ما من شكّ في أن «صفقة القرن» التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وربيبه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بتاريخ 28 كانون الثاني / ديسمبر، تشكل تلبية لأقصى طموحات إسرائيل، من حيث إنها تقدّم لها كل ما كان قادتها يحلمون به لتصفية القضية الفلسطينية تصفية كاملة ونهائية، وبسط السيطرة شبه المطلقة على «بقايا» العالم العربي الممزّق، ولا سيّما في الجزيرة العربية والخليج، حيث مجمع الثروات والأسواق والأموال السهلة. وما من شك، أيضاً، في أن هذه الصفقة بمضمونها وآفاقها وتوقيتها (وهي استكمال لكل ما قامت به الإدارات الأميركية المتعاقبة من نشاطات ومواقف تجاه ما يسمى قضية الشرق الأوسط منذ بدايتها إلى الآن)، تشكل اقتناصاً للوضع العربي وهو في أسوأ حالاته وأوضاعه، بعد تدمير دول أساسية فيه، كالعراق وسوريا وليبيا واليمن، وسيطرة ما يمكن تسميته بـ«العصر السعودي» على قراره الرسمي. وهي بالتالي تعبير صارخ عن ميزان قوى إقليمي ودولي مختلٌّ اختلالاً صارخاً لصالح إسرائيل. إنها اقتناص لفرصة قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، الذي يحمل في طياته الكثير من عوامل التغيير على كل المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.

أولاً ــ على الصعيد الدولي
لقد اعتمد التفوّق الإسرائيلي، منذ البداية، على الدعم الدولي، فقد كان ثمة حدب غربي، على توفير هذا التفوق وضمان استمراره منذ أن بدأ تشكيل الجيش الإسرائيلي (الهاغانا) كوحدات يهودية مقاتلة ضمن القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه الوحدات تتلقّى التدريب والتسليح والدعم، إعداداً لها من أجل التفوّق على الجيوش العربية الوليدة التي كانت تتعرّض للضغط والحصار، وحتى السيطرة الإنكليزية المباشرة كما في الأردن ومصر والعراق. حتى إنه عندما اندلعت حرب عام 1948 (التي لم تدم سوى أربعة أسابيع: اثنان قبل الهدنة الأولى واثنان بعدها)، لم تستطع الدول العربية أن تزجّ فيها، حتى من حيث العدد، مقدار ما زجّته «العصابات الصهيونية»، ناهيك عن الأسلحة والذخائر والمؤن وغيرها. وقد بقي الغرب حريصاً على ضمان استمرار هذا التفوّق حتى الآن، ولا سيّما بعدما انتقل هذا الضمان بشكل رئيسي من بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة، مع حرب عام 1967 وما بعدها. وقد بلغ هذا التفوّق ذروته على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، حيث استند إلى نفوذ أميركي عالمي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفرّد الولايات المتحدة بموقع القوة الأعظم في هذا العالم. وفي ظل هذا الاستفراد، بدأت حقبة تبديد القوة العربية مع الحرب الأميركية على العراق.
(عندما حدث خلاف بين الرئيس بوش الأب ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير بشأن التسهيلات المالية الأميركية التي أنفقتها إسرائيل على المستوطنات في الضفة الغربية، اجتمع الرئيس الأميركي مع زعماء الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، وقال لهم في ذلك الاجتماع: ماذا تريد إسرائيل مني أكثر من أنني دمّرت لها العراق؟ وقد نشرت النص في حينه صحيفة «النهار» اللبنانية).
هل لا تزال الولايات المتحدة في موقع التفرّد والتفوّق نفسه؟ وهل هي ضامنة لهذا البقاء إلى فترة طويلة؟ وهل لا تزال إسرائيل وستبقى تحظى بتأييد أميركي مُطلق إلى ما شاء الله؟ هناك احتمال كبير بأن تكون الأجوبة كلّها سلبية. فالولايات المتحدة لم تعد في موقع القوة نفسه، ولا سيما بعدما دخلت في خضمّ أزمة بنيوية متمادية بدأت عام 2008، مع انفجار فقاعات التمويل العقاري التي لم تتعافَ من ذيولها حتى الآن، وكان من أبرز تجلياتها تجاوز العجز في الميزانية هذا العام لخط الترليون دولار. تشكّلت تلك الأزمة من ارتدادات الحروب الأميركية، في مطلع هذا القرن، وبلغت أكلافها ترليونات من الدولارات (صحيح أنها شكّلت رفداً غير محدود للصناعات والخدمات العسكرية، لكن ذلك كان على حساب قطاعات إنتاجية وخدمية أساسية في الاقتصاد والمجتمع الأميركيَّين، وجدت نفسها تتراجع في مضمار المزاحمة العالمية مع قطاعات مماثلة في بلدان أخرى في مقدمتها الصين).
يأتي ذلك في ظلّ الصعود شبه الخرافي للمارد الصيني واجتياحه الإنمائي والاقتصادي لقارتَي آسيا وأفريقيا، وصولاً إلى جنوب ووسط أوروبا (المعروف بمشروع حزام واحد وطريق واحد)، المدجّج بآلاف المليارات من الدولارات والمشاريع العملاقة، والمدعوم عسكرياً واستراتيجياً من قبل الدولة الروسية التي استعادت عافيتها، بعد انهيار التسعينات وعادت لتلعب دوراً نشطاً (وهجومياً) على المسرح الدولي.
كذلك، فإنّ التأييد الأميركي المطلق وشبه الأعمى لإسرائيل لن يبقى على حاله، بل هو آخذ في التآكل. وتكفي قراءة ردود الفعل في الأوساط الأميركية على إعلان «صفقة القرن»، لتأكيد حصول هذا التغيير واستشراف إمكانات تطوّره واتجاه هذا التطوّر. فقد جاهر خمسة من المرشحين الديمقراطيين للرئاسة، بمعارضتهم لهذه الصفقة، منتقدين ما فيها من غبن تجاه الحقوق الفلسطينية، وكان على رأسهم المرشح اليهودي برني ساندرز. وجاهر في انتقادها، أيضاً، عدد لا بأس به من أعضاء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، في مواقف انعكست في صحف أميركية رئيسة مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز».
الجاليات اليهودية نفسها في الولايات المتحدة لم تعد مُجمِعة على تأييد إسرائيل بل بدأت جماعات كثيرة منها تنتقد الانحياز المستمر إلى الدولة العبرية من قبل السياسة الأميركية


فضلاً عمّا تقدّم، فإنّ الجاليات اليهودية نفسها في الولايات المتحدة لم تعد مُجمِعة على تأييد إسرائيل، بل بدأت جماعات كثيرة منها (ولا سيما في أوساط اليهود العلمانيين أو غير المتطرّفين) تنتقد الانحياز المستمر إلى الدولة العبرية من قبل السياسة الأميركية. ولعلّ أهم هذه المجموعات هي «جي ستريت» الوسطية، هذا طبعاً بالإضافة إلى جماعة «ناطوري كارتا» المعارِضة أصلاً لقيام دولة إسرائيل، والتي تُشكل الأكثرية بين يهود نيويورك. والأمر نفسه، بل أكثر منه بكثير يحصل في أوروبا الغربية، حيث استُقبلت «صفقة القرن» بانتقادات صارخة عبّرت عنها صحف كبرى كـ«لوموند» الفرنسية و«التايمز» و«الغارديان» البريطانيتين. وقد لخّصت الأمر إميلي نورنبري، المتحدثة باسم حزب «العمال» البريطاني للشؤون السياسية، بالقول: «كيف لرجلين عنصريين وفاسدين، هما ترامب ونتنياهو، أن يدمّرا السلام ويدنّسا ما صنعه السابقون من أجل السلام».
في مقابل ذلك، شهدت السنوات الأخيرة تعاظماً لا سابق له في موجة التأييد الشعبي الأوروبي للحقوق الفلسطينية، حيث بلغت درجة من القوة والاتساع دفعت ببعض المسؤولين المؤيّدين لإسرائيل إلى محاولة استصدار قوانين لوقف نشاط حركات مثل «حركة المقاطعة» ــ BDS، واعتبار نقد الصهيونية أو دولة إسرائيل، نوعاً من العداء للسامية، وذلك في وقت لم يعد فيه مسؤولون أوروبيون كثيرون يتردّدون في إعلان دعمهم للشعب الفلسطيني، كما يحصل في إيرلندا وإسبانيا والسويد وعدد من الدول الإسكندنافية الأخرى.

ثانياً الوضع الإقليمي
1 ــ إسرائيل:
خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً من الرعاية الغربية عامة والأميركية خاصة، طرأت تغيرات بنيوية كبيرة على المجتمع الإسرائيلي. صحيح أنه حقّق تقدماً وإنجازات كبيرة على الصعيدين، الإنمائي والتقني، الأمر الذي وضعه في مصافّ الدول المتقدّمة عالمياً، في كثير من المجالات ولا سيما الأكثر حداثة، لكن لا يمكن إغفال ما تركه هذا التغيير من آثار على المجتمع الإسرائيلي، الذي بات يعاني من فصام: بين نخبة واسعة وعالية التقدم باتت مشدودة إلى مجالات العولمة والشركات الكبرى والمتعددة الجنسيات، بعيداً عن الانخراط في الجيوش والحروب. وهي متحرّرة من التعبئة الأيديولوجية الطلائعية التي كانت تشحذ همم البناة الأوائل، أمثال بن غوريون وموشي دايان وغولدا مائير وإسحاق رابين وأرييل شارون وغيرهم. وقد بات أبناء هذه النخب يشكلون النسبة الأكبر في ظاهرة الهجرة المعاكسة (من إسرائيل إلى الخارج). وبين مجاميع واسعة من اليهود المتديّنين المتطرّفين، الذين باتوا يشكلون قرابة ربع عدد السكان وغالبية يهود القدس والمستوطنات، وهم الأكثر تخلّفاً والأكثر تكاثراً في المجتمع الإسرائيلي. يرفض هؤلاء الخدمة في الجيش بحجّة التديّن، ويتفرّغون لدراسة التوراة، كما يتلقون مساعدات مالية كبيرة من الدولة دعماً لهذه «الدراسة» الدينية. وتسعى معظم الأحزاب الصهيونية، ولا سيما الأكثر يمينية بينها، إلى مراعاتهم ودعمهم والاستجابة لكل مطالبهم، كونهم يشكّلون قاعدة انتخابية كبيرة. يضاف إلى ذلك، تعاظم الانشقاقات العرقية داخل هذا المجتمع (المصطنع)، ما بين الغربيين والشرقيين والبيض والسود والروس اليهود وغير اليهود وغير ذلك كثير، فضلاً عن الوجود العربي الذي يزداد اتساعاً ووعياً ودوراً.
في سياق هذا الاستقطاب والأوضاع المستجدّة، بات الجيش الإسرائيلي يشكو على ألسنة كبار قادته من نقص فادح ومتصاعد في العنصر البشري، ولا سيما في الوحدات القتالية. ويقول رئيس الأركان السابق غادي إيزنكوت، في دراسة أعدّها لصالح مركز أبحاث الأمن القومي للجامعة العبرية، بعد خروجه من الخدمة عام 2018، إنه «إلى جانب الزيادة في عدد السكان والقوة الاقتصادية والقدرات العلمية والتكنولوجية لإسرائيل، يمكن رؤية عيوب تُنذر بالخطر في تماسك المجتمع الإسرائيلي نتيجة العدد الكبير في الانقسامات الموجودة فيه». وكانت إحصائيات رسمية للجيش الإسرائيلي قد أشارت إلى أن نسَب التجنيد في الوحدات القتالية قد انخفضت، عام 2017، إلى أقصى حد. وذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم» أن نسبة الراغبين في التجنيد في الوحدات القتالية، أدنى من النسب التي أعقبت حرب لبنان الثانية عام 2006، والتي وصلت في ذلك الحين إلى 66 في المئة من المجنّدين، في حين يرفض الجيش حالياً الإعلان عن نسبة الجنود الراغبين في الانخراط في تلك الوحدات. على ضوء هذا الواقع المستجدّ، نرى أن القيادة العسكرية الإسرائيلية تحاول الابتعاد، قدر استطاعتها، عن اللجوء إلى الصدام العسكري المباشر (رغم وجود رغبات وتهديدات كثيرة لدى القيادات السياسية)، ونراها تلجأ للتعامل مع مسرح العمليات في سوريا، منذ بداية الأحداث هناك، بحرص شديد على عدم التورّط في اشتباكات تتطلّب المشاركة بالعنصر البشري. بل هي تعمد إلى التدخل، إمّا بتقديم الدعم المادي والتسليحي لبعض القوى المحلية المقاتلة على الأرض السورية، أو بتوجيه ضربات جوية من بعيد، حتى من خارج المجال الجوي السوري. وهي بالإضافة إلى ذلك، توقفت عن الاعتداء على الأراضي اللبنانية، منذ عدوانها عام 2006، وما تعرّضت له من فشل ردعي في مواجهة مقاتلي حزب الله هناك. ولعلّ أفضل من يشرح هذا الواقع، هو الجنرال عاموس جلعاد، في حوار مفتوح جرى في «مركز كينان» في معهد ويلسون في واشنطن، قبل أيام (28/1/2020)، حيث قال: «نحن بدون أميركا لا نساوي شيئاً: هي الحليف والصديق والشريك والضامن والراعي، ولذا فلا ينبغي عليها أن تنسحب من غرب آسيا، وهي لن تنسحب، إنها منغرسة في صميم أمننا القومي، وبرغم البعد النووي إلا أننا، وفي كل المجالات، في حاجة دائمة إلى أميركا». وبعدما تحدث عن إيران، معتبراً أنها الخطر الوجودي الأول على إسرائيل، شرح ذلك بتفصيل مسهب، فقال ما يلي: «ما العمل؟ لا بدّ من ضربها استباقياً، ولا أحد يستطيع القيام بذلك سوى أميركا». هو يعترف، إذن، صراحة بعجز إسرائيل عن الدخول في حرب كبيرة، وخصوصاً الحرب البرية التي تحتاج إلى أعداد بشرية كبيرة. يبقى السؤال: من يضمن له أن الولايات المتحدة ستبقى ملتزمة بما يمليه عليها هذا الدور في المنطقة؟

2 ــ فلسطين:
ما من شك في أن الشعب الفلسطيني يشعر بأنه «متروك» من قبل أمّته العربية، فجميع الأنظمة إما منشغلة بأمورها الداخلية، أو متواطئة على قضيته مع العدو الصهيوني، مباشرة أو عن طريق الولاء والانصياع للإرادة الأميركية. غير أن هذه العزلة لا تحرّر هذا الشعب، إلّا من الأوهام التي كانت تحاول أن تزرعها لديه بعض الأنظمة والقوى العربية لتتاجر به وبقضيته، مستخدمة شيكاتها الخالية الرصيد، ليجد نفسه اليوم متحرراً ممّا كان ذلك الوضع العربي القاصر يلقيه على أكتافه من أعباء. إنّ شعور الشعب الفلسطيني بأنه بات وحيداً في المعركة، زاده شعوراً بمصيرية معركته، فلا مفرّ أمامه من النضال بين حدّين: الشهادة أو النصر، ولا شيء دونهما. يبلغ تعداد الشعب الفلسطيني، حالياً، ثلاثة عشر مليون نسمة، نصفهم فوق أرض فلسطين التاريخية (الضفة الغربية وغزة والداخل)، بينما النصف الآخر في الشتات ومعظمه في الجوار الفلسطيني، ما بين الأردن وسوريا ولبنان ومصر. يضاف إلى ذلك، أنّ هذا الشعب يشهد ظاهرتين شديدتَي الخصوصية: لديه أعلى نسبة في الزيادة السكانية، وأعلى نسبة في التعليم في البلدان العربية كلّها.
ماذا تستطيع «صفقة القرن» وأصحابها أن يفعلوا مع هذا الشعب، بغضّ النظر عن كلّ المواقف التي يمكن أن تتخذها قياداته الحالية؟ لم يعد الفلسطينيون شعباً مجهولاً، كما كان الأمر في عامي 1948 و1967، ليتمّ اقتلاع آلافه، بل ملايينه، وإلقاؤهم في أراضي البلدان المجاورة. فقد أصبح له حضور ككيان دولي مهم في الأمم المتحدة بحميع مؤسساتها، وله علاقات رسمية وسفارات ومكاتب في معظم دول العالم، كما أن الرأي العام العالمي بات مطّلعاً (ولا سيما مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي) على كل ما يجري فوق أرض فلسطين لحظة بلحظة، وهو متحفّز للتصدي لأي عملية تهجير جماعية للفلسطينيين. إنّ الحدّ الأدنى للموقف النضالي المتاح أمام الفلسطينيين، الآن، هو التمسّك برفض الصفقة، وفرض هذا الرفض على قياداته. فهذا الرفض وحده (في حال الإجماع عليه والتمسّك الصلب به)، كفيل بإحباط المؤامرة وجعلها كأنها لم تكن («كادوك»، وهي العبارة التي استخدمها مرة الرئيس ياسر عرفات). هذا الرفض، وكل ما يمكن أن يتراكم فوقه من نضالات، كفيل على الأقل، بالحفاظ على القضية حية وماثلة أمام العالم بانتظار ما يتوقع أن يحصل من تطورات على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية.

3 ــ الوضع العربي:
صحيح أنّ الوضع العربي، الآن، في أزرى حالاته، لكنّ هذا الحضيض لا يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية، فالأوضاع الناجمة عن الحروب الداخلية والخارجية في كلّ من العراق وسوريا وليبيا واليمن، لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية. ولا يمكن أن تصل إلى النهايات المتوقّعة، إلا من خلال تسويات سياسية تضع حدوداً للأوضاع القائمة، وهي تسويات لا يمكن أن تتحقّق ما لم تخرج بهذه البلدان من أوضاعها الاستثنائية بشكل يُتاح معه للشعوب أن تشارك في قول كلمتها وتقرير مصيرها وبناء أنظمة فيها حد أدنى من العدالة. وفي مثل هذه النهايات، وفي أعقاب الحروب التدميرية المديدة، ستتحوّل هذه البلدان إلى ورشات إعمار على كل المستويات الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية والسياسية، بشكل يغيّر وجه المنطقة ومعطياتها بشكل جذري. (وهذا هو سبب تمسّك الولايات المتحدة بموقف التمديد للأزمات في هذه البلدان ورفض إعمارها، وليس غضبها من القائمين على الأمور فيها أو معارضتها لهم). وربما هي مصادفة تاريخية، أن مثل هذه الورشات ستحصل مع بدايات تراجع الولايات المتحدة عالمياً وإقليمياً، ووصول مشروع «طريق الحرير» الصيني العملاق إلى المنطقة، عندئذٍ، لن تعود شبه جزيرة مثل قطر، أو مملكة جاهلية مثل السعودية، أو بؤرة مجهرية مثل البحرين، قادرة على تقرير مصير أمة عربية تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي. فهذه الجهات التي تنطّحت لقيادة الوضع العربي الرسمي في غفلة نفطية أو غازية من الزمن، لا بد أن تعود إلى أحجامها الحقيقية، فتستعيد الأمّة العربية موقعها في صلب مسار التاريخ العالمي الحديث. وعندئذٍ، تجد القضية الفلسطينية طريقها إلى الحل العادل والشامل والنهائي، تبعاً للمشروعية الدولية وحقوق الناس والشعوب، لا وفقاً لصفقات السمسار ترامب وربيبه نتنياهو.

* كاتب سوري