ناصيف قزّي *
«المحكمة قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... تلك هي المعادلةُ المثاليَّةُ التي أتحفنا بها، أخيراً، الرئيس فؤاد السنيورة، غداة زيارة المستشار القانوني الأمميّ للبنان، بحثاً عن حلٍّ لقضية المحكمة ذات الطابع الدولي... الرئيس ــ الملك الذي لم يحرّك ساكناً تجاه الحالة الشعبيَّة الاعتراضيَّة العارمة على حكومته الفاقدة للشرعيَّة الميثاقيَّة... الرئيس ــ الوريث، المستمر في تسلم أدق الملفات وأخطرها منذ عام 1992... وما أدراك ما لتلك الملفات من ترددات سلبية على الشأن العام.
«المحكمة قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وزعيمُ الأكثريَّةِ النيابيَّة المسروقة في غير دائرة من لبنان، يُكمِلُ تجوالَه عبر القارات، بحثاً عن رئيس عتيد لجمهوريَّة، هو أعجَزُ من أن يفهم أنَّها تقوم في المبدأ، لجهة مرتكزاتها الأساس، على أنقاض النظم الاستبدادية والملكيَّة والبورجوازية وما إليها... جمهوريَّة، عمادها الدستور والقوانين.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وتيَّار حبِّ الحياة، يبحث عن رئيسٍ، ممسوك الإرادة واللسان، ويحرص كل الحرص على مصالح الأصدقاء والأولياء من عرب وأجانب... ممن يُشرفون بأنفسهم، وفي أفظع جريمة ضد الإنسانيَّة، على دوائر الهجرة الممنوحة لنا قسراً وإذلالاً، منذ نيِّفٍ وثلاثة عقود... رئيس يوقِّع كل المراسيم من دون سؤال، من تلك المتعلقة بإعفاء سوليدير من الضرائب الى ما شاء الله، الى تلك المتعلقة بالتعويض عن خسائر شركات الخلوي والكسارات وما إليها.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وعرب «قمة الرياض» يمهِّدون الطريق لإخراج حق الفلسطينيين في العودة الى ديارهم، من النفوس قبل النصوص، والتعويض عليهم، كما بشَّرنا بذلك ملك الأردن... وريث العرش الذي سحق الثورة الفلسطينيَّة يوماً، وطردها الى لبنان عام 1969... النجمُ الذي اكتشف قبل Habel، التلسكوب الدائر في الفضاء، أن الهلال صار شيعياً.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وإقامة المستوطنات للّاجئين الفلسطينيين، تجري على قدم وساق منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، مع بروز «أوجيه ليبان»، من مشارف السعديات عند نهر الدامور، الى تلال كفرفالوس، ناحية جزين... ولكي يتم ذلك بصمت، كان لا بد من تقدير الخطر الآتي من بلاد الفرس... والذي يتمثل في لبنان بسلاح المقاومة... السلاح الذي أصبح، بين ليلة وضحاها، في قاموس الأكثريَّة وحكومتها، سلاحاً غير شرعي.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وصوت البيك بحَّ من التحذير من «خطر التمدد الشيعي في الريحان» في اتجاه معبر تومات نيحا الى بقية أطراف الإمارة، وفي بعض مصايفها، قبل أن يدرك الرئيس الأسبق، الأمين على ثالوث «الله والوطن والعائلة»، الثالوث الذي بات على شفير الانفصام... قبل أن يدرك «أن في لبنان حضارتين». بُحَّ صوت البيك، والمهجَّرون غارقون في تهجيرهم بعد ربع قرن، وحقوق بعض أهل الجبل مرهونة لتقدير شخصي همايوني، لا يقوم على أي أساس.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... ومفوض «مكتب الجبل» يكشف، من على منبر الصرح، مواصفات الرئيس العتيد، القادر على تنفيذ ما هو مخطط للبنان.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وكتبة الطائف وبقاياه، يجتهدون لجعل الاستحقاق الرئاسي، ولو بمن حضر، على مقام رغباتهم والنزوات.
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وحارس العدالة يطلق المجرم الجبيلي، قبل أن يبلغنا نتيجة الإجابات في شأن الدستور من علماء الفرنجة وفلاسفة الإغريق.
وبعد، أيعقل أن يغرق غالبية نواب «الحريرية السياسية» ووزراء حكومتها السنيوريَّة... وبقية سياسيي الزمن الهزيل، في تفسيرات وشروحات بعيدة كل البعد عن مبادئ الأخلاق وأحكام الدستور... وكأنهم مخدرون أو في سبات عميق؟ أيعقل ألّا يبقى لهم ضمير؟
لا... يا سامحكم الله...!
إن لمن السذاجة بمكان أن يظنَّ أحدنا أن القضيَّة هي قضيَّة حكومة أو قضية محكمة ذات طابع دولي. القضيَّة، أيها الناس، هي قضيَّة وطن...! القضيَّة، كل القضيَّة، هي في تمرير الحل الذي اندلعت الحرب اللبنانية، ومنذ ما بعد أحداث الأردن عام 1969، لأجله... والذي يكمن في تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي قضية فلسطين، على حساب لبنان وشعب لبنان...!
«المحكمةُ قضيَّةٌ أخلاقيَّةٌ قبل كلِّ شيء»... وقد تحددت كل معالم الصراع... فالصراع بين من يريد لبنان وطناً بديلاً للفلسطينيين… وبالتالي فدرالياً، يحاكي طموحات أمراء الحرب وشيوخ المال وغرائزهم... ومن يراه، ولا يزال، وطناً نهائياً لجميع أبنائه، رسولياً في تاريخه ومعناه، تعددياً في وحدته، توافقياً في عقده الاجتماعي، ديموقراطياً في نظامه… وعلمانياً في توجّهاته.
فإلى متى سيظلّ أهل السلطة والمال يهزأون بعقول الناس… فيصفون لهم الأمور على غير ما هي عليه؟
الى متى سيستمرُّ توظيف المحكمة في الابتزاز السياسي؟ وهل تقوم عدالة وسط هذا البازار؟ ثم، أين هي لجنة التحقيق وتقاريرُها؟ وأين أصبح المتهمون؟
توظيف المحكمة الدوليَّة سياسياً... تلك مهمة لم تكن على طاولة الحوار. أما ربط المحكمة بالحكومة على طاولة التشاور، فكان من إبداعات زعيم الأكثريَّة، الذي ما لبث أن انقلب عليه. وفي هذا قمة التوظيف السياسي. فباطل كل حل لا يمر تحت عتبة الدستور وفي دوائر المؤسسات الدستوريَّة... ومسؤوليَّة حكومة السنيورة عن كل الهرطقات الدستوريَّة كبيرة، وكبيرة جداً.
صحيح أن كل قضية هي أخلاقية قبل كل شيء... وهذا هو نطاق الضمير... لكن للقضايا بعداً حقوقياً أبعد بكثير من حيز الذات الفردية... فالدستور مع القوانين، إنما يجسد ضمير الأمة... وينضح بمفهوم العدالة الشاملة. أوليس هذا هو التحدي الأكبر لأساتذة القانون الدستوري في لبنان؟ وهل يجوز الصمت أمام المفاعيل الخطيرة التي قد تنجم من عدم احترام الدستور؟
لا... يا سامحكم الله...!
ولماذا التسلح والتهويل بالفتنة... إن لم يكن لتغطية السموات بالقبوات؟ أوليس في ذلك ضعف في الموقف وفقدان للحجة والبرهان؟
ومن تراه يريد إلغاء من؟ وهل يعقل أن يرضى محب للبنان ومدافع عن سيادته واستقلاله وكرامة شعبه، بأن يتحول الوطن الرسالة الى ساحة شغب...!؟
ألا تقضي الديموقراطية بأن يحلَّ الناس خلافاتهم باللجوء الى صناديق الاقتراع بدل صناديق الخرطوش.
لا... يا سامحكم الله...!
ألا فاعلموا يا أهل السلطة، أن الأخلاق بنيويَّة وإن مكتسبة، ومركوزة في شخصيَّة الإنسان... والسلوك الأخلاقي شموليٌّ لا انتقائيّ... فلا يخضع لمصالح خاصة ولا لرغبات فرديَّة... إنه ركن من أركان التناغم والتوازن في المجتمع... فإما أن يكون هو ذاته إزاء كل شيء، وفي كل مكان وزمان... وإما لا يكون.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة