عبد الحليم فضل الله *
تتعرض المنطقة العربية لهجمة أميركية معروفة الوقائع والدوافع، لكن المشروع المرتبط بها أقل تحديداً ووضوحاً بالنسبة إلى كثير من أبنائها، وهو مثار جدل بين تياراتها الأساسية، فهذه تلتقي تقريباً على رفض حروب ما بعد 11 أيلول، الا انها تختلف في التعامل مع النتائج. وقد استفاد المشروع الاميركي من هذا التباين لمصادر مطالب محقة كالديموقراطية والاصلاح، واستيعاب الحيويات الناشطة حولها، معوّلاً على ضياع الفارق لدى البعض بين الأزمات البنيوية المزمنة (التخلف، الاستبداد)، والأزمات المحورية الراهنة (الاحتلال، الهيمنة...)، وعدم أخذه في الاعتبار ان معالجة المسائل الأولى لن تكون متاحةً في ظل انسداد الأفق الناجم من المسائل الثانية.
بعبارة أخرى، سجلت الادارة الاميركية نجاحاً ما في تجنيد مشاريع وطنية تحظى بقواعد تمثيل لا بأس بها وتستحوذ على عصبيات حية، في مشروعها الشرق أوسطي، الذي يدعو الى العبث بالجغرافيا السياسية للمنطقة وسعى الى إعادة تحديد هويتها ومكوناتها.
وتنقسم القوى ذات التمثيل في المنطقة الى فئتين: المنخرطين ولو عرضاً في المشروع الاميركي، والمناوئين له. تضم الفئة الأولى قليلاً من المتواطئين وكثيراً من المراهنين على نجاح هذا المشروع والمتحالفين موضوعياً معه، وتضم الفئة الثانية قليلاً من الخيارات العابرة للأوطان وكثيراً من المرتبطين بمصالح وطنية واجتماعية واسعة.
تقيم الفئة الاولى على مفارقة، لكون الكتل التي تمثلها هي في حالة عداء مبدئي وعام مع السياسات الاميركية، لكنها تنجذب للاصطفاف غير المباشر الواعي أحياناً خلفها لدوافع محلية صرفة. السبب في ذلك هو اضطراب الرؤية الاستراتيجية، التي تضع الخاص والمتمايز أعلى بما لا يقاس من العام والمشترك، فيعجز الوعي السياسي التقليدي في لحظة ما، لنقل إنها لحظة أزمة، عن التحلل من مفارقة الجمع مثلاً بين إدانة المشروع الاميركي عندما يلوح خارج الحدود والمساهمة فيه عندما يصبح داخلها. وقد منحت هذه المفارقة العديد من الموالين والمتواطئين والمستفيدين من سياسات الهيمنة فرصة اختراق جمهور يفترض انه معارض لها فيصبح من دون قصد متورطاً فيها.
صحيح ان هؤلاء لا يمثلون غالبية واسعة، لكن الاقلية التي يمثلون وازنة ومؤثرة وذات عمق شعبي لا جدال فيه، وفي وسعها تالياً جعل التعارض مع تلك السياسات سبباً في استثارة التناقضات المحلية، بدلاً من ان يكون مدعاة للتضامن، ووسيلة لبعث ديناميات تغيير متنامية.
إن ازدواج الهوية السياسية للفئات والكتل المذكورة، يعود الى وقوعها بين ثلاثة فراغات: الأول، فراغ بنيوي ماثل في انقطاع النمو السياسي منذ عقود، فلم تتمكن الدولة على رغم ما تمتلكه من أدوات سلطة وقمع، من امتصاص التوترات الاجتماعية وصهر العصبيات المتنابذة في خيار جامع. ان فشل مشروع الدولة الوطنية أطاح استقرار الهوية السياسية العربية التي طغى عليها أحد البعدين الاسلامي القومي، أو القبلي الطائفي، مع تراجع حضور البعد الوطني الموازن.
الثاني، فراغ سياسي تعبّر عنه قوى تستثمر في الجمود الشامل للاستيلاء على الحياة العامة، ناشرة فيها الانتهازية والفساد ومغلقة الأبواب أمام صعود التيارات الجديدة، متكلفة تضييق قاعدة المشاركة الى أدنى حد. ونتيجة الفصل بين التمثيل السياسي والمصلحة العامة أفلحت في استلحاق جمهور عريض على أساس ولاء زبائني أو تقليدي. داخل هذا الفراغ توفر لبعض البلدان غلاف ديموقراطي، استعمل في حصر الشرعية بالذين يمتلكون الموارد أو الممسكين بالحساسيات العصبوية غير البناءة.
والفراغ الثالث استراتيجي يتمثل في افتقار غالبية دولنا لعقيدة ثابتة ومستقلة في سياساتها الخارجية بما يخوّلها التعامل مع تحديات خطيرة. أسفر ذلك عن انكشاف تام تجاه الخارج وخضوع المنطقة لتدويل فائض بالمقارنة مع أي منطقة أخرى، وأدى الى تفكك إقليمي لم يسبق له مثيل، يغذّي أوهاماً كثيرة في صدارتها الظن بإمكانية الفصل بين قضايا المنطقة ومساراتها وأزماتها، من دون ان يكون ثمن ذلك السقوط المنفرد في التبعية، والاستنزاف الاضافي للسيادة والقرار المستقل.
تبدو الأزمة داخل هذه الفراغات ذات هرمية تنازلية، تنتهي الى جمهور يتميز بحيوية قصوى وحرية خلاقة عندما يكون رأياً عاماً بأفق إقليمي واسع، وتتعمق تبعيته لعوامل الجمود عندما يغدو جمهوراً سياسياً وانتخابياً بأفق محلي ضيق. وفي المحصّلة تجد قوى الممانعة نفسها مدفوعة بتيار جماهيري عريض معارض للهيمنة، لكنها في الوقت نفسه عرضة لعصبيات مستنفرة وخطيرة، ما قد يحوّل الصراع في أي لحظة الى صراع أهلي يهز الاستقرار ويعطل الوفاق.
هل يمكن التحلل من هذه المفارقة الآيلة الى تفتيت الاغلبية المناوئة للهيمنة على المستوى العربي والاسلامي، الى أقليات تتقاسمها ولاءات متناقضة ومصالح متنازعة على المستوى المحلي والوطني.
ان ذلك مرتبط باعتماد تفسير محدد للأزمة يتراوح بين تصورين.
يقدم الاميركيون التصور التالي: أزمة المنطقة هي بكل بساطة حاصل جمع الأزمات الداخلية في كل دولة، أي إنها ناشئة من تناقضات أصيلة لا من تناقضات وافدة، وبما ان دوافع الازمة داخلية ومحركاتها إقليمية فإن عناصر الحل لا بد من ان تكون دولية.
واجهت هذه الرؤية التي ترى ان التغيير الداخلي هو المدخل إلى إعادة صياغة المنطقة، اخفاقات عدة أملت على الادارة الاميركية تعديلاً في سياساتها الشرق أوسطية، وأعادت الاعتبار جزئياً لنظرية الاستقرار في مقابل نظرية الفوضى تمهيداً على ما يبدو لحشد الموالين في جبهة واحدة متماسكة، وتحضيراً لمجابهة يفترض ان تدور بين معسكرين حليف ومعادٍ. ومن التعبيرات الجديدة لهذا التغيير، تجديد التحالف مع النظام الرسمي العربي، وتوسيع الدور الاوروبي، وهو ما يدل أيضاً على ان الأميركيين بدأوا يتقبلون فكرة الانتقال من الهجوم الى الدفاع.
في المقابل، تقدم القوى المناوئة والمقاومة قراءة معكوسة، فالأزمة بنظرها، ناشئة من أسباب خارجية في صدارتها التدخل الاميركي الدموي، لكنها تعترف في الوقت نفسه، أو عليها ان تعترف، بوجود تأثير ما للانقسامات الاقليمية والتفسخ الداخلي. وبنظر هذه القوى فإن تفاقم المأزق هو نتيجة الالتحام الراهن بين السياسات الاميركية في المنطقة والتوترات المزمنة فيها.
يستفيد الاميركيون إذاً من التناقض التالي: وجود كتل كبيرة ترفض المشروع الاميركي في صيغه الاقليمية لكنها لا تتورع عن الاستفادة منه أو التحالف معه على الصعيد الداخلي، يساعد على ذلك وجود سياقين داخلي وخارجي غالباً ما يكونان مختلفين وغير متقاطعين، فالمشاريع الوطنية مملوءة بالخصوصية وكثيراً ما تكون واهية الصلة بما يدور حولها، أما القضايا التي تحظى بشبه إجماع شعبي، فإن حضورها الصاخب في المجال العربي والاقليمي لا يكتسب قيمة موازية على الصعيد الوطني والمحلي، ففي وسعها مثلاً ان تلهب مشاعر ملايين المواطنين العرب في رفض سياسات غربية محددة أو عدوان اسرائيلي ما، لكنها عاجزة عن تحويل السخط الى فعل سياسي داخلي ملموس وبنّاء، أو التقدم قيد أنملة في تقليل الولاء الذي تناله القوى التقليدية المتحالفة مع اميركا والغرب.
هذا الانقطاع بين المجالين المحلي والاقليمي، هو الذي يفسر من ناحية الحضور الرمزي فقط لقضايا النضال الكبرى في البرامج الوطنية، ومن ناحية ثانية القوة المتزايدة للظواهر ما فوق وطنية، التي لا تمتلك قواعد اجتماعية ثابتة وتحمل المجتمعات تبعة ممارسات لا تراعي البتة مصالحها وتسوياتها التاريخية.
إن تصويب اتجاهات التغيير والاصلاح يستدعي من القوى الحية، توفير صلات أشد وثوقاً ووضوحاً بين ما هو وطني وما هو اقليمي، بين ما هو داخلي وبين من هو خارجي، وعلى نحو أخص بين ما هو سياسي وما هو استراتيجي، يتم ذلك عبر توطين القضايا المشتركة (الموقف من الاحتلال ومن الهيمنة و...) في جداول الاعمال الداخلية وتسييلها من ثم الى حقل الممارسة السياسية المباشرة، وهذا يكفل لها تأثيراً مستمراً وحضوراً دائماً، ويجعل الموقف منها جزءاً من هوية القوى الفاعلة، فيستقيم التكامل بين المهمة النضالية المحورية المتمثلة في مناوأة الهيمنة ومقاولة الاحتلال والمهمات الوطنية الاخرى التي تبدأ بالاصلاح والتنمية والتحديث وتمتد لتشمل ما يقع في الطريق الى تحقيق المجتمع لآماله.
ان ذلك يقتضي أيضاً، زيادة المكون الاستراتيجي في المشاريع السياسية الوطنية المختلفة، ومنحه الصدارة خصوصاً في هذه المرحلة.
هذه المواءمة، المزدوجة والمتبادلة، بين المجالين المحلي والاقليمي تعزز حضور الاهداف الوطنية والاجتماعية في ائتلاف الممانعة والمقاومة الواسع، وتمنح المشاريع الوطنية في الآن نفسه رؤية استراتيجية ثابتة ومستقرة، وسيصب ذلك في مصلحة استعادة قضايا الاصلاح والتغيير من اليد الاميركية عبر مزج الحيويات المحلية والاقليمية في نسيج واحد متآلف. وفي وسعنا اغتنام اللحظة التي تبدو فيها الادارة الاميركية وقد تخلّت عن دعاوى التغيير والديموقراطية في مسعاها الراهن لانقاذ ما يمكن انقاذه، لتأكيد أن التناقض المركزي في المنطقة هو اليوم ليس بين التطرف والاعتدال.. بل بين قوى تغيير مناوئة للهيمنة، وقوى تقليدية متصالحة معها.
* نائب رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق