ليس للإرهاب تعريف رسمي موحّد. كلٌّ يعرّفه على هواه وبما يخدم اغراضه. غير ان للإرهاب لغة واحدة سائدة، هي العنف بـ«لهجات» متعددة. أسوأ اللهجات العنفُ الأعمى بمفرداته جميعاً.العنف لغة شائعة بين الدول والتنظيمات والأفراد. عندما تنطق دولةٌ بالعنف فهو «إرهاب الدولة». بعض الدول، كـ«إسرائيل»، ينطق بالعنف علناً وبلا هوادة. بعضها الآخر، كأميركا، ينطق به مباشرةً بطائرات من دون طيار، او مداورةً بأجهزة استخبارات وتنظيمات ارهابية محترفة تؤجر خدماتها مقابل أجر مادي او سياسي.
بعض التنظيمات «الدينية» ليس مجرد أداة او مؤجر خدمات. انه كيان سياسي له ايديولوجيا واهداف واجهزة ونهج في العمل. الأمر نفسه ينطبق على التنظيمات الإرهابية «العلمانية».
صحيح أن بعضاً من التنظيمات الدينية (والعلمانية) الإرهابية يؤجر خدماته لدول وحكومات واحزاب وشركات وافراد، لكنه يفعل ذلك في اطار التقاء اغراضه، او عدم تعارضها، مع اغراض الجهة المستأجِرة.
لعل تنظيمَي «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش» و«جبهة النصرة» أبرز تنظيمات العنف الاعمى في حاضر العرب. كلاهما ينتمي فكرياً، إلى حدٍّ ما تنظيمياً، الى «القاعدة». كلاهما يؤجر خدماته في اطار التقاء الاغراض بين المؤجر والمستأجر.
تلاقت الاغراض، مرحلياً وجزئياً، بين «داعش» و«النصرة» من جهة، واميركا من جهة اخرى في ساحتي العراق وسوريا. غير ان إفراط كِلا التنظيمين في استخدام العنف الاعمى لأغراضهما الخاصة ادى الى التفريط بأغراض أميركا وحلفائها في الساحتين العراقية والسورية، ما حملَ واشنطن، بنصيحةٍ من لندن، على إلغاء عقد ايجار الخدمات او تعليقه في الأقل. اميركا اوقفت، على ما يبدو، عمليةَ تمويلهما وتسليحهما عبر تركيا. بريطانيا اتخذت قراراً صارماً: مَن يشارك من مواطنيها في مشهدية العنف الاعمى (الإرهاب) في سوريا والعراق يخسر جنسيته.
ربما للرادع المالي والتسليحي، كما للرادع الاخلاقي والقانوني، تأثير في قياديي تنظيمات العنف الاعمى الاقل تعصباً ويأساً، لكن لا تأثير مطلقاً لذينك الرادعين في الاعضاء المعبّئين والمغلَقين والمصممين على الشهادة (الانتحار) لمرضاة رب العالمين او ما يظنون انه يصبُّ في هذا الاتجاه.
بيد ان لتنظيمات العنف الاعمى نتاجاً آخر غير القتل والتدمير. انه الأسلمة بمعنى إكراه غير المسلمين، ولا سيما المسيحيون، على اعتناق الإسلام تحت طائلة القتل او... التهجير. هذا ما حدث للمسيحيين السوريين في منطقة القلمون، بلدة معلولا التاريخية تحديداً، وحتى للمسلمين الدروز في منطقة جبل السمّاق (18 قرية) بمحافظة ادلب.
الدروز مسلمون ديناً، وعلى المذهب السنّي الحنفي في احوالهم الشخصية. التزم معظمهم الحياد مذ اندلعت الحرب في سوريا بعد «الربيع العربي» المزعوم. المسيحيون هم، تصنيفاً، من اهل الكتاب وينطبق عليهم، كما يشملهم، مدلول الآية القرآنية الآمرة: «لا إكراه في الدين». مع ذلك، تعرّض الدروز، كما المسيحيون، لعقوبتَي التكفير والتهجير.
آثار التكفير والتهجير مقلقة ديموغرافياً وجغرافياً في العراق وسوريا ومصر والى حدٍّ ما في لبنان. فقد كان في العراق عشيةَ حرب اميركا العدوانية عليه عام 2003 نحو مليون ونصف مليون مسيحي، لم يبقَ منهم سوى 250 الفاً، اي ان نحو مليون وسبعمئة الف قتلوا او هُجروا او اكرهوا على اعتناق الإسلام.
كان في سوريا عشية اندلاع «ثورة» الربيع العربي المزعوم نحو مليوني مسيحي، بقي منهم اليوم نحو 500 الف، بينما جرى تهجير او أسلمة الآخرين.
كان في مصر عشية ثورة يناير 2011 نحو عشرة ملايين مسيحي قبطي، هاجر او هُجّر منهم، ولا سيما في ظل حكم الإخوان المسلمين، نحو مليون ومئة وخمسة وعشرين الفاً، وأُرغم عدد منهم على اعتناق
الإسلام.
في لبنان لم يتعرض المسيحيون لعمليات تكفير واضطهاد، لكنهم عانوا ـ شأن المسلمين ـ حروباً داخلية واضطرابات امنية متواصلة، الامر الذي حمل الكثير من اهل البلاد على الهجرة طلباً للامن والامان والرزق.
لئن دعت واشنطن قادة دول المنطقة الى وقف تمويل «داعش» و«النصرة» ووقف تدفق المقاتلين الاجانب الى سوريا، فإن الوجه الآخر للمشكلة لم يحظَ بعد بأي معالجة. فالإرهاب ليس لغةً وسلاحاً فحسب، بل هو ثقافة ايضاً. ثقافة الإرهاب، بما فيها ثقافة التكفير وعدم الاعتراف بالآخر المختلف، قائمة ومنتشرة وناشطة على مستوى عالم العرب، وما لم تجرِ مغالبتها بثقافة اخرى انسانية وفاعلة، فإن نهج العنف الاعمى والتكفير والتهجير سيبقى سائداً.
ما العمل؟
الدين عامل فاعل في الحياة عموماً وفي السياسة خصوصاً. لعله الوسيلة الرئيسية التي استعملها اهل السلطان في الداخل من اجل الضبط والربط وتدويم ثقافة الطاعة والولاء. كذلك استعملتها قوى الاستعمار والاحتلال والهيمنة الوافدة من الخارج للتفريق بين ابناء الشعب الواحد في الداخل من اجل السيطرة على الموارد الطبيعية واستغلالها ولترسيخ حكم الوكلاء
والحلفاء.
آن الأوان لقيام اعلى المراجع في الاديان جميعاً بعقد مؤتمرٍ علمي - سياسي لمعالجة ثقافة التكفير والترهيب في العالم اجمع، ولا سيما في عالم العرب. لعل شيخ الازهر هو المرجعُ الديني الاكثر نفوذاً واستقلالاً وقبولاً لأخذ زمام المبادرة من اجل الاتصال والتواصل مع سائر المراجع الدينية والقيادات العلمانية بغية عقد مؤتمر جامع وجدّي على مستوى عالم العرب لبحث مسألة ثقافة التكفير والترهيب، ولإيجاد المناهج والآليات والوسائل اللازمة لمعالجتها وازالة آثارها، ولوضع اسس موضوعية لتوليف ثقافة انسانية مقاوِمة قوامها الحرية والتحرر والتسامح والرحمة والعدالة والمساواة امام القانون وفي تكافؤ الفرص.
ثمة حاجة استراتيجية لإشعار الجماعات الظلامية وناشري ثقافة الجاهلية المعاصرة والعنصرية بأن القوى الحيّة في عالمنا استيقظت ووعت خطورة الازمة المستفحلة، وأنها في صدد إعداد هجوم حضاري مضاد قوامه ثقافة انسانية مقاوِمة لها دور وقائي وجراحي في آن واحد.
* محامٍ ـــ نائب ووزير سابق