محمد بسام *
يعاني لبنان، «الفدرالية الطوائفية» غير المعلنة، معضلة الهوية السياسية بين «العربية» و«اللبنانية». فقد كان المسيحيون يفصحون، تاريخياً، عن خشيتهم من الانتماء العربي لأمرين: أولاً، لأن المسلمين يخلطون بين الإسلام والعروبة على الرغم من لافتتها العلمانية. وثانياً، لأن القومية العربية هي، في الواقع، علمانية ملتبسة وذات نزعة شوفينية، لا تراعي حقوق الأقليات العرقية والدينية وخصوصياتها. وبالتالي يعاني المسيحيون «عقدة الخوف» من العروبة (التي كانوا من أوائل المنادين بها)، لأنها تطرح وحدة العرب في دولة إمبراطورية عربية يضيعون فيها كأقلية لبنانية ذات خصوصية معينة، كما كانوا ضائعين كأقلية مسيحية في الامبراطورية العثمانية الاسلامية. لذلك نظر المسيحيون، تاريخياً، إلى فكرة الهوية «اللبنانية» انطلاقاً من نظرية لبنان «اللبناني» ذي الأصول الفينيقية، لبنان ــ الملجأ، بلد الحريات والأقليات. ومذّاك انقسم اللبنانيون الى تيارين سياسيين: «لبنانويين» بغالبية مسيحية ينادون بالهوية «اللبنانية للبنان منذ ستة آلاف سنة، و«عروبيين» بغالبية اسلامية ينادون بالهوية «العربية» للبنان منذ تبلور فكرة القومية العربية.
ومن المفترض، مبدئياً ودستورياً، ان يكون ميثاق الطائف عام 1989 «المتوازن»، قد حسم هذه المعضلة بنصّه على ان «لبنان عربي الهوية والانتماء، وجزء لا يتجزأ من البلاد العربية» (بما يرضي المسلمين). ولبنان «وطن نهائي لجميع بنيه» (بما يطمئن المسيحيين على نهائية كيان لبنان، وعدم ذوبانه في وحدة عربية (امبراطورية) ذات أغلبية إسلامية).
ولكن الواقع ان المواثيق السياسية هي انعكاس لموازين القوى الاجتماعية والاقتصادية، وان التاريخ متحرّك، والزمن يحفل بالتطورات المؤثرة في موازين القوى القلقة. لذلك يقول د. إدمون رباط: «ليس في إمكان الميثاق (أي ميثاق) ان يبقي الى الأبد على التوازن بين الطوائف في لبنان، ففي إمكان القوى النابذة في كل وقت الظهور والتسبب في تفكيك لبنان». هذا ما أصاب ميثاق عام 1943 عندما استقوت «القوى النابذة» المسيحية في عهد الرئيس كميل شمعون بالأحلاف الغربية، ما أدى الى ثورة عام 1958. ثم هذا ما حصل «للقوى النابذة» الاسلامية عندما استقوت بالقوى التقدمية العربية وبالثورة الفلسطينية، ما أدى الى الحرب الأهلية اللبنانية 1975 ــ 1989. وهذا ما أصاب «ميثاق الطائف 1989»، حيث إن التطبيق الانتقائي لبنود هذا الاتفاق، لمصالح فئوية خاصة، والاستقواء بالوجود السوري، بديا وكأن هناك هيمنة اسلامية حلت محل هيمنة مسيحية أفلت. وهذا ما يبدو انه قد يحصل اليوم عبر الاستقواء بالأميركيين والفرنسيين، بما يوحي بالدعوة الى الانقلاب على اتفاق الطائف وتوازناته التي كلفت الكثير من التضحيات. فليعلم اللبنانيون ان الانقلاب على أي اتفاق من دون وجود البديل «الرضائي» يقود الى الفتن والحروب!!
لذلك على الطرفين، الاسلامي والمسيحي، البقاء على التسليم بعروبة لبنان السياسية والحضارية، وبذل جهد مضاعف وصادق ومستمر للحفاظ على وحدة لبنان الكيانية الوطنية، والحفاظ على ميثاق الطائف (ولو مرحلياً) وحسن تطبيقه وتطويره، حسب الحاجة، حتى الاتفاق على البديل «الرضائي»، درءاً لخطر «تفكيك لبنان». وبالتالي على اللبنانيين («اللبنانويين» و«العروبيين») تبنّي مجموعة قناعات وإجراءات وطنية منها:
1 ــ على «اللبنانويين» (بغالبيتهم المسيحية):
ــ عدم توزيع شهادات في «اللبنانية» و«النوعية»، وأن يكونوا صادقين في تسليمهم بعروبتهم وعروبة لبنان «النهائية»، وعدم معاداتها ضمناً أو عملياً، وذلك كي يستمر «العروبيون» (بغالبيتهم الإسلامية) في صدق تسليمهم بـ«نهائية» لبنان وطناً «نهائياً» لهم. فكما راعاهم العروبيون بكبت طموحاتهم الوحدوية العربية، على «اللبنانويين» ألا يقطعوا مع القضايا العربية المهمة والمصيرية، (كالصراع العربي ــ الصهيوني ومشروع «الشرق الأوسط الكبير» وغيره من المخططات الاستعمارية).
ــ الإقلاع عن أية رهانات على تبدل الظروف أو الاستقواء بالخارج للارتداد عن العروبة الى «انعزالية لبنانية». لأن قدرهم ــ وقدر المسيحيين في الشرق ــ مرتبط بالعالم العربي. ولا بأس هنا، من استعادة مقالة للمطران جورج خضر (النهار 6/5/1997)، التي تبقى قائمة بدلالاتها حتى اليوم، حين يقول: «لم يعد في وسع أحد ان يحمي مسيحيي لبنان. فالولايات المتحدة انسحبت من فيتنام (وتخلّت عن إيران الشاه) التي هي أهم من لبنان بالنسبة إليها... مع هذا كله فإننا نعالج مشاكلنا بعقلية القرن الماضي... ليس في وسعنا إلا ان نعيش معاً مسلمين ومسيحيين مرتبطين بالعرب. ان ضمانتنا الوحيدة هي الجار العربي... والانعزالية هي الانتحار. يجب على «الفكرة اللبنانية» ان لا تصبح طائفية ضيقة توزع شهادات في «اللبنانية». ثم انكم في محيط عربي مسلم لا يمكن تجاهله... وواجب المسيحيين اليوم ليس المحافظة على لبنان كواحة للحرية فحسب، بل المحافظة على مسيحيي العالم العربي».
ــ الالتفات الى التوازنات المستجدة الديموغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي لم يعد «اللبنانيون» المسيحيون يشكلون فيها أرجحية مطلقة. وبالتالي لم يعد في إمكانهم التفرّد المطلق بالسلطة وتحديد الهوية السياسية للبنان. وعلى المسيحيين، بخاصة، ان يدركوا انهم لم يعودوا الوحيدين بوابة الغرب الى الشرق، وبالعكس. ولبنان «اللبناني ــ المسيحي» المتمايز عن العروبة لم يعد حاجة أوروبية، فالبوابات العربية والاسلامية النفطية والاستراتيجية أصبحت متعددة ومشرّعة. ولم يعد المسيحيون يتفرّدون بوجود ظهير خارجي (أوروبي أو أميركي)، يستقوون به على مواطنيهم المسلمين، فيستأثرون بالسلطة وتحديد الهوية السياسية للبنان. فقد أصبح لشركائهم المسلمين اللبنانيين، أيضاً، ظهيرهم العربي والاسلامي (إيران مثالاً) الذي يشاركهم الاهتمام بهوية لبنان وسياساته الخارجية. فعلى المسيحيين (كما جاء في بيان «المسيحيين التقدميين» المحرر 8/6/1975) ان يساهموا «في خلق عروبة منفتحة خالية من مضمون ديني، ما يجعلهم عرباً خلّصاً، بل طليعة عربية»، كما كانوا من دعاتها في أواخر القرن التاسع عشر. وهنا يجب ان يتذكر المسيحيون ما جاء في الإرشاد الرسولي في «السينودوس من أجل لبنان»، ودعوة قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، في زيارته للبنان عام 1997، عندما دعا المسيحيين اللبنانيين الى الإيمان بعروبتهم والاعتزاز بلغتهم العربية والاندماج في مجتمعهم العربي.
ــ على «اللبنانويين» الاستقلاليين السياديين، وهم يخشون الذوبان في وحدة عربية، ألا يغالوا في استقلاليتهم عن محيطهم العربي. فلا انعزال في زمن العولمة. والسيادة والاستقلال للشعوب أصبحا نسبيين، والعلاقات الدولية المتكافئة غدت ضرورة حياتية (وخير مثال هو مشروع «الوحدة الأوروبية»). فالحكمة السياسية تقتضي التعاون والتبادل المتكافئ (من دون أي استغلال أو تسلّط) مع القريب العربي قبل الغريب الأجنبي. فالسياسة تحكمها المصالح الحاضرة حيناً والتاريخ والجغرافيا أحياناً، فكيف بلبنان «العربي» ــ حسب دستور الطائف ــ الذي تجمعه بجواره الجغرافي العربي الروابط القومية التاريخية والمصالح الاقتصادية والحضارة والامتدادات الدينية المتعددة.
ــ وأخيراً تجدر الإشارة الى ان الأعباء القومية على لبنان «العربي» أضحت في حدها الأدنى، وخصوصاً في عصر الردة العربية والرضوخ للضغوط الدولية والاستسلام للتهديدات والإملاءات الاسرائيلية، حتى ليستطيع لبنان «العربي» ان يفخر بعروبته على كل العرب بعد تحرير أراضيه المحتلة (الجنوب اللبناني) من الاحتلال الاسرائيلي (25 أيار 2000 وتموز 2006) بفضل مقاومته الوطنية ــ العربية ــ الاسلامية.
2 ــ بالمقابل، على «العروبيين» (بغالبيتهم الإسلامية):
ــ الإخلاص في لبنانيتهم، والتسليم بصدق انتمائهم اللبناني، وبلبنان وطناً نهائياً لهم، كي يصدق «اللبنانيون»، والمسيحيون بخاصة، في عروبتهم.
ــ التشديد على علمانية العروبة (وتمييزها من الإسلام) لقطع الطريق على الطائفيين، وتخليصها من «شوفينيتها العنصرية»، لقطع الطريق على الانفصاليين العنصريين، وذلك باعتماد السياسة الديموقراطية.
ــ الارتقاء بمفهوم «العروبة» لتصبح «عروبة حضارية إنسانية»، كما جاء في بيان دار الفتوى الاسلامية عام 1975. وعلى المسلمين، قبل المسيحيين، الأخذ بقول الأب ميشال حايك: «على العروبيين في لبنان ان يكونوا سبباً لتجديد معنى العروبة وجعلها ذات قيمة إنسانية» (النهار 19/11/1975).
ــ على العروبيين المسلمين ألا يعملوا «لأسلمة» لبنان تحت ستار «التعريب»، كما حاول المسيحيون «نصرنة» لبنان تحت شعار «اللبننة» و«عقدة الخوف»، وإلا عاد المسيحيون الى البحث عن الحمايات الأجنبية و«التعاون مع الشيطان» لرفع ظلامتهم، كما حصل خلال الحرب الأهلية، وبخاصة عام 1982.
ــ على العروبيين الموازنة بين العروبة والسيادة اللبنانية، وألا يقبلوا بأية علاقات عربية غير متكافئة تمس بسيادة لبنان ــ الوطن.
ــ أكثر من ذلك، على العروبيين ألا يطرحوا (ولو مرحلياً) أي شكل اتحادي عربي مراعاة لمواطنيهم «اللبنانويين»، وبخاصة المسيحيين. يجب ألا يبقى موضوع الوحدة العربية خشية تاريخية ضاغطة لدى المسيحيين، ولا شعاراً واهماً، بمفعول رجعي لدى المسلمين، وخصوصاً ان واقع الدول العربية المزري الراهن يُخشى معه المزيد من التفتيت القطري (في شرق أوسط جديد) لا التوحيد. فلا وحدة عربية قسرية بين إخوة ألدّاء، ولا وحدة عربية من دون رضا وموافقة المسيحيين في لبنان. ولبنان أكبر من ان يبتلع أو يذوب في امبراطورية إسلامية أو عربية. وعندما تكتمل الظروف التاريخية المادية والمعنوية للوحدة العربية لن يستطيع أحد الحؤول دون تحقيقها.
* الخلاصة: ــ ان تقديم الانتماء الديني على الانتماء الوطني ــ العربي في لبنان يؤدي الى العزلة ويعزز الطائفية، وبالتالي يفسح في المجال للحركات السلفية الدينية: المسيحية والاسلامية. والسلفية المسيحية لا آفاق سياسية لها في خضم الشرق العربي ــ الاسلامي، فهي ليست أقوى من الحملات الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. أما السلفية الاسلامية فيضيق بها الاسلام والمسلمون المعتدلون، لما تطرحه من مفاهيم خاصة تقارب البدع الدينية، ولما تورِّط به العالم الاسلامي من ممارسات مستنكرة إنسانياً وتُنعت بالإرهاب الممقوت عالمياً. إن الحل الأمثل والجذري للمعضلة اللبنانية المركّبة، أي الطائفية والهوية السياسية للبنان، هو:
* الالتزام بـ«وثيقة الوفاق الوطني» وبدستور الطائف لعام 1989، وخروج اللبنانيين من تهويماتهم القوموية، والتسليم باستقلالية لبنان وسيادته وعروبة هويته في آن، وبكونه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، وإلا استمر خطر الفتن والحروب بين اللبنانيين.
* خروج اللبنانيين من مزارعهم الطائفية وتداعياتها السلبية على الهوية والانتماء الوطني، والعمل لبناء الدولة، الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنية الحقوقية لا الفدرالية الطوائفية الهجينة.
* استاذ في الجامعة اللبنانية