تحليل الكوميديا عمل بالغ الجديّة، ولا يقبل المزاح. كتب فرويد كتاباً في تحليل وتصنيف النكات بعنوان: «النكتة وعلاقتها باللاوعي». وهو يفرّق بين النكتة ذات النزعات، أي تلك التي ترتبط بمعنى باطني أو خفي، وتلك النكات المجرّدة التي جهدَ في إيجاد أمثال عنها.
والنكات تعبّر عن أسرار الفرد وأسرار شعب بحاله. فالعلاقة بين راوي النكتة ومُتلقّيها تعتمد على رابط ثقافي وسياسي بينهما، وإلا صعبَ فهم النكتة. ولبنان يزهو بروحه المرحة ونزوعه نحو النكات. لكن الدفاع عن النكتة بأنها بريئة يخفي بواطن تلك النكتة، أو بواطن الراوي (أو الراوية). أي أن نفي دلالات النكتة يعزّز نظريّة تعبير النكتة عن المُضمَر.
تزدهر البرامج الكوميديّة في لبنان منذ سنوات. الشاشات عديدة والمنافسة حادّة، وهناك خلط في المواهب: يُظن أن الممثّل يمكن له دوماً أن يكون كوميدياً، وأن مقدّم البرنامج يمكن له لو أراد أن يصبح راوي نكات. وإنتاج البرامج الكوميديّة أقلّ كلفة من إنتاج البرامج الدارميّة والمسلسلات، حتى في لبنان حيث إنتاج المسلسلات أقل كلفة من بلدان أخرى. والتنافس بين المحطّات يُشجّع البرامج تلك على تجاوز الحدود الاجتماعيّة ــ لكن سطحيّاً فقط. وهناك ما يميّز البرامج الكوميديّة اللبنانيّة عن بعضها، وهناك ما تشترك البرامج فيه من مميّزات وشوائب.
يُلاحظ أوّلاً غياب العنصر النسائي في هذه البرامج، وهذا ليس خاصّاً بلبنان. والمقارنة بين الكوميديا اللبنانيّة والأميركيّة تجوز، لأن مُتابع الكوميديا اللبنانيّة يلاحظ مدى تأثّرها أو تقليدها في كثير من الأحيان للكوميديا الأميركيّة. وجون بالوشي، الذي كان «أسطورة» الفريق الأوّل في «ساتردي نايت لايف» كان يرفض العمل مع النساء ويرفض تأدية أي دور مكتوب من نساء، وكان يقول إن النساء غير ظريفات. وهذه الفكرة الذكوريّة العنصريّة تجد طريقها إلى الفكر التلفزيوني السائد في لبنان. يذكرون فريال كريم أو شويكار كأنهما الاستثناء على القاعدة الذكوريّة. ووجدت الكوميديّات الأميركيّات صعوبة بالغة في اختراق صف الكوميديّين الذين لم يدعموا دخول النساء في هذا المجال. والكتابة الكوميديّة في أميركا تكاد تنحصر بخرّيجي جامعة هارفرد الذكور (ومجلّة «لامبون» فيها): هؤلاء موجودون في البرامج الكوميديّة المسائيّة وفي برنامج «سمبسون» و«فاميلي غاي» والـ«سيت كوم». وفي لبنان، الكتابة الكوميديّة شأن ذكوري محض. المرأة ديكور أو يُستعان بها لماماً للاستعراض الجسدي. وهذا الغياب النسائي ليس مسألة إنصاف فقط: هي تفسّر الحبكة الذكوريّة السوقيّة البذيئة في كل البرامج. والمشاركة النسائيّة في الكوميديا (كما في برنامج «لول» الذي بثته قناة «otv» العونية) كان في منافسة الذوق الذكوري في إطلاق النكات البالغة السوقيّة الجنسيّة. أي أن وجود المرأة يفسد جو المرح الذكوري المراهق السائد في البرامج.
لبنان بلد مُتناقض مثل أميركا التي تأسّست على قواعد مسيحيّة طهرانيّة متزمّتة، لكنها تصدّر للعالم ثقافة البورنوغرافيا (في أميركا إنتاج أفلام البورنو أكثر من إنتاج هوليوود). ولبنان، يعجّ برجال الدين ـ لا نساء دين في بلادنا ـ لكنّه يعجّ أيضاً بثقافة بورنوغرافيّة إباحيّة وبسوق مواخير غير رسميّة. تشعر أن لبنان يستعدّ، متى سُنَّت القوانين بذلك، كي يصبح عاصمة الفيلم الإباحي في الشرق كلّه، وجزء غير صغير من سياحة لبنان هي سياحة جنسيّة (منذ استقلاله، جذبت هذه السياحة، لا المناخ، أمراء وشيوخ النفط). لكن النكات الجنسيّة سهلة وهي تصلح لسن المراهقة، لكنها في لبنان متفلّتة وعابرة للطوائف والأعمار. لا تسمح الرقابة الرسميّة في لبنان بمشاهد الحب والجنس في الأفلام (التي تعكّر هناء المجلس الكاثوليكي للإعلام كما تعكّر هناء المجالس الطائفيّة الإسلاميّة) لكنها تسمح بمشاهد العنف وبتعليب وتسليع المرأة. تقديم النصح إلى الكوميديا يكون دوماً ثقيلاً، لكن هل أن البذاءة والسوقيّة الجنسيّة تضيف إلى الكوميديا اللبنانيّة أم أنها تسطّحها وتقيّدها في خيال مراهق والخيال الكوميدي على الشاشة اللبنانيّة يعاني من هوس في الإنتاج البورنورغرافي والسوقيّة الكلاميّة.
الجرأة السياسيّة ضعيفة جداً في الكوميديا اللبنانيّة، أو هي غير موجودة. السخرية من العامل السوري ومن جبران باسيل ومن المرأة والمثليّة هي الكوميديا السهلة، لأن هذه لا تزعج المحرّمات ولا تهين المقدّس ولا تؤثّر على السلطة الحاكمة. الكوميديا الجذريّة لا تلتزم بحدود الثقافة السياسيّة السائدة (أي تلك التي لا تشكّل تهديداً للنخبة (الطبقيّة ـ الطائفيّة الحاكمة). جورج كارلين الـ«ستاند أب كوميدي» الأميركي الشهير، كان لا يترك سلطة دينيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو اقتصاديّة إلا ويهشّمها ويفكّك خطابها. لم يكن يكترث لو أنه أزعج حتى جمهوره وتحدّى قيمَه. أذكر كيف كانت الصالة الممتلِئة في عروضه تتوقّف عن الضحك عندما يتطرّق لموضوع العدوّ الإسرائيلي، ويلقي على الحضور فكرته بصيغة السؤال. كان يقول (في كل عروضه): «لماذا يُطلق على الإرهابيّين الإسرائيليّين اسم كوماندوس ويُطلق على الكوماندوس الفلسطينيّين إسم إرهابيّين؟». أذكر أنه كلّما قال ذلك في عروضه في مدن مختلفة في أميركا كان فهم الفكرة يستعصي على الحضور، وكان بعضهم يفهمها وينزعج. هذه كانت تتناقض مع كل المفهوم السائد عن الإرهاب في أميركا. هذه كوميديا جذريّة. أما ليني بروس فكان ساخراً أكثر مما كان مُضحكاً لكنه سخر حتى من جاكي كيندي بعد أيّام فقط من اغتيال زوجها. أما ريتشارد برير فقد عرّى خطاب وفكر العنصريّة البيضاء بطريقة مؤلمة (مؤلمة لمن عانى من عنصريّة فكر التفوّق العرقي الأبيض). مرّ أكثر من عقد من الزمن على اغتيال رفيق الحريري ولا يجرؤ كوميدي واحد على تناوله بالسخرية. هذا دليل آخر على عدم تناول الكوميديا اللبنانيّة مواضيع جذريّة. مَن يتناول سطوة المصارف أو الفساد بتحديد أشخاصه؟ الحديث عن النفايات لا يُعتبر كوميديا جذريّة. طبعاً، ليس ضرورياً أن تكون الكوميديا جذريّة ومعظم الكوميديا هنا سطحيّة وغير جذريّة (وأصبحت البرامج المسائيّة المنوّعة هنا قائمة على التهريج والمقالب أكثر من الكوميديا السياسيّة الساخرة، وتناول دونالد ترامب لا يُعدّ جذريّاً لأن كل المؤسّسة الحاكمة معارضة له بجناحيْها). لكن لا يجب أن تعتبر البرامج الكوميديّة نفسّها أنها تقوم بمهام سياسيّة وطنيّة. التواضع واجب. باسم يوسف تجرّأ، مثلاً، على حكم محمد مرسي، وتعامل مع خلفه بكثر من الخفر.

دول الخليج تحظى
بكامل الاحترام
والتقدير والتبجيل

هناك حزب غير مُعلن في لبنان، وهو يضم العاملين والعاملات في الإعلام اللبناني، كما يضم العاملين والعاملات في منظمّات الـ«إن.جي.أو» الغربيّة. والباب دوّار بين القطاعيْن، أي بين الإعلام وبين الـ«إن.جي.أو». ويطمح العاملون والعاملات في الإعلام إلى الانتقال إلى عالم الـ«إن.جي.أو» لأنه يوفّر مرتّبات أعلى وفرصاً أكثر للسفر. لا ضيرَ في ذلك في حد ذاته، لكن التزاوج بين الإعلام والـ«إن.جي.أو» خلق ثقافة شبابيّة سائدة تبدو معالمها واضحة في التنقّل العادي على صفحات لبنانيّة في وسائل التواصل الاجتماعي. ولهذا العالم سماته السياسيّة: الصمت عن جرائم العدوّ الإسرائيلي والامتناع الصارم عن دعم أي حركة مقاومة للعدوّ الإسرائيلي. هذا التعبير عن الموقف السياسي المعارض للمشيئة الأوروبيّة والأميركيّة بات مُحرّماً، خصوصاً وأن مطالعة صفحات التواصل الاجتماعي للمتقدّمين والمتقدّمات على وظائف بات مألوفاً في سلوك المنظمّات الغربيّة. هل يظهر ذلك في الكوميديا اللبنانيّة؟ لماذا ليس هناك مثلاً أثر للسخرية من العدوّ الإسرائيلي؟ لا حديث عنه. فلسطين في كوكب آخر. لماذا يكون التعاطي مع دول الغرب (وضحايا الإرهاب في دول الغرب) مُغلّفاً باحترام وتبجيل كبيريْن؟ لماذا تنم الثقافة الكوميديّة عن عقليّة الرجل الأبيض - وهو ليس نحن؟
يمكن أن يُقال إن الحديث السياسي الجدّي غير مألوف. لا، هو مألوف. برنامج «بي.بي.شي» الذي تبثه قناة «lbc»، مثلاً، له مواقف جديّة سياسيّة (ووعظيّة أبو مِلحميّة) في مواضيع محدّدة. المقدّم، سلام الزعتري، نظر إلى الكاميرا بجديّة بالغة ووعظ عن وضع حلب الشرقيّة وضحاياها (لم تحظَ حلب الغربيّة وضحاياها باهتمامه). لماذا؟ وكيف يتقرّر أن الحديث الجدّي عن مأساة حلب الشرقيّة فقط من يستحق التغطية؟ هنا يتضح مدى تغلغل سطوة الـ«غروب ثنك» (أي فكرة الفريق الواحد) لدى عناصر القطاع الإعلامي ومنظمّات الـ«إن.جي.أو». أي التعاطف الإنساني مسموح، وحتى دعم الحروب مسموح، لكن بحدود مواقف الدول الغربيّة. وعليه فإن راجمات التنظيمات المسلّحة في سوريا لا تُدان فيما تُدان حجارة وسكاكين الشعب الفلسطيني. أي أن معايير التقييم ليست محليّة بل هي مُستبطنة من معايير الإعلام الغربي نفسه. إبداء الحزن والتعبير عن العواطف بات منبوذاً في إعلام العرب (كما في إعلام الغرب) إذا كان متعلّقاً بشعب فلسطين، لكنّه مسموح لو أن هذين التعاطف والحزن كانا متعلّقين ببعض العرب (مثل قسم فقط من الضحايا المدنيّين السوريّين: متى رأينا تعاطفاً مع الآلاف من المدنيّين السوريّين الذين قُتلوا بالقنابل والصواريخ الأميركيّة على مرّ السنوات الأخيرة؟) سلام الزعتري، مثلاً، لا ينظر إلى الكاميرا بجديّة ويتعاطف مع شعب اليمن. لا يتوجّب على الكوميدي أن يكون جديّاً أو وعظيّاً. هذا خياره. لكن لو أراد أن يكون وعظيّاً في موقف وليس في موقف آخر، فمن حق الجمهور أن يلاحظ وأن يستخلص معايير الكوميدي.
ومن ضمن السياسة الصارمة لحزب «اتحاد الإعلام - إن.جي.أو»، تغييب السخرية من حكّام الخليج. السخرية من الحاكم السوري ومن حكّام إيران، وحتى من حاكم كوريا الشمالية، مسموح ومُرَحّب به. لماذا يصبح حاكم كوريا الشمالية هدفاً للسخرية الدائمة (شبه اليوميّة على مواقع التواصل الاجتماعي العربيّة) وهو لا يكنّ ــ ولا يكنّ نظامه منذ تأسيسه على يد جدّه ــ عداء ضد العرب؟ على العكس، بقي النظام الكوري الشمالي متعاطفاً مع القضايا العربيّة على مرّ السنوات والعقود، وموقفه ضد العدوّ الإسرائيلي أكثر صلابة من مواقف كل الدول العربيّة: حتى النظام السوري دخل في حوار ومفاوضات مع العدوّ الإسرائيلي فيما تمتنع الحكومة الكورية الشمالية عن أي تواصل — مباشر أو غير مباشر — مع العدوّ الإسرائيلي. والأخبار الكاذبة عن كوريا الشمالية (مصدرها دوماً مصنع الأكاذيب في المخابرات الكورية الجنوبيّة، أو مخيّلة «مدوّن» صيني، مثل قصّة إطعام ضحايا الحاكم الكوري الشمالي للكلاب) تلقى الترويج الفوري من قبل الإعلام العربي ومن قبل الشباب العربي على مواقع التواصل.
أما دول الخليج فتحظى بكامل الاحترام والتقدير والتبجيل. المقدم جنيد زين الدين (وهو من أظرف المُقلّدين ويجمع بين الابتكار العفوي ومهارة التقليد) تحدّث في حلقة عن دول الخليج وقال إنها تطوّرت في كل المجالات وتفوّقت على لبنان. يا جنيد: هل تطوّرت دول الخليج سياسيّاً قيد أنملة في خلال السنوات الأخيرة؟ إن الوضع السياسي في البحرين في الستينيات أو السعوديّة في الخمسينيات كان أقلّ انغلاقاً ــ على انغلاقه وتزمّته وتسلّطه آنذاك ــ مما هو عليه الآن. التطوّر الخليجي هو مادّي فقط، ولا يطال أيّ مجال من الحياة السياسيّة أو الثقافيّة (إلا إذا اعتبرنا الاحتفاء بكيم كاردشيان وجيجي حديد من مظاهر الثقافة المحليّة في الخليج وهي كذلك). ولماذا يقف حس الفكاهة عند حدود دول الخليج؟ طبعاً، لأن الكوميديّين اللبنانيّين يريدون إبقاء أبواب العمل فيها وإقامة الحفلات مفتوحة أمامهم، وهم على علم أن دول الخليج حقودة ولا تتغاضى عن نقد أو سخرية (سُحبت جائزة العويس من الشاعر العراقي سعدي يوسف بسبب نقده لحكّام الخليج).
الآخر في نمط الكوميديا اللبنانيّة التلفزيونيّة هو التأثّر الكبير بالكوميديا التلفزيونيّة الأميركيّة وبمساوئها. ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في برنامج «بي.بي.شي» خصوصاً من المُقدّم سلام زعتري. لا حاجة إلى هذا الكم الهائل من التعابير الأميركيّة المحليّة ومن أنماط التعبير الأميركيّة الكوميديّة (حتى مشهد بصق القهوة أو الشراب). هل يظن مقدّمو تلك البرامج أن الشعب الأميركي يشاهدهم أو أن طريقهم إلى العالميّة هو في الإفراط في استعمال الكلمات الإنكليزيّة والتعابير الأميركيّة ونقل المشاهد الأميركيّة التلفزيونيّة؟ لا حاجة إليها على الإطلاق. لكن التأثّر بالكوميديا الأميركيّة يظهر أيضاً في اعتناق سطحي للسياسة (أي تلك المواقف التي لا تؤثّر على شعبيّة النجوم): مثل نقد القاذورات وانتقاد الكسّارات من دون تسمية والتذمّر من زحمة السير (مع عدم التطرّق لمسؤوليّة رفيق الحريري الذي رفض إنشاء شبكة مواصلات عامّة في لبنان) أو الحديث عن الغرب كأننا نحن جزء منه. وسلام الزعتري يستطيع أن يعلن تأييده لقائمة الحريري من دون أن يؤثّر ذلك على تقبّله، لكن إعلان موقف لصالح حزب الله ينهي المصادقيّة الكوميديّة في لبنان. واستضاف سلام الزعتري صحافيّاً لبنانيّاً على برنامجه وحدّثه الأخير عن القصف الأميركي لسوريا بإعجاب (وتحدّث سلام عن الـ«توماهوك» كأنها ألعاب أو كان القصف الأميركي لا يصيب مدنيّين ومدنيّات) وأنه ذروة الأخلاقيّة. لكن لو أن الزعتري استضاف أحداً يلهج بحمد القصف الروسي أو السوري، لما كان سمح له بالحديث من دون مقاطعة (أو لما كان قد استضافه أصلاً).

تجتمع البرامج
الكوميديّة في
إهانة المثليّين

وتجتمع البرامج الكوميديّة في إهانة المثليّين (المثليّات متجاهلات كما (غالباً) في الشرع الإسلامي لأن الفعل الجنسي يرتبط بأذهان الذكوريّين بالرجل وعضوه فقط). والسخرية من رجولة الفرد تكون ــ في تلك البرامج ــ عبر التعيير بالمثليّة (وهناك من يخرج عن الدور الكوميدي لينفي تلك التهمة من أساسها عن نفسه، كي لا يقطع بنصيبه). والسخرية من المثليّة لا تزال أسيرة التفكير النمطي التقليدي القديم، الذي على أساسه يشتهي كل رجل مثلي أن يمارس الجنس مع كل وأي رجل يصدفه في الحياة. لا انتقائيّة ولا أذواق عند المثليّين، يتصوّر أعداؤهم.
وتشير بعض البرامج الكوميديّة إلى الحريّات الإعلاميّة، لكنها تتحدّث عنها بانتقائيّة. يمكن الإشارة مثلاً (ودوماً) إلى ٧ أيّار (التي وصفها محمد قبّاني في حديث مع باحثة أميركيّة بأنها «كربلاء السنّة»)، أو إلى اعتداء (متكرِّر) من أنصار من حركة «أمل» على محطة «الجديد». لكن فرض النظام السعوي حظر محطات تلفزيونيّة عربيّة بحالها عن القمريْن الصناعيّيْن العربيّيْن لم يثر اعتراضات تُذكر. نظام عربي يقرّر أن من حقّه حظر محطات تنتقده من دون أن يثير ذلك اعتراضات من ليبراليّي وليبراليّات الإعلام اللبناني، أو من كوميديّي لبنان. لو أن إيران قامت بفعل ذلك، لكانت الاعتراضات في الشوارع ولكان الإعلاميّون قد تنادوا لرفع الأقلام والشموع والبقدونس، ولكانت الحلقات الكوميديّة قد خصّصت حلقات تضامن.
وجو البرامج الكوميديّة والاختلاط مع الإعلاميّين (من محطات معيّنة فقط) يضفي جوّاً من الـ«خوشبوشيّة» المنحازة، أو علاقة قربى مزعجة. تكفي مقارنة طريقة استضافة سلام الزعتري لبولا يعقوبيان مع طريقة استضافته الزميلة في «الأخبار» زينب حاوي. مع يعقوبيان، كانت المقابلة مزاحاً من الطرفين يتخلّله مديح من الزعتري لـ«جمال» يعقوبيان ولعملها الإعلامي. لا يتعرّض في المقابلة مثلاً إلى الدور الإعلامي لعائلة الحريري. اما في مقابلته مع زينب حاوي، فطفق يسألها عن حزب الله: أي أنه لم يرَ فيها إلا امرأة محجّبة وأن حجابها يدلّ على سياستها. لا بل هو اعتبرها ــ بسبب حجابها ــ ممثّلة رسميّة وناطقة باسم حزب الله. وفي أثناء المقابلة، سألها فجأة من دون مقدّمات، عن رأيها في مذيعات «إم.تي.في» وقهقه. قد تكون تلك النكتة مشتركة مع نفسه، أو مع غيره، لكنها كانت مزعجة ونافرة. هل الإعلام المحلّي يستبطن أيضاً قيم معاداة العرب والإسلام من الغرب؟ ألهذه الدرجة يعيش هؤلاء في جو الثقافة الغربيّة؟ والزعتري (الذي اعتقلَ من دون حق أو سبب بعد أيّام من ١١ أيلول فقط لأنه عربي في أميركا، مع أنه لا يكنّ اليوم أي عداء للحكومة التي ظلمته) يُفترض أن يكون ملمّاً بدرجة العداء الغربي للعرب والمسلمين بحكم إقامته في أميركا (وإقامته في أميركا لبعض سنوات عرّفته على مكامن الثقافة السياسيّة السائدة في أميركا، وهو اعترف في حديث إلى «الحياة» بعد إطلاق سراحه أنه كان يزعم أنه فرنسي في أميركا كي يهرب من الهويّة العربيّة وطلب من أصدقائه بعد ١١ أيلول أن ينادوه باسم أميركي).
الكوميديا منتعشة تجاريّاً في لبنان لكنها لا تؤذي السلطات الحاكمة. وهناك إفراط في تقليد الـ«ستاند أب كوميدي» الأميركي وهو نادراً ما يهزّ السلطة. والكوميديا اللبنانيّة تعرّفت إلى تجربة الفذّ زياد الرحباني، الذي فتح آفاقاً جديدة للسخرية الثوريّة وتهشيم القيم السياسيّة السائدة. أما الكوميديا اللبنانيّة فهي ترسّخ مفاهيم رجعيّة في المجتمع، بالنسبة إلى المرأة والمثليّة والطائفيّة. يستعين برنامج «بي.بي.شي»، مثلاً، بممثّلين عن طوائف، وكل يلعب دور نمطيّة الطائفة. وهذا النوع من الكوميديا الذي يعتمد على النمطيّة التصوريّة كان يجب أن ينتمي إلى ماضي الكوميديا لا إلى حاضرها. تخلّت الكوميديا الأميركيّة، مثلاً، عن نمطيّة الأعراق في الثمانينيات. والذي يرجع إليها يُقصى من الحقل اليوم. وتنميط الطوائف ليس متساوياً: هي تذكّر بكوميديا بيل ماهر الذي يقول إنه لا يعادي المسلمين بحجّة أنه يسخر أيضاً من اليهود ومن المسيحيّين. لكن هو يسخر في روتينه من صفات لا تُقارن بإصراره على ربط الإسلام كدين بالإرهاب. بكلام آخر، إن الكوميديا اللبنانيّة محافظة وهي غالباً سمجة، مع أن برنامج «بي.بي.شي» و«لهون وبس» فيهما الكثير من الظرف والابتكار والإضحاك والمهارة وحتى الإبداع ــ أحياناً ــ ويمكن أن يكونا أفضل لو أنهما عمدا إلى التقليل من السوقيّة الجنسيّة السهلة.
الهوس بالعالميّة أفسد الكوميديا اللبنانيّة، وهو يصيب الكوميديا المصريّة أيضاً. حالة باسم يوسف بليغة. ظنّ أنه سينقل إلى اللغة الإنكليزيّة في أميركا تجربته في الكوميديا، وهي فشلت بالكامل. لا يزال يُعرّف هنا، عندما يحلّ ضيفاً لدقائق في برامج كوميديّة، على أنه «جون ستيوارت مصر»، لا أكثر. والهوس بالعالميّة يصيب كل الفنون، وجلّ ما يمكن أن يصل إليه العربي هو ما وصلت إليه هبة طوجي في باريس: أي الفشل في برنامج هواة لفنّانة محترفة (طبعاً، يسهل بعدها لوم اللوبي الصهيوني على فشلها). الكوميديا المحليّة لا تنجح ما لم تنسَ الجمهور الغربي. والتأثّر بكوميديا فرنسا، أو أميركا خصوصاً في حالة الكوميديا التلفزيونيّة اللبنانيّة، يسيء إلى الكوميديا ويفشل في نقل أصحابها إلى الغرب. والكوميديا الأميركيّة ليست مثلاً يجب أن يُحتذى بالضرورة. إن برنامج «ساتردي نايت» المصري أفضل بكثير من النسق الأميركي الباهت الذي فشل في إضحاك إلا طبقة إعلاميّي واشنطن. الفن لا يحتاج إلا إلى التغريب كي ينجح. والكوميديا اللبنانيّة، كما في تجربة زياد الرحباني تنجح ليس فقط في عكس أهواء وعيوب الجمهور، وإنما أيضاً من خلال تغيير أهواء الجمهور وتفكيك خطابه، أو التأثير فيه على الأقل.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)