تلقّيت قبل أيام من الرفيق الدكتور علي حمية مقالة كتبها الزميل قاسم عز الدين، ونشرها على موقع تلفزيون «الميادين»، يناقش فيها سلسلة مقالات نشرها الرفيق حمية في جريدة «الأخبار» خلال الفترة الماضية. وتمحورت تلك السلسلة حول أوضاع الحزب السوري القومي الاجتماعي وأزماته الداخلية المستفحلة. عنوان مقالة عز الدين «عن علي حمية والحزب القومي»، وقد ضمّنها كاتبها ملاحظات نقدية لما أسماه «الدعوة إلى الأصول»، معتبراً أنّ مثل «هذه الدعوة إلى الأصل هي بدورها الأزمة، وليست الحل لا للحزب ولا للأمة». ثم انتقل من تلك المسلّمة الأولى إلى البحث في مجموعة مسائل منها قداسة النص، والمتغيّرات السياسية، والاقتصاد، والديمقراطية...ومن بين كلّ النقاط التي عرض لها الزميل عز الدين، فإن موضوعة «العودة إلى الأصول» تشكّل المحور الأساسي لمقالته. ونحن بدورنا سنركّز على هذا الجانب، لأنّ كلّ التحركات الداخلية التي قام بها القوميون الاجتماعيون على مدى سنوات عدة، كانت ترفع دائماً شعاراً عريضاً هو «العودة إلى سعادة». وأعتقد بأنّها ستكون فرصة مناسبة لنا جميعاً، لكي نوضح ما المقصود بهذا الشعار للقوميين الاجتماعيين أنفسهم، وليس فقط للزميل عز الدين الذي نتمنّى أن يتقبّل كلامنا بصدرٍ رحب وعقلٍ منفتح.
من وجهة نظرنا القومية الاجتماعية، لا يوجد «عصر حزبي ذهبي» على غرار ما يزعمه الأصوليون، عندما يتحدّثون عن الحاضر الرديء مقارنة بعصر مثالي مُتخيَّل. هذه نزعة هروبية تلجأ إلى الماضي، نتيجة الفشل الفاضح في التعامل مع معضلات الحاضر، والعجز عن استشراف تحديات المستقبل. ونؤكد، هنا، أنّ عصر سعادة نفسه في الوطن (1930 ــــــ 1938) وفي المغترب (1938 ــــــ 1947) وأخيراً في الوطن (1947 ــــــ 1949)، ليس عصراً ذهبياً بالمفهوم المثالي المجرّد، وإنّما هو عصر تأسيسي ختمه مؤسّس النهضة بدمه. والفارق الوحيد بين حاضرنا المأزوم وذلك الماضي، يكمن في أن سعادة كان يتولّى دفّة القيادة الأمينة في أحلك الظروف، وبناءً على صلاحيات الزعامة الدستورية. وهذا النمط من القيادة، هو ما يفتقده القوميون الاجتماعيون اليوم... بل وتفتقده الأمة السورية وعالمها العربي.
كان سعادة، مؤسّس النهضة القومية الاجتماعية، عبارة عن ثلاثة أقانيم مندمجة في شخصية رجل عزّ نظيره في تاريخنا السوري المعاصر. هو المعلّم القائد الزعيم، أولاً. وهو واضع العقيدة بما فيها الدستور، ثانياً. وهو، ثالثاً، مُنشئ الحزب السوري القومي الاجتماعي كمؤسسة تعمل على تحقيق غاية نهضوية محدّدة. ولا شك في أنّ لكلٍّ من هذه الأقانيم مزايا خاصّة تتيح لنا مجال التقييم من ضمن الظروف القومية والعالمية التي أحاطت بسعادة، وتركت بصماتها على فكره وممارساته. ولذلك، فمن الطبيعي أن لا تتساوى الأقانيم الثلاثة عندما نقيّم الإنجازات أو الإخفاقات في حيّز مكاني وزماني معيّن. غير أنها تحمل ــــــ نظرياً على الأقل ــــــ ملامح صاحبها الذي دفع حياته ثمناً لترسيخها.
«العودة إلى سعادة» كما نقول نحن، و«العودة إلى الأصول»، كما كتب زميلنا عز الدين، هما اتجاهان مختلفان تماماً، ولا يوجد قاسم مشترك بينهما سوى كلمة «العودة». سعادة وضع المبادئ الأساسية والإصلاحية، لأنّه رأى فيها العلاج المناسب لأمراض الأمة السورية وعالمها العربي، من ضمن الظروف السائدة في مطلع القرن الماضي. ولم تكن المبادئ نتاج ترفٍ ذهني تنظيري منفصل عن الواقع، بل هي جاءت بعدما طرح على نفسه أسئلة وجودية مصيرية، أجاب عليها في أعقاب عمليات درس وبحث وتجارب تنظيمية مريرة. ولذلك، فإن القوميين الاجتماعيين، عندما ينادون بالعودة إلى سعادة، لا يتوجّهون إلى المبادئ أولاً، وإنّما يعيدون طرح الأسئلة الوجودية نفسها... فإذا بهم يصلون إلى النتائج نفسها التي توصّل إليها سعادة في ثلاثينيات القرن الماضي (بل ونصل إلى أسوأ منها). وهذا ما يُعزّز قناعتنا بأنّ المبادئ ما زالت راسخة في راهنيّتها، وقد أصبحت ملحّة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بما في ذلك فترة التأسيس.
إنّ تقييم أية مرحلة تاريخية يجب أن لا يتم بمعزل عن دراسة العوامل المحورية التي صنعت أحداث تلك المرحلة. فإذا توصّل الباحث، موضوعياً، إلى أنّ الحاضر ما هو إلا امتداد لصيرورة التاريخ، فيصبح من المنطقي أن نعيد تفعيل القواعد المبدئية القادرة على فكّ تعقيدات القضايا القومية المصيرية، حتى ولو كانت تنتمي إلى زمن مضى! فالقوميون الاجتماعيون يرون أنّ المنهج القومي الفكري، كما وضع سعادة خطوطه العريضة، يتضمّن آليات صالحة للتعامل مع المعضلات الراهنة. ونحن لا ندّعي بأنّ الفكر القومي الاجتماعي استطاع الإحاطة بكل المستجدّات منذ الثلاثينيات وحتى اليوم، وإنّما نقول إنّ الاتجاه الواضح للمبادئ سيمكّننا من إقامة جسر معرفي يصل ما بين الماضي والحاضر... ومنهما إلى المستقبل.
لم يكن سعادة أصولياً متحجّراً. فلقد شدّد في مناسبات عديدة، على أنّ المبادئ هي قواعد لانطلاق الفكر، وأنّ العقل هو الشرع الأعلى، وأنّ الحرية هي صراع العقائد. غير أنّ المبادئ والعقل والحرية، بوصفها قيَماً معرفية، محكومة بهدف أسمى لا يخضع، ولا يجوز أن يخضع، للمساومة تحت أي ظرف كان، ألا وهو: «مصلحة سورية فوق كل مصلحة». وهنا تتمثل فرادة سعادة مقارنة بغيره من المفكرين السوريين والعرب، خلال مرحلَتي التنوير والنهوض. وعندما نقول بالعودة إليه، فنحن نقصد منهجية التفكير التي صوّبها نحو الأحداث والتطوّرات كما عايشها خلال حياته القصيرة العاصفة.
القوميون الاجتماعيون لا ينظرون إلى سعادة بقداسة طوباوية، ولا يتمسّكون بـ«طقوس من الماضي»، في محاولة لفرضها على الحاضر والمستقبل. صحيح أنّ أمّتنا شهدت خلال السنوات المئة الماضية تطوّرات عاصفة وظروفاً قومية ودولية استثنائية، منذ أن خضعت لمفاعيل «سايكس ـــــ بيكو» و«وعد بلفور»، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الفكر القومي الاجتماعي ما زال يشكل قاعدة انطلاق لمواجهة التحدّيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سورية والعالم العربي. إنّ المسائل المستجدّة تخضع لنواميس العقل الذي يعتبره سعادة «الشرع الأعلى»، ونحن نتّفق مع زميلنا عز الدين على أنّها تحتاج إلى منظور حداثي خاص... وهذا موضوع للبحث لاحقاً.
نحن نقول بالعودة إلى سعادة، أو بالأحرى إلى «استعادة سعادة»: معلّماً وزعيماً وقائداً ذا رؤية مستشرفة. فهو القدوة النموذجية لما يجب أن يكون عليه القائد في بلادنا المنكوبة بالفساد السياسي والمالي، والغارقة في مستنقعات الانحطاط الأخلاقي. ولطالما أنّ أوضاعنا القومية هي ما هي عليه بل وتسير نحو الأسوأ... فإنّ استعادة المبادئ القومية الاجتماعية هي وحدها القاعدة الراسخة لإطلاق الفكر في رحاب الحرية.

* كاتب وصحافي لبناني