اعتماداً على ما يتردّد في وسائل الإعلام، نخلص إلى أنّ ما يريده وفد الائتلاف السوري (الذي يمثل في الواقع أقل من نصف الائتلاف، وما أدراك ما الائتلاف) إلى مفاوضات جنيف هو حكومة انتقالية أي السلطة. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية فمن الواضح أن الإدارة الأميركية والحكومة الفرنسية الاشتراكية (الاشتراكيون في فرنسا هم أصحاب السياسة الاستعمارية الأكثر تطرفاً وصلافةً: حرب الجزائر، العدوان الثلاثي على مصر، العراق، مذابح رواندا، مالي، أفريقيا الوسطى) أقرّتا بأنه لا يمكن من وجهة نظرهما مكافحة الإرهاب، قبل تنحي الرئيس السوري مسبقاً.
هذا يعني أنّ هاتين الحكومتين تربطان دعمهما للجماعات الإرهابية بتسليم السلطة للائتلاف الذي تتحكمان بأفعاله وأقواله. نحن نعرف أو لا يصعب علينا أن نتصوّر، أية سياسة تنتهجها سلطة تتبناها الحكومتان الأميركية والفرنسية، في بلد عربي.
لا داعي هنا للغوص في المراجع التاريخية، فلنا في «الربيع العربي» أمثلة بالغة الدلالة. إذا اعتبرنا أنّ ما جرى في ليبيا لا يدخل في إطار هذه المقاربة، كون هذه البلاد تعرضت لعدوان غربي همجي إجرامي، الغاية منه إلغاء الدولة والسياسة، فإنّ الأمثلة التي لمّحنا إليها توجد في مصر وتونس، حيث آلت السلطة فيهما كما هو معروف، إلى جماعة الإخوان المسلمين.
لسنا في هذا الفصل، بصدد البحث في السياسات التي سار عليها الأخيرون، وفي العلاقات التي ظهر أنها قائمة بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركية، وتكشفت بجلاء أثناء فترة ممارستهم السلطة، من خلال الإجراءات والقرارات التي اتخذوها على وجه الخصوص (قاعدة عسكرية أميركية في تونس، وصراع متعدد الأطراف حول سيناء وقناة السويس).
أكتفي من هذا الاستطراد، لأقول، إنّ الأوضاع في تونس حالياً ليست كما يبدو، أفضل مما كانت عليه في زمان الرئيس بن علي، بل على الأرجح أنّ حركة النهضة أغرقت أكثر التونسيين في المأزق الذي قادتهم إليه سياسة بن علي. أغلب الظن أنّه سيلزم التونسيين جهود شاقة وتضحيات كبيرة قبل أن يتمكنوا من الانطلاق من جديد على طريق تحفظ وحدتهم الوطنية وتلائم تطلعاتهم وطموحاتهم. وفي هذا السياق، يمكننا إبداء الملاحظات نفسها حول الأوضاع في مصر، نتيجة لحكم الإخوان المسلمين.
مهما يكن، لقد تبيّن سريعاً أنّ استمرار الأخيرين في الحكم أمر مستحيل، بالنظر إلى العواقب الكارثية التي قد تترتب على ذلك، ليس فقط فوضى وتردّ في مجالات الإدارة والاقتصاد، وإنما خطورة أيضاً على وجود الأمة والوطن.
ففي تونس، تصدت الحركة الوطنية والنقابية لسلطة الإخوان المسلمين، في حين أنّ القوات المسلحة في مصر توكلت بطردهم من الحكم، وربما من ميدان السياسة أيضاً. لا شكّ في أنّ ظروف كل من هذين البلدين هي التي فرضت هذا المسار أو ذاك، ولكن هذا موضوع آخر.
توصلك في الواقع، مداورة، أخبار الأعاصير التي تضرب منذ ثلاث سنوات ونيف بعض بلاد العرب دون غيرها، إلى التساؤل بجدية عن إمكانية حدوث ثورة في البلاد المعنية. هل أن شروط الثورة موجودة؟ بمعنى هل بلغ الاحتقان الاجتماعي درجة الانفجار، بالتلازم مع تنامي الوعي وتبلور الأفكار عن منافذ الخلاص الممكنة؟ أم أنّ الاحتقان الاجتماعي هو الذي بلغ حد الانفجار فقط، ولكن الفكر والقيادة الثورية مفقودان.
في هذه الحال، لا نكون طبعاً حيال ثورة بل أمام مصيبة كبيرة! من المحتمل أيضاً أنّ لا يكون تفاقم الاحتقان هو سبب ما حدث في سوريا وغيره، ولكن سببه عوامل خارجية أريد بواسطتها إشغال المجتمع بحركة دائرية، تنتهي حيث بدأت.
الغاية منها الإضعاف واستهلاك الطاقة وتعطيل العقل، حتى لا تظهر حقيقة السلطة، وطبيعة النظام التابعة له.
ما الفرق بين مصر اليوم وما كانت عليه بالأمس. أي قبل الثورة! هل حال لبنان اليوم أفضل مما كانت عليه قبل الحرب الأهلية؟ هل تستوي المقارنة بين زعامة كمال جنبلاط من جهة وزعامة السيد وليد جنبلاط من جهة ثانية؟ وبين بيار الجميل وأحفاده، بين ريمون إده وجعجع؟! لا أذكر زعماء الجنوب الجدد ليس حرجاً، ولكن لأنّ للحرب ضد العدو الإسرائيلي على أرض الجنوب متطلباتها وقواعدها، ولا سيّما أنّ أعباءها تكاد تقع على فئة من اللبنانيين دون سواها! هذا موضوع آخر أيضاً.
ينبني عليه أنّ جماعة الائتلاف التي يتخذها الأميركيون والفرنسيون في جنيف مطية، لانتزاع تنازلات من الحكومة السورية أو لترتيب الأوضاع فيها لتكون ملائمة لمصالحهم ولمصالح المستعمرين الإسرائيليين، لا تستأهل هذه الجماعة الثقة ولا تمتلك الصدقية.
إذ كيف لهذه الجماعة أن تحافظ على وحدة سوريا واستقلالها، وأن تضع ركائز مؤسسات دستورية لدولة عصرية، وهي التي تعتمد في قتالها من أجل السلطة على المرتزقة وعلى آل سعود، فضلاً عن أنّها طلبت أكثر من مرة من القوى الغربية التدخل مباشرة لقلب نظام الحكم.
كم كانت خيبتها كبيرة عندما عدلت الولايات المتحدة الأميركية عن ضرب سوريا بالصواريخ العابرة. بالإضافة إلى هذا المعطى، نحن لا نعلم أن حراكاً جماهيرياً تحالفت قيادته مع المستعمرين فجلبت الأمن والازدهار، بل على العكس كانت الحصيلة دائماً نماذج جرّت الوبال على الناس.
مجمل القول إنّ الثورة التي أطنب مستخدمو الدعاية الغربية في مديحها، تبدو الآن عارية، عصبجية يأجرها المستعمرون. هؤلاء الأخيرون يَظهرون بدورهم أيضاً عراة. إذ كيف تسمح لهم ديموقراطيتهم بأن ينحنوا أمام خادم الحرمين الشريفين ليقلدهم الأوسمة الذهبية المرصعة؟ كيف تتناسق هذه الديموقراطية مع الدور المشبوه في مأساة روندا التي راح ضحيتها ثمانمئة ألف نسمة؟ ها هي المأساة نفسها تتكرر في أفريقيا الوسطى بحضور المشاهدين وشهود الزور أنفسهم! هل تجيز الديموقراطية القصف بالصواريخ العابرة، والطائرات المسيّرة عن بعد، وإنزال القوات العسكرية والاحتلال؟! هل الحاجة إلى الديموقراطية تتقدم على الحاجة إلى المدرسة؟ من يطالب في سوريا بالديموقراطية، وأية ديموقراطية تناسب المجتمعات والبيئات السورية؟ ألبس المستعمرون عملاءَهم الجدد بزة الديموقراطية، وألبس نواطيرُ النفط العملاء أنفسَهم عباءة دينية. ولكن العملاء صاروا عراة!
* كاتبة لبنانية