراك أوباما. وكان قد عمل مساعداً للرئيس بيل كلينتون لشؤون الصراع العربي الإسرائيلي.