«لقد أدهشني كم كان ذلك المكان المعزول مقموعاً وحزيناً، كما لو أنّي دخلت فجأة إلى عالم حيث أُسكتت فيه كل الألوان»
باراك أوباما في كتابه «الأرض الموعودة» عن زيارته الأولى للسعودية عام 2009


«في ليلة وضحاها تحول متجرنا الرمادي إلى جنة بضائع من الألوان»
مشهد من فيلم ألماني عن سقوط جدار برلين


بعد ثمانية أشهر من سقوط جدار برلين، وتحديداً في حزيران من عام 1990، شهدت العاصمة الألمانية مهرجاناً موسيقياً ضخماً أُطلق عليه «الجدار، مباشرة من برلين». كان المهرجان إحياءً لذكرى سقوط الجدار من جهة، وإذعاناً لبدء مرحلة جديدة من تاريخ ألمانيا، وبل الشرق الأوروبي بأكمله مع بدء تساقط دومينو الكتلة الشيوعية من جهة أخرى. لعلّه من أفضل السبل لفهم الانقسام الاقتصادي والاجتماعي من منظور النخب الليبرالية الحاكمة في الغرب، مقاربتها من خلال عدسات وآلات التصوير أو تحديداً «الفلاتر». والقارئ العربي هنا الأكثر جدارة من غيره في فهم ما نعنيه. فما إن تطل مدينة عربية في أحد الأفلام الغربية إلا ويحصل خسف لضوء الشمس وتميل كل الألوان لتكون داكنة مسودة. والمسألة ليست لأن شمسنا غير شمس باقي العالم، بل لأن العدسة الاستشراقية الغربية تريد بالألوان غرس نقيضين في تصورات المشاهدين بين وردية وجمال ألوان العالم الأوّل وكآبة «فيلتر» بقعتنا من الكوكب. ففي الأخير، ولكي يصور المخيال الغربي نفسه بالنور عليه أن يصنع ظلاماً مقابلاً، وعندما يصنع الظلام عليه أن يكون النور «المنقذ». وعلينا أن نذكر هنا، أننا نتكلم وبموضوعية عن «نور» و«أنوار» أشعلت وتشعل نار الخراب والاستعمار من أقصى الأرض إلى أقصاها كما لم يحصل في تاريخ البشرية.

من هنا كان مهرجان الجدار رمزاً لوصول الألوان إلى الشطر الشرقي من القارة الأوروبية التي عمّتها ظلامية الشيوعية. والألوان هنا ليست مجرّد خيال، بل انعكاس عن وصول العلامات التجارية للشركات الرأسمالية التي ستنشر البهجة بين الأقواس الذهبية لـ«ماكدونالدز» وأحمر «الكوكاكولا»، والأضواء البرّاقة للدعايات التجارية والأصوات الصاخبة التي يراد بشكل ما ربطها بالفرح والسعادة. وهذه الثنائية ما عكسها وببراعة أحد الأفلام الألمانية بعنوان «وداعاً لينين» (عند المشاهدة لاحظوا موقع الكوفية العربية من هذه الثنائية).

جدار الرياض سقط، وصلت الألوان!
شهدت العاصمة السعودية الرياض، خلال الأسابيع الماضية، ولأوّل مرّة، مهرجاناً موسيقياً عالمياً تحت مسمّى «ميدل بيست». ولا يسع المراقب، ومن منظور تاريخي، أن لا يرى أوجه الشبه بين مهرجان برلين الجدار والرياض اليوم، خصوصاً إذا ما استعرنا عدسة التغطية الإعلامية الغربية للنظر إلى المرحلتين.
فخلال تغطيتها للمهرجان، استعرضت مراسلة «بلومبيرغ» التحوّل الذي يحصل في المملكة ضمن الثنائية المتكرّرة بين الانفتاح والانغلاق. تمسي مشاهد الرقص وألوان الأضواء البرّاقة هنا هي عنوان النقلة النوعية والتاريخية، وهنا تحديداً جلّ المسألة.
فنحن نتحدّث عن ترويج ومحاولة إنشاء نموذج بديل من مرحلة سبقته كان عنوانها السطوة الدينية للدولة. فما كان العنوان البديل إلا مظاهر وألوان الترفيه ورقص الشباب والاستهلاك ورعاية الدولة لها.

(أ ف ب)

وهو ما يتقاطع مع مضمون بروباغندا الثقافة الرأسمالية الغربية حيث الترويج أن ثمرة التغيير الاجتماعي والانحياز السياسي والاقتصادي للغرب سيجني هذا النمط «الجميل» من الحياة ورغد العيش، وهذا ما كان في برلين والثورات الملوّنة في شرق أوروبا، واليوم في الرياض، وهو ما يتم غرسه وهندسته في جيل من شباب وشابات عرب في السعودية.
أثناء احتفالات الجزائر بالفوز بكأس العرب علّق أحد أبرز حسابات «تويتر» السعودية محاولاً توهين مشاعر الحب التي أغدقها الجمهور العربي على الجزائر بأنه لا يوجد في الأخيرة «مطاعم عالمية». في محاولة هذا الحساب منافسة وطنية عربية قائمة على إرث تحرّري واستقلال ودماء شهداء وذاتية تاريخية لم يجد «معرّة» إلا استحضار جوهر الهوية السعودية الجديدة وهي العولمة والاستلاب الثقافي والاقتصادي.
وبالرجوع إلى تقرير «بلومبيرغ»، عرّف أحد الأمراء السعوديين - من المهم الانتباه له أنه «الأمير الشاب» وإن كتب اسمه في التقرير بأنه الأمير الفلان الفلاني - عن نفسه بأنه «سعودي إنتربنور» أي رائد أعمال سعودي. الأمير المرتدي لسترة فاقعة الألوان، تحدّث عن بهجته بالمهرجان وعن التماثل الثقافي بينه وبين أبرز «النجوم» على المسرح وكيف أنه يجهش بالبكاء بعد كل عرض.

«الفيلتر» السابق
في معرض تبريره لدعم ورعاية الوهابية يقول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إن ما قام به أعمامه كان خدمة للأميركيين في صراعهم مع الاتحاد السوفياتي. دعم ورعاية كانا إحدى دعائم ما يطلق عليه بـ«الصحوة» بما فيها من وصاية وعصا المحافظة الاجتماعية وتحشيد العصبيات الدينية والمذهبية.
النقطة هنا أن المرحلة التي سبقت «وصول الألوان» لم تكن تجسّد نموذجاً مغايراً بالمعنى الجذري، أي نقيضاً إيديولوجياً بنيوياً لنشبّهه كما بين ألمانيا الشرقية والغربية. فالمملكة لم تكن تمثّل نموذجاً اقتصادياً وحتى اجتماعياً «مغلقاً» بالطريقة التي تكرّرها وسائل الإعلام الغربية بشكل ببغائي. وبل ومن الناحية الاقتصادية لم يبدأ الانفتاح مع عهد محمد بن سلمان، بل إنه سبقه بعقود. والأمر الآخر أن هذا «الفيلتر» المفترض لم يكن انعكاساً عن تمثيل الناس عن أنفسهم بل كان بحد ذاته قسرياً وضمن إطار الموقع السياسي التاريخي ذاته للطبقة الحاكمة السعودية وهو المصالح الأميركية.
جلّ شرعية الأمير اليوم قائمة على بهرجات الألوان النيوليبرالية، وليس لجمهوره في الداخل بقدر ما هي محاولة لإعادة تأهيل نفسه للغرب


حتى من الناحية الاجتماعية والثقافية، فإن جمهور الشباب السعودي الذي يملأ مواسم الترفيه لم يظهر من العدم، بل هو نتيجة صياغة الأجهزة الإعلامية الرديفة للدولة والتي قامت بتجسير الثقافة الغربية ورعايتها عبر مؤسسات إعلامية عملاقة لا تبدأ بـ«MBC» ولا تنتهي بمجلات «الرجل» و«المرأة»، مع أبواب مشرّعة على العولمة. فالحالة المسخ التي شهدتها المملكة السعودية، أقلّه من بداية التسعينيات، بين ثقل الهوية الدينية ومنافسة من تيار يُدعى في السياق السعودي بالليبرالي، انتهت بتسيّد الأخير وليكون محمد بن سلمان رافعته. وعليه، وحتى اليوم، يستمر النقاش الأخلاقي البالي بين مظاهر ثقافية معادية للعادات والتقاليد والدين، وبين الترويج للشكل الجديد للهُوية السعودية أو حتى تفضيل أبعاد منها. وبشكل يتّضح في الفجوة بين المواطنين السعوديين في الخارج الذين، ورغم توحّدهم ضد سلطة ولي العهد، ولأسباب مختلفة، فإنهم يمثّلون مثالاً لحالة استقطاب مجتمعية حادّة لمنظور ما هو شكل البلاد الأوحد والحصري. وضمن هذا الاستقطاب، يتغافل كثيرون أن المسألة الجوهرية - بعيداً من المزايدات الأخلاقية - في الذي يحدث في المملكة هي معضلة ما يطلق عليه أحد الأكاديميين السعوديين «شرعية العولمة». بالعودة إلى ألمانيا، حتى بعد سقوط جدار برلين، ومع الأخذ في الاعتبار السياق والموقع الغربي لهذه الدولة، فإن النموذج الذي تقوم عليه اليوم كأكبر اقتصادات أوروبا قائم على الصناعة وأبعاد من الاكتفاء الذاتي وأخرى لمتانة ثقافية في اللغة والمعرفة في الإنتاج. وهذا ليس عماد ما تقوم عليه السعودية اليوم. بل إن جلّ شرعية الأمير اليوم قائمة على بهرجات الألوان النيوليبرالية، وليس لجمهوره في الداخل بقدر ما هي محاولة لإعادة تأهيل نفسه للغرب، في حين عجزت الطبقة الحاكمة حالياً في السعودية عن إنتاج أي شرعية ذاتية ومستقلة، إذ خلف كل هذا الضجيج أزمة رداء الشرعية تتضافر مع أزمة مخاض تحوّل اقتصادي.
تقول إحدى القصص العالمية إنه وفي زمن بعيد وفي بلد من البلدان عاش ملك من ملوكه مهووساً بالأزياء، فقد كان يجلب المصمّمين من كل بقاع الأرض ليصمّموا الثياب له ويخرج من على شرفة قصره ليستعرض ثيابه لشعبه وسط تصفيق حار. وفي يوم ما، أتاه مصمّم من بلاد بعيدة وصمّم له رداء شفّافاً يكون فيه الملك أشبه بالعاري، وقال للملك إن هذا الرداء منسوج من خطوط سحرية لا يراها سوى الأذكياء فقط وذوي الذائقة الحسنة وهم الوحيدون الذين يرون جمال هذا الرداء. فخرج الملك إلى الشرفة لشعبه الذي رآه عارياً، بيد أن الخوف من العقاب أجبره على كبت الضحكات والتصفيق!

* كاتب عربي