في وصفه لـ «كاميلو»، أحد أبرز قادة الثورة الكوبية، يكتب تشي غيفارا: «بيد أنه لا ينبغي للمرء أن يتصور كاميلو بطلاً أسطورياً، يحقق مآثر خارقة بحافز من عبقريته وحدها. يجب النظر إليه كفيض من الشعب الذي صنعه، على نحو ما يصنع أبطاله وشهداءه وقادته، في الاصطفاء العظيم إبان النضال وظروفه القاسية».عند كلّ مفترق انكسار أو هزيمة تمرّ بها القضيّة الفلسطينية، تتجدّد موجات اليأس والإحباط مع كلّ شهيد وأسير وجريح، ومع كلّ حصار وجوع وموت بطيء، ومع كلّ مستعمرة وسياسات التهجير للمهجّرين سلفاً. وللإحباط أركانٌ عديدة، أهمّها أزمة القيادة في القضيّة الفلسطينية، التي تتجسّد في الشرخ الكبير بين أهداف الشعب الفلسطيني والعقليّة السياسية التي تتحكّم بمصير هذا الشعب. وبإمكان أيّ متابع أن يزور أي مخيّم فلسطيني أو مدينة فلسطينية ليرى التناقض الناتج من هذه الأزمة، حيث تتعالى الشتائم ضدّ «القيادات» تحت سماءٍ تحجبها صور هذه القيادات نفسها. واليوم، بينما يتسارع الانحدار ويتقدّم المشروع الصهيوني نحو خطواتٍ إلغائيّة جديدة، ما زال الشعب الفلسطيني يسير بلا عنوان، ولذلك بات ملحّاً علينا أن نسأل: أين يكمن جوهر أزمة القيادة في الساحة الفلسطينية؟
في التعريف المذكور أعلاه، يقدّم غيفارا العلاقة العضويّة التي تجمع «القائد» و«القواعد الشعبيّة» (أو الجماهير)، حيث يُشكّل القائد النتاج الطبيعي للتفاعلات النفسيّة والفكريّة والاجتماعية التي يخلقها الظرف الثوري داخل المجتمع. والثورة هي مرحلة انتقالية تعبّر عن إرادة جماعيّة بإمكانيّة تحقيق «الواقع-البديل» المناقض للظرف الاستعماري الذي يبدو عصيّاً على التغيير. وبهذا، يدحض غيفارا صورة «القائد-المُنزّل» الذي يُفرض على الناس دون إرادتهم. تتطابق نظرة غيفارا مع تصوّر الشهيد غسّان كنفاني للقائد في العمل الثوري. ففي مقاله البحثي بعنوان: «المنهج التطبيقي للاشتراكية العربيّة»، وبعد الإضاءة على أزمة القيادة الفلسطينية منذ عام 1936 وحتّى تاريخ كتابة المقال، يرى غسّان أنّ البطل المؤثّر شرطٌ من شروط الثورة، بعد الحافز، وهو يعرّف البطل على أنّه «ليس إنساناً منفصلاً عن جماهيره، بل هو تمثيلهم الكامل، هو النتاج الأعلى للتفاعل بين الناس (...)، وهكذا، فإنّ أيّ انقلاب عميق يحتاج بالإضافة للحافز إلى النموذج المجسّد للمستقبل، إلى النموذج الذي يصرّ يوميّاً على تقديم صورة واضحة للغد... والذي يستطيع أن ينتزع من قلوب الناس شكَّهم في التجربة».
بناءً على هذين التعريفين، نجد أنّ أزمة «القيادة» الفلسطينية ظاهرة متجذّرة ومتكرّرة. ونتيجة غياب التكافؤ في الحرب الاستعمارية، يحتاج الطرف المستعمَر إلى عاملين أساسيّين لتحقيق الانتصار، هما الوضوح والتضحية. وفي كلّ مراحل نضال الشعب الفلسطيني، لم تبخل القواعد الشعبيّة بالتضحيات، وهو فعلٌ فلسطيني مستمرّ منذ بدايات القرن العشرين، مروراً بثورة 1936 وهزيمة 1948، وصولاً إلى الثورة الفلسطينية المُعاصرة، والانتفاضتين، وليس انتهاءً بآخر شهيدٍ يسقط في هذه الحرب. لكنّ الكمّ الهائل من التضحيات لم يقرّبنا من النصر، وفي ذلك الدافع الرئيسي لليأس والإحباط. فلماذا لم ننتصر؟ لأنّ حجم التضحية لا يتلاءم مع السذاجة السياسية التي تحكم العقل السياسي الفلسطيني.
في مراجعة سريعة للتاريخ الفلسطيني المُعاصر، نجد أنّ القرار السياسي الفلسطيني وقع بأيدي فئات غير ثوريّة، بدءاً من الإقطاعيين في ثورة 1936، وصولاً إلى الديكتاتوريّة الصغيرة المدعومة من البترودولار في الثورة الفلسطينية المُعاصرة، وليس انتهاءً بثمار «أوسلو» (المنتشرة في مختلف الفصائل - حتى تلك الرافضة للاتفاقيّة). وخطورة هذه القيادة تنبع أوّلاً من فهم خاطئ (وساذج) للحرب القائمة ضدّ الشعب الفلسطيني، بحيث تتفوّق عقليّة «الفهلوة» على المبدأ الثوري المنطلق من أُسس علميّة وفهم حقيقي لوجوديّة الصراع. وفي المقام الثاني، كان لتفوّق القيادات الانتهازيّة على القيادات الثوريّة أثرٌ كبيرٌ في عمليّة «إنتاج» القيادات داخل المجتمع الفلسطيني، حيث انعكس الانحراف والتخلّي والفرديّة على المجتمع الفلسطيني المُرهق، الذي تشرّب ثقافة «أوسلو» بما تحمل من قيم «الفرديّة» والبحث عن الخلاص الفردي والاستسلام الضمني للعدوّ الذي يقابله عنادٌ شديد تجاه الاعتراف بالهزيمة. وبهذا الشكل، تحوّل المجتمع نفسه إلى آلة إنتاج لقيادات تحمل ذات العقليّة المهزومة التي لا تحمل أيّ فكر أو مشروع ثوري بحجم الحرب القائمة على الشعب الفلسطيني.
لكنّ كل ما سبق ليس دفعاً باتجاه اليأس، بل هو إضاءة ضروريّة على خللٍ فكريّ-اجتماعي يحملنا من هزيمة إلى هزيمة. وفي ذلك دعوة إلى كلّ الصامدين على مبادئ الثورة الفلسطينية المغدورة إلى عدم الاستسلام لهذه الآليّة، وإلى التكتّل والتشكّل في إطار وحدة اجتماعيّة تُعيد إنتاج «البطل المؤثر» الذي وصفه غسّان.
فمن واجبنا أن ندفع بعجلة التطوّر لنعوّض فترات الركود والخيانة التي خلّفتها القيادات، وأوّل خطوة على هذا الدرب، أن نعي أنّهم ليسوا قدراً...
* ناشط فلسطيني