يذكرُ كلُّ مَن مرَّ في الماركسيّة كيف كانت تجربته الأولى معها. يذكرُ وقع كلماتها وفكرها الخاص عليه: هي ليست كملامسة أوّل حبيبة لكنها تبقى محفورة حتى في ذاكرة مَن يتخلّى عنها لأسباب انتهازيّة. وهي في المجتمع العربي كانت، حتى سنين خلت، من المُحرّمات، وكان حاملها يتعرّض لعقوبة السجن والتعذيب. هي لم تعدْ مقبولة (نظريّاً وعن بعد) إلّا بعد أن زالت الأنظمة التي حكمت باسمها، خصوصاً بعد زوال الاتحاد السوفياتي. أذكر في صيف ١٩٨٢، كان جنود الاحتلال الذين يقعون على كتابات ماركسيّة في المنازل في القرى والبلدات في الجنوب يتعرّضون لأصحابها بالاعتقال (تحضّرَ كثيرون لذلك بأن أفنوا مكاتبهم من الآثار الماركسيّة وحرقوا ما لديهم. أذكر في بلدة القليْلة أنهم سألوا شاباً بسبب صورة للينين في غرفته). خطورة حمل فكر ماركس لم يردع ملايين في العالم العربي من اعتناق فكره. الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوداني كانا من أكبر الأحزاب الشيوعيّة العربيّة —لا بل مِن أكبر الأحزاب العربيّة. وفي السبعينيّات من القرن الماضي، كانت معظم التنظيمات الفلسطينيّة تدين بالماركسيّة، كما أن اجنحة ماركسيّة تشكّلت في داخل «فتح» نفسها. والعلاقات بين الاتحاد السوفياتي وبين حلفاء في الأنظمة العربيّة لم تنقذْ الماركسيّين: فُرِض على الحزب الشيوعي المصري أن يحلَّ نفسه في مرحلة ذهبيّة من العلاقات بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتي (كان الراحل سمير أمين من القلّة التي وقفت ضدّ الحلّ)، كما أن الأنظمة البعثيّة في سوريا والعراق نكّلت بالشيوعيّين في مراحل مختلفة (وإن رعت الشيوعيّين المطيعين جداً لها).لكن صعوبة تقبّل الفكر الشيوعي يتحمّل مسؤوليّته أيضاً الشيوعيّون العرب، والقادة منهم بشكل خاص. الولاء لموسكو كان مطلقاً (والتشنيعات عن أن نايف حواتمة أو جورج حاوي كانا يحملان المظلّات عندما تمطر في روسيا كانت مثالاً على النظرة تلك). والمساومات والتنازلات الفظيعة التي أجراها الشيوعيّون العرب —إن في علاقاتهم مع الأنظمة أو في علاقتهم مع العقيدة الشيوعيّة ومحاولاتهم المصطنعة والكاذبة في تطمين جمهور المؤمنين أن العقيدة لا تعارض الدين، أو أنها لا ترفض المؤسّسات الدينيّة عرّض الشيوعيّين لانتقادات صائبة حول لين الالتزام المبدئي واستسهال الانتهازيّة. وتقلّب الولاءات لبعض القادة الشيوعيّين في لبنان أو العراق، من الستالينيّة الصارمة إلى الحريريّة أو إلى التواؤم مع مجلس بريمر في بغداد، أسبغ على الشيوعيّة صفاتٍ شنيعة ليست هي بالضرورة منها.
لكن للماركسيّة سحرها عند الماركسيّين كما للأديان سحرها عند المؤمنين. في عام ١٩٠٧ أبحر لويس ماسينيون نحو العراق حيث قضى فترة من الزمان متدثّراً بالرداء العربي ومتجنّباً الاختلاط مع الجالية الفرنسيّة. احتضنته عائلة الألوسي هناك (بعد أن حذّرته من إقامة علاقات جنسيّة مثليّة، ربما لعلمها بعلاقته المعروفة مع المستشرق الإسباني، لويس دو كودارا، الذي كان قد عرّفه على «المشهد المثلي» في القاهرة). كان ماسينيون قد غادر الكاثوليكيّة، ورافقه بعثة تنقيب أركيولوجيّة في جنوب العراق، حيث أصيب بالملاريا. وعندما عاد إلى بغداد في أوائل أيّار ١٩٠٨، انتابه شعورٌ غريبٌ وأصبح خائفاً على قواه العقليّة. بلغ من خوفه الحدّ الذي جعله يسلّم مسّدسه لقائد البعثة. ورُبطَ ماسينيون في الزورق لكنه حرّرَ نفسه منه. وهناك في الرحلة النهريّة، اختبرَ ما أسماه في ما بعد بـ«زيارة الغريب». شعر إن الله —الذي غادره على مدى خمس سنوات— عادَ إليه. كتب عن تجربته تلك: «ليس هناك من اسم بقي في ذاكرتي (ولا حتى اسمي) كان يستطيع أن يصيح به كي يحرّرني من مخطّطه ويجعلني أفلتُ من فخّه» (1). اعترفَ ماسينيون بفضل عدد من «الوسطاء الشهود»، وكان بينهم الحسين بن منصور الحلّاج. وأصرّ على مدى سنوات أن الحلاّج هو الذي توسّط له عند الله كي يعيده إلى الإيمان (الكاثوليكي).
العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وحلفاء في الأنظمة العربيّة لم تُنقذ الماركسيّين


لم تنتَبْ رالف ميليبند العوارض (المرَضيّة) نفسها التي انتابت ماسينيون. لكن هذا اللاجئ اليهودي القادم من بلجيكا إلى بريطانيا مرَّ على ضريح كارل ماركس في لندن عام ١٩٤٠. وهناك أقسمَ يمين الولاء لـ«قضيّة العمّال» (2). وميلبند وفى بوعده لماركس كما يفي المؤمنون بنذور دينيّة. كرّس كل حياته (الشخصيّة والأكاديميّة) لقضيّة العمّال، وأسس «السجل الاشتراكي» ونشرَ في عمل الاجتماع الماركسي. لا يجمع بين الحدثيْن —بين ماسينيون وبين ميلبند- إلا اللحظة الدراميّة التي أثّرت في مسار شخصيّة على تباعد أفكارهما. ليس كل الماركسيّين متساهلين في إيمانهم العقائدي. القائد الشيوعي السوداني، الشفيع أحمد الشيخ، مشى إلى حبل المشنقة أبيّاً، وربط بنفسه الحبل حول عنقه وصاح: «عاش الشعب السوداني، عاشت الطبقة العاملة». الجاسوس البريطاني، كيم فيلبي، جلس على مقعد في حديقة ريجتنس بارك في الثلاثينيّات، حيث أعلن تكريس نفسه للشيوعيّة العالميّة، وكان أن طلب منه المندوب المخابراتي السوفياتي أن يخترق صفوف النخبة في بريطانيا، وهذا ما فعله. لم يكن دافعه (على عكس الجواسيس الأميركيّين —بما فيهم الصهيوني جوناثان بولارد— الذين يتجسّسون لأهداف مالية محض) إلا خدمة قضيّة وعقيدة آمن بها. هذا هو تأثير الماركسيّة على أشخاص لم يلتقوا حول العالم.
وسحر كارل ماركس العالمي، وتأثيره، لا يزال غير معروف في العالم العربي. لم يحظَ العالم العربي بتقدير متجرّد لشخص كارل ماركس وفكره. المنطقة العربيّة كانت مركزاً عالميّاً لضخّ الفكر اليميني الديني الرجعي: إذ تحالفت الحكومة الأميركيّة مع قوى الرجعيّة الدينيّة لمحاربة الشيوعيّة واليساريّة في كل مظاهرها. لم يجدْ تجّار الدين ما يحاربون به كارل ماركس إلا إلحاده (ويهوديّته — أو يهوديّة مولده، لكن ذلك المولد بقي عند أعداء الماركسيّة قضيّة هامّة لا تُحلّ إلا باعتناق الفكر الرجعي). وبينما كانت المنظمّات اليهوديّة تحارب كارل ماركس وترميه بتهم معاداة الساميّة (غالباً بسبب سوء فهم كتابه في «المسألة اليهوديّة»، فإن القوى الاسلاميّة الرجعيّة لم ترَ في ماركس إلا يهوديّاً صهيونيّاً مساهماً في احتلال فلسطين). هذه حالة ماركس: يهودي عند أعدائه من المسلمين ومعادٍ لليهوديّة عند أعدائه من اليهود، ومُلحدٌ عند المؤمنين.
الحرب الباردة كانت مستعرة جدّاً في عالمنا العربي. أنفقت أميركا وحليفاتها في العالم العربي الكثير لتشويه الماركسيّة وتقويض الحركات والنظم (مثل اليمن الجنوبي) التي اهتدت بفكره. وركّزت أميركا على إبراز عامل الإلحاد في مواجهة تلقّي الماركسيّة بين العرب والمسلمين. كانت أوّل إطلالة أكاديميّة للراحل حنا بطاطو (وكان باحثاً زميلاً في جامعة هارفرد بعد نيله الدكتوراه) في مؤتمر عقدته «مؤسّسة دراسة الاتحاد السوفياتي» في مؤسّسة كارنغي في نيويورك في عام ١٩٦٠ عن «الإسلام والشيوعيّة». وهذه الزاوية من الدعاية الأميركيّة هي ربطت بين دول الغرب وبين الرجعيّة الإسلاميّة العالميّة —والتي لم يكن أسامة بن لادن إلا نتاجاً طبيعيّاً لها. والدعاية الغربيّة-الإسلاميّة ضد الماركسيّة فعلت فعلها لأنها جعلت من ماركس غير مقبول من الناحية الدينيّة ومن ناحية المدنيّة الغربيّة المزيّفة التي قابلت بين ديموقراطيّة الغرب وبين الاستبداد في دول المعسكر الشيوعي.
لكن العربي (والعربيّة) لم يكن محظيّاً في تلقّي الماركسيّة من الاتحاد السوفياتي. كان نشوء الماركسيّة العربيّة نتيجة تفاعل جنيني بين تيّارات وأفراد يحملون فكراً إنسانيّاً رومنسيّاً حالماً (غالباً بزيّ الأدب الرومنسي الفرنسي، كما حالة يوسف إبراهيم يزبك) وبين مبعوثي الكومنترن الذين لم يريدوا للماركسيّة العربيّة (أو لأي ماركسيّة في البلاد النامية) أن تنمو متحرّرة من السيطرة السوفياتيّة. هذا منعَ تبلور ماركسيّة محليّة مستقلّة، وهذا أحد أسباب سرعة تدهور أحزاب الشيوعيّة العربيّة بعد اندثار الاتحاد السوفياتي: زال رابط الرحم. والأحزاب التي نشأت من رحم الأحزاب الشيوعيّة الستالينيّة العربيّة —خصوصاً في حقبة الستينيات— لم تعمّر طويلاً إما لأنها لم تجد راعياً وإما لأن بعض أقطابها اتجهوا نحو اليمين. والماركسيّة العربيّة لم تنتج أدباً سياسياً خاصّاً بها، ولم ينتج حتى ترجمات عربيّة خاصّة. كان «دار التقدّم» السوفياتي هو الموزّع الرسمي (الوحيد) للتراث الماركسي - اللينيني، مع ما لحقه من تشويهات. أصدر العفيف الأخضر في عام ١٩٧٥ أوّل «ترجمة عربيّة غير محرّفة»، لكنه ترجمها عن الترجمة الفرنسيّة للكتاب. ليس هناك من حركة ترجمة لأمهات الكتب الماركسيّة عن أصولها في اللغات الأجنبيّة، وترجمات دار التقدّم (مع الحواشي التي وضعها الدار) لا يمكن أن تفي بغرض فهم واستيعاب الفكر الماركسي (من دون خضوعها لتحرير «الماركسيّة السوفياتيّة»).
لكن افتقار العالم العربي إلى تراث ماركسي خاص به يعود أيضاً إلى عدم وجود أرض خصبة لنموّ الماركسيّة ليس فقط بسبب القمع المحلّي والخارجي بل بسبب أمراض شابت التجارب الأحزاب الشيوعيّة العربيّة: من القبول بتقسيم فلسطين إلى الدعوة إلى الصراع السلمي المبكر ضد الصهيونيّة إلى التلكؤ في المساهمة في المقاومة العسكريّة ضد إسرائيل إلى التكلّسات الستالينيّة في بنية الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. كل ذلك لم يعطِ صورة حسنة للناس عن الشيوعيّة. أما الأحزاب الشيوعيّة العالميّة فكانت إما ملتزمة بالموقف السوفياتي من حصر المطالب العربيّة بـ«إزالة آثار العدوان» والتعايش السلمي مع العدوّ أو هي كانت أحزاب مستقلّة عن موسكو لكن غارقة في الصهيونيّة، مثل الأحزاب الشيوعيّة والاشتراكيّة في أوروبا الغربيّة.
والأحزاب الشيوعيّة كانت تُحارَب بالإسلام من دون أن تردّ عن موقف الماركسيّة الحقيقي —وليس التلفيقي— من الدين، كل الأديان وليس بعضها، على طريقة الإلحاد الغربي الجديد المُصاب بالإسلاموفوبيا. وأعداء الشيوعيّة لم يروا فيها إلا إلحاداً كأن ثراء الفكر الشيوعي يُختزل بما يوافق الدعاية ضدّه. تشكّل في عام ١٩٢٨ في بيروت، وفي عام ١٩٢٩ في البصرة تنظيم «الأحرار»، لكن التنظيم لم يُعرف إلا بالاسم الذي أطلقه عليه أعداؤه، أي «الحزب الحرّ اللاديني»، والذي يصفه حنا بطاطو بأنه أوّل تنظيم سياسي للشيوعيّين العرب في المشرق (3).
البيان الشيوعي مكتوب كقطعة أدبيّة وقد طُبع ووزّع ونُشر ربّما أكثر من أي كتاب آخر ما عدى الكتب الدينيّة المقدّسة. وقد ألهم البيان ملايين البشر وأدّى إلى نشوء حركات وأحزاب واشتعال ثورات في كل أرجاء الأرض. والكتاب الصغير كان مقرّراً في كل الأحزاب والتنظيمات الشيوعيّة حول العالم، وكان أيضاً معتمداً في أجهزة الشرطة السريّة التي شكّلت هاجساً —كما توقّع البيان— لدول الراسماليّة الغربيّة، وفي كل دول العالم في ما بعد. وقع كلمات البيان تصديق لنبوءة ماركس في «نقد فلسفة الحق عند هيغل»، بأن النظريّة تصبح قوّة ماديّة متى تلقّفتها أيدي الجماهير. والبيان ساهم بصورة مباشرة في إرشاد ملايين البشر للأمل في تغيير جذري في الحياة الماديّة. لكن السؤال الذي يطرحه أعداء الماركسيّة، خصوصاً من معتنقيها السابقين، يكمن في راهنيّة الماركسيّة في القرن الواحد والعشرين. وكلٌّ يجد طريقته للحكم بعقم الماركسيّة: عبد الكريم مروّة مثلاً ينصح بالركون إلى الدولة الرأسماليّة نفسها كـ«ناظم للمجتمع» وأن لا حاجة لثورة اشتراكيّة لأن الدولة —هو يعني فؤاد السنيورة على الأرجح— تقوم بالحد من الجشع والاحتكار الحاد (4). أما فالح عبد الجبّار، فهو بعد أن يشكو من القصور النظري للينين، وأنغلز، وستالين (لا يؤاخذه لينين وأنغلز وستالين)، يلومُ الماركسيّة الميّتة ويرى أن الرأسمالية العالميّة باتت تتصف بـ«العمل الجماعي»، أي إن الكل يتعاون لإنقاذ الجزء، ولو في العالم الثالث، ما يعطي للرأسماليّة الحديثة طابع الجمعيّة الخيريّة (5). وفي نظر عبد الجبّار إن الجانب غير الاقتصادي من العولمة يعطي الشركات العملاقة سلطة «فوق سلطة الدولة»، لكن هل سلطة الدولة الرأسماليّة في المركز الغربي لا تتطابق مع مصالح تلك الشركات ولا تنسّق سياساتها معها؟ وهل الشركات العملاقة تتناقض مع جهور الرأسماليّة ونمط سيطرتها الطبقي؟

العربي (والعربيّة) لم يكن محظيّاً في تلقّي الماركسيّة من الاتحاد السوفياتي


إن راهنيّة الماركسيّة باتت مطروحة اليوم على الصعيد الغربي بسبب الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وبسبب تخفيض منسوب الرعاية الاجتماعيّة في كل الدول الرأسماليّة الغربيّة. والدراسات الجديدة عن التفاوت المتزايد في مستويات الدخل أعاد طرح مفاهيم اشتراكيّة مرّة جديدة، كما فعلت الأزمة الاقتصاديّة العالميّة في عام ١٩٢٩، والتي ولّدت دولة «الصفقة الجديدة»، كما يصفون دولة الرعاية الاجتماعيّة في أميركا. وكتاب توماس بيكيتي لم يفاجئْ قرّاء الغرب بسبب إشاراته إلى الأزمات الاقتصاديّة المتكرّرة للرأسماليّة، بل لأنه أظهر أن الرفاه الاقتصادي والتخفيف من مستويات الدخل بين الطبقات كان الاستثناء وليس القاعدة في تاريخ صراع الطبقات في الغرب (مع أن بيكيتي ليس ماركسيّاً البتّة وأخذ على ماركس، من جملة ما أخذ، أن تجميعه للمعلومات في البحث الأكاديمي في القرن التاسع عشر لم يراعِ معايير البحث الأكاديمي في القرن الواحد والعشرين). لقد دمّرت الحرب العالميّة الأولى طبقة كبيرة من الأثرياء في أميركا وفي العالم، كما حصل أيضاً بعد الحرب العالميّة الثانية. وزيادة حصّة دخل الطبقة المتوسّطة كان استثنائيّاً بعد الحربيْن أيضاً. وزيادة الريع على الثروات بالنسبة إلى زيادة الأجور تبقى مطردة حسب دراسة بيكيتي التاريخيّة.
أما أكاديميّاً، فتأثير الماركسيّة هائل في الجامعات الغربيّة والشرقيّة إلا في العالم العربي. في الجامعات الغربيّة، بقي تأثير الماركسيّة كبيراً في الجامعات منذ أوائل القرن العشرين. أذكر أننا سألنا مرّة ألبرت حوراني وهو في زيارة إلى جامعة جورجتاون عن تأثير الماركسيّة عليه فقال: كل الذين درسوا في جامعة أوكسفورد أو كمبردج من أبناء جليلي تعرّضوا على أقل تقدير إلى «رشّة» من الماركسيّة بسبب نفوذها. وتدور اليوم في الجامعات نقاشات مستجدّة حول الماركسيّة، وترى في أميركا مثلاً أن تأثير الماركسيّة لا يزال كبيراً في دوائر: اللغات الحديثة، النقد الأدبي، الفلسفة السياسيّة، التاريخ، الانثروبولوجيا، وقد يكون الأكبر في علم الاجتماع (حضرتُ قبل سنوات مع صديقة المؤتمر السنوي لاتحاد علماء الاجتماع وكان مذهلاً أن ماركس أو فروع الماركسيّة كانت موجودة في كل الحلقات الدراسيّة في المؤتمر). صحيح، لا تزال الماركسيّة مُحاربة في كليّات الاقتصاد والقانون والسياسة (مع بعض الاستثناءات في الأخيرة). أما في بريطانيا، فتجد أن الماركسيّة لا تزال ذا سحر في الأكاديميا وحتى في فروع الاقتصاد. وقد يكون تأثير الماركسيّة في العلوم أكبر إذ تجد —في الحالة الأميركيّة— أن نفوذ اليسار في فروع العلوم أقوى منه في فروع العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة (في الحرب ضد فييتنام، كانت الدوائر العلميّة أكثر تحرّكاً من الفروع الاجتماعيّة). حتى مجليّة «إيكونمست» المحافظة (6) اعترفت بصوابيّة بعض من أفكار ماركس، وقالت إننا نتعلّم منه مثلاً أن الطبقة الرأسماليّة لا تتكوّن بالضرورة من مراكمي الثروات بل من «سعاة الريع» —أي الذين يسطون على عمل الآخرين ويقدّمونه على أنه منهم (7).
لكن من معالم ضعف الماركسيّة في عالمنا العربي، أن الفرد هناك لا يتلقّنها في الجامعات لأن نفوذ الماركسيّة في الجامعات العربيّة منعدم. وليس ذلك بسبب رجعيّة كل الحكومات من دون استثناء، بل بسبب سطوة القوى الرجعيّة الدينيّة على الثقافة السياسيّة والشعبيّة، كما أنه ليس للماركسيّة من رعاة في مراكز الأبحاث. إن مراكز الأبحاث العربيّة التي استقطبت الأكاديميّين العرب على مرّ العقود كانت مموّلة من العراق وليبيا والكويت والسعوديّة وقطر، وحاليّاً باتت دول الخليج تحتكر رعاية المراكز البحثيّة إلا أن إنفاقها زاد في الغرب وقلّ في الشرق لأنها تركّز على التأثير على عواصم الغرب. أي إن الفرد العربي يعثر على الماركسيّة فرديّاً ومن دون تأثير خارجي، ومع العلم الأكيد أن ذلك له مضاعفات شخصيّة ومهنيّة. يذكر المرء الذي شعر بوطأة الماركسيّة عليه لحظاته الأولى. أذكر أنني في سنوات الصبا سمعتُ بعض مصطلحاته، وأثار ذلك فضولي. قصدت مكتبة «أديسون» في شارع بلس وابتعتُ كتاب أوغست كارنو (وهو معروف في ألمانيا أكثر مما هو معروف في الدول الناطقة بالإنكليزيّة) عن ماركس وانجلز في أجزائه الأربعة. وكان كتابي الثاني مجلّداً ضخماً عن لينين. وليست المعرفة إلا اكتشافات لمكامن الجهل، وإدراك طرق سدّ بعضها. وكتاب يجرّ إلى آخر، وهلّم جرا. لكن المرور في التجارب الحزبيّة الشيوعيّة لم يكن يثري كثيراً في الثقيف الشيوعي. كان العضو الحزبي يقرأ نتفاً من البيان، ونتفاً من «١٨ برومير» ونتفاً من «ما العمل». أما التقارير الحزبيّة الطويلة (والمملّة) فكان يُقرأ منها الكثير الكثير، خصوصاً أنها كانت من إعداد الأمين العام بنفسه.
مرّت قبل أسابيع فقط ذكرى مرور قرنيْن على ولادة ماركس والذكرى لم تحظَ بما تستحقّ، خصوصاً في العالم العربي. رسم ماركس لنا عالماً جميلاً وإن اتصف بالخيال (بمعيار الزمن الرأسمالي): صوّرَ لنا عالماً حيث «يمكن لي أن أفعل شيئاً اليوم وآخر غداً، أن اصطاد في الصباح وأن اصطاد السمك بعد الظهر، وأن أرعى الماشية في المساء، وأنتقد بعد العشاء... من دون أن أصبح صيّاداً أو راعياً أو ناقداً» (8). لم يرسم لنا ماركس طرق الوصول لكن ذلك لا ينتقص من واقعيّة الحلم. وقد عكّر عليه يوماً مُعترض عند إلقائه لخطبة وصاحَ به: «ومَن ينظّف المراحيض» في عالمك الشيوعي؟ «أنتَ تنظّف المراحيض»، أجابه ماركس (وبغضب).

المراجع:
(1) راجع «لاهوت لويس ماسينيون» لكريستشان كروكس، ص. ٦٣، والنص الأصلي في «شهادات وتأمّلات: كتابات للويس ماسينون»، تحرير هربرت ماسون.
(2) بول بلاكلدج، «الاشتراكيّة والعمّاليّة: ماركسيّة رالف ميليبند»، «الاشتراكيّة الدوليّة»، العدد ١٢٩، ٤ كانون الثاني، ٢٠١١.
(3) راجع حنا بطاطو، «بعض الملاحظات الأوليّة عن بدايات الشيوعيّة في المشرق العربي»، في جون بينار، تحرير، «الإسلام والشيوعيّة»، مؤسّسة دراسة الاتحاد السوفياتي، ١٩٦٠، ص. ٤٨.
(4) راجع كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي».
(5) فالح عبد الجبّار، «ما بعد ماركس»، ص. ٧٩.
(6) ترد استشهادات (نقديّة) كثيرة في مجلّة «إيكونمست» في حواشي كتاب «رأس المال». وقد وصف ماركس المجلّة بأنها «الأداة الأوروبيّة لأرستقراطيّة المال»، «١٨ برومير للويس بونابرت».
(7) «العمل على حق: كارل ماركس لديه الكثير ليعلّم ساسة اليوم»، ١١ أيّار، ٢٠١٧. وراجع عدد ٣ أيار ٢٠١٨، «يا حكّام العالم: إقرأوا كارل ماركس».
(8) «الأيديولوجيّة الألمانيّة»، ص. ٤٤ ـ ٤٥.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)