لا غلوّ في القول إنّ غالبية وسائل الإعلام تسوّق منذ ما يقارب الثلاث سنوات قراءة أحادية لما يجري في بعض البلدان العربية، تحت عنوان «الربيع» أو «الثورة». يتلازم ذلك مع حملة دعائية نشِطة تستخدم فيها كفاءات حشد من المحللين والخبراء والصحافيين والمفكرين، بالإضافة إلى رجال دين ينتمون إلى مختلف الأديان والمذاهب.كأن الديموقراطية تقتصر على الكلام الجميل إغواءً واستهواءً للبسطاء والمعدمين. هل تحققت وترسخت الديموقراطية في شاطئ العاج ومالي نتيجة تدخل القوات الفرنسية؟ هل تقدّم الليبيون نحو الديموقراطية بفضل الحلف العسكري الأطلسي... هل لامسوا حجرها الأسود؟ صار أمراء النفط مبشّرين بالديموقراطية، فاغتبطت ديموقراطيات الغرب الملحقة بقطار الولايات المتحدة الأميركية.
لم يعد يليق سياسياً في هذا الزمان ارتجاع 11 أيلول/ سبتمبر 1973، تاريخ الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال بينوشيه لحساب الولايات المتحدة الأميركية، ضد حكومة بلاده تشيلي، في عهد الرئيس سلفادور أليندي، فاغتال بينوشيه الرئيس والديموقراطية معاً، إرضاءً لنيكسون بابا! لا أذكر أني سمعت أو قرأت أن الولايات المتحدة الأميركية أعانت أو سهلت تقدم حركة وطنية في البلاد التي كانت تعرف بالنامية، في وضع ركائز مؤسسات الدولة الوطنية، إلى حد أن النمو في هذه البلاد توقف وتعطل، فلم تعد تسمى دولاً نامية، بل دولاً متخلفة! أما سلطات الحكم فيها، فإن الممسكين بها أقزام أو مقزمون. من صفاتهم الثابتة: القبح وسوء الأخلاق والتبعية الكاملة للسيد الأميركي أو لأعوانه في أوروبا.
لا شك في أن تكوُّن ائتلاف ثلاثي يضم الحلف الأطلسي إلى جانب مجلس التعاون الخليجي والجماعات الإسلامية، وتوكله بتحرير الشعوب في بلاد العرب وإرساء دول عادلة، هو ضرب من المحال. الإسلام دين، والدين والإيمان مسألتان تخصان الفرد في توحده وتصعده الروحاني. فليس للقول إنّ للدولة ديناً أو إن لها قلباً يعمره الإيمان، معنى ديني! يستتبع ذلك أن لا معنى، أيضاً، للقول: «الديموقراطية لا تستوي في ظل الإسلام».
من البديهي أنّ الغموض الحاصل حاضراً في المفاهيم مردّه إلى أنّ الإسلام السياسي والسلطة الإسلامية، من نماذجها الأبرز حكم آل سعود من جهة والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة ثانية، اقتحما الميدان العام. وقد نجم عنه ظهور قراءات وهمية، جزئية، كيفية ومتغرّضة للأحداث التي عدّها البعض «ثورات».
غني عن البيان أنّ القبول بمفهوم الإسلام السياسي، هو في الوقت نفسه قبول ضمني بإضفاء القدسية على النهج السياسي. استناداً إلى أنّ المقدس لا يكون عادة موضوع نقاش، ينجم عنه أن الإسلام السياسي لا يتوافق مع الديموقراطية ولا مع المواطنة. فالرجوع إلى القرآن لا يسمح بالاستنتاج أنّ المسلمين هم على درجة واحدة في إيمانهم وصدقهم (الفرق بينهم بالتقوى).
أنا لا أدّعي امتلاك رؤية عن تطبيق وفوائد الديموقراطية في البلدان المتخلفة، ولكني أعتقد بأن فرض سلوك ديموقراطي في هذه البلدان يحاكي السلوك الذي تنتهجه المجتمعات الغربية، إنما هو خدعة الغاية منها التخريب والاغتصاب. إذ ليس معروفاً بحسب علمي أن الديموقراطية، مهما كان شكلها ومضمونها، تتقدم على قيام الدولة وتأسيس الكيان الوطني. متى تتوصل الديموقراطية في الغرب إلى اختيار سياسة متحضرة تحرّم استعمار الشعوب، وتعترف بحق المعذبين في الأرض بتقرير مصيرهم. إن التدخل في شؤون الآخرين يبطن انتهاكاً لكرامتهم ويعبّر عن ميل عنصري!
أصل الآن بعد هذه التوطئة، إلى عرض قراءتي، كمتابع عادي، لما اصطلح منذ ثلاث سنوات على تسميته «ثورات».
كان شاه إيران مسلماً على مذهب الشيعة، كما يقال. هذا لم يحرمه من الفوز بوظيفة شرطي الخليج. توكلت جيوشه بحماية دويلات المنطقة، ومن ضمنها مملكة آل سعود. يحسن التذكير بأنّ الجيش الإيراني أرسل إلى عُمان من أجل القضاء على انتفاضة إقليم ظفار، وبأن إيران استعادت جزراً، بعد انسحاب المستعمرين البريطانيين منها من دون أن يحرك أمراء النفط في ذلك الوقت ساكناً. مثلما أنّ ألسنة آل سعود لا تزال معقودة منذ 1967 رغم احتلال المستعمرين الإسرائيليين جزيرتي تيران وصنافير. كان شاه إيران لا يخشى عدواناً، لأنه كان يتصرف بوكالة من الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن أنه كان يستقوي، أيضاً، بعلاقات جيدة بالمستعمرين الإسرائيليين وبالحكومة التركية، عضو الحلف الأطلسي.
في الجانب الآخر، كان آل سعود أعداء لدودين لمصر في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر. كان هذا الأخير مسلماً على مذهب السنة، إذا جاز التعبير. من المعروف أيضاً، أن شاه إيران «الشيعي» كان شريكاً لآل سعود في بغض عبد الناصر. لم تتأتّ الخطورة على العروبة في ذلك الزمان من آل سعود ومن شاه إيران وحدهم، وإنما تجسدت أيضاً على شكل عدوان ثلاثي سنة 1956 عندما أراد المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون والإسرائيليون التخلص نهائياً من جمال عبد الناصر؟ لماذا؟ لأنه كان مصرياً، أيقن أن أمن مصر من أمن سوريا من جهة وفي تحرر الجزائر وفلسطين من الاستعمار الاستيطاني من جهة أخرى... بالإضافة إلى توعية شعوب شبه الجزيرة العربية!
لقد تعرضت المنطقة العربية لزلزالين كبيرين. لم تتوقف بعد ارتداداتهما عن الفعل والتفاعل. أعني بذلك الهزيمة الماحقة في 5 حزيران/ يونيو 1967 وانتصار الثورة الإيرانية في 11 شباط/ فبراير 1979. كان جمال عبد الناصر قومياً مصرياً، يحمل مشروعاً قومياً عربياً يرى فيه فائدة لمصر وللعرب. بالمقابل طرح قائد الثورة الإيرانية سيد روح الله موسوي الخميني الإسلامي الإيراني، مشروعاً إسلامياً، اقتنع بأنه يلبي مصلحة إيران والمسلمين. هذا من منظور سياسي طبعاً. أما في موضوع الدين، فلا تحتاج الرسالة المحمدية إلى نبوءات وفتاوى. إنها محفوظة في القرآن. إذا قرأه المسلمون أفشلوا انتهاكات التجار والأشرار.
وجهت الثورة الإيرانية بعد انتصارها، إلى الإسلاميين في العالم، رسالتين واضحتين، تقول في الأولى إنّ السلطة الإسلامية هي سلطة مستقلة لا تخضع لتأثير جهات أجنبية. وتقول في الثانية إنه يجب على الإسلاميين أن يكونوا متضامنين في ما بينهم. لا جدال في أن فحوى هاتين الرسالتين سياسي. هنا يكمن لب المشكلة التي تؤجج نار الثورات والحروب المشتعلة في الراهن أو التي من المحتمل أن تشتعل. فالاستقلال والسيادة يتطلبان في هذا الزمان امتلاك قوة تردع المعتدين أمام الثمن المرتفع الذي قد يترتب على عدوانهم. أما الرسالة الثانية فهي أشد إقلاقاً، لأن تضامن الإسلاميين يزيد من قوتهم على الردع من جهة، كما أنه يوحد مقاومتهم ويمنع الانفراد بمكوناتها، مكوناً بعد آخر. كما كانت حال دول الطوق العربي قبل خروج مصر والأردن، وإخراج العراق، من الصراع ضد المستعمرين الإسرائيليين. هذا ما شجع الأخيرين على إعلان الحرب على سوريا. بمعنى آخر، إن التضامن لا يستوي مع عقد الاتفاقيات كمثل كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، كما أنه يجعل تطبيع العلاقات مع المستعمرين الإسرائيليين مستحيلاً، فضلاً عن كونه أمراً مكروهاً!
من البديهي أنّ الإدارة الأميركية أعلنت سخطها على هذه الرسائل. وسارعت بكل الوسائل إلى تحريفها وإلى اختلاق تفسيرات وتأويلات لها بقصد تنفير الناس وبثّ بذور الشقاق بينهم، حتى يقتتلوا بين مؤيد ومعاد لإيران. طبيعي ألا تروق هذه الرسائل أيضاً المستعمرين الإسرائيليين، ولا سيما أنّ التضامن مع الفلسطينيين تجسد بإغلاق السفارة الإسرائيلية، وإحلال ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية فيها، ولكن ما العمل؟ فأغلب الظن أنّ الرئيس ياسر عرفات كان سعودي الهوى.
من المعروف أنّ الخطاب الإيراني جلب الأرق لآل سعود. فلقد احتوى على رؤية جديدة للسلطة «الإسلامية»، لا تتفق مع النهج الذي يسلكه الأخيرون، باسم الإسلام. بكلام أكثر وضوحاً وصراحة، سحب الخطاب المذكور البساط من تحت أقدام آل سعود، أو بالأحرى «سجادة الصلاة» إذا جاز التعبير. هنا برزت مسألة «الشرعية الدينية»! تديّن آل سعود نموذجاً!
اتضح للإدارة الأميركية ولأتباعها وأعوانها أنّ ذلك يقتضي العمل على إفشال التجربة الإسلامية في إيران. ليس من حاجة إلى التذكير هنا بأنّ الإمبريالية والمستعمرين هم ذوو خبرة غنية في مجال اعتراض إرادة الشعوب. ففي إيران نفسها، أطاحت المخابرات الأميركية سنة 1953 حكومة السيد محمد مصدق. لم تنج الجمهورية الإسلامية الإيرانية من غضب الولايات المتحدة الأميركية. لست هنا بصدد تناول هذا الموضوع، ولكن أقتضب فأقول إنّ هذه الأخيرة أوكلت إلى الحكومة العراقية، ودول مجلس التعاون الخليجي، أمر شن حرب دموية ومدمرة ضد إيران. كالعادة تنشط دوائر المستعمرين في صناعة صورة قبيحة لنظام الحكم في إيران وإظهاره على شكل «شيطاني»، بالتلازم مع فرض مقاطعة اقتصادية، وصولاً إلى قضية «سلاح الدمار الشامل، وإلى خطورة «النووي» الإيراني على أمن العالم.
وبالعودة إلى آل سعود، تجدر الملاحظة أنّ الأخيرين تلقوا الخطاب الإيراني كما لو كان إنذاراً. فلقد جاء فيه أنه يجب على «السلطة الإسلامية» الوقوف الى جانب الفلسطينيين في مواجهة المستعمرين الذين احتلوا بلادهم. بمعنى آخر يا آل سعود، السلطة الإسلامية هي التي تقاوم المستعمرين الإسرائيليين بشتى الوسائل المتاحة، حتى تستفيق «العدالة الدولية» وتتذكر الفلسطينيين الذين ينتظرون في مخيمات المنفى، منذ عام 1948 العودة إلى بلادهم. آل سعود مناهضون للاستعمار!
ما زاد الطين بلة هو أن الإيرانيين أدركوا أن الفقراء لا يستطيعون المحافظة على سيادتهم إلا بسلاح الفقراء، وليس بسباق التسلح الذي سيكونون الخاسرين فيه حتماً. ما يلزم هو سلاح يمكن بواسطته تعطيل آلة الحرب الغربية الرهيبة، لذا قاموا بتصنيع وتطوير قذائف صاروخية، بأعداد كبيرة، قادرة على أن تطال أهدافاً حساسة لا يحتمل المعتدون خسارتها أو إصابتها.
ما حمل أعداء إيران على بناء خطة مواجهة على ثلاث جبهات:
ـــ فلسطينياً: إيجاد قيادة فلسطينية على استعداد لأن تتباحث مع المستعمرين بوساطة أميركية طيلة مدة عشرين عاماً، رغم جدار الفصل العنصري ورغم بناء المستوطنات، من دون أن تشكك بصدقية الإسرائيليين والأميركيين. هذا تحقق فعلاً سنة 1993 بتوقيع اتفاقية أوسلو. أما آل سعود وأمراء النفظ، فقد قاموا بما طلب منهم بدعم هذه القيادة الفلسطينية وتشجيعها على سلوك هذا النهج «العدمي».
ـــ لا مبرر إذاً، بحسب الخطة الأميركية ـــ السعودية الإسرائيلية، لتدخل إيران في القضية الفلسطينية، إلا الرغبة في بسط الهيمنة باسم الإسلام، بل يقول آل سعود وأنصارهم باسم المذهب الشيعي. لذا فهم يعتقدون بأن درء الخطر الإيراني ممكن عن طريق تكفير أتباع هذا المذهب الأخير من جهة، وتجييش الإسلاميين من جهة ثانية، من أجل الحرب على سوريا وعلى حزب الله، حلفاء إيران، لإجبارهم على الارتماء في أحضان آل سعود التي يعمرها «الإيمان وحسن الأخلاق»!
ـــ إخراج ورقة سلاح الدمار الشامل من جديد، والتهديد بالحرب. حتى ترضخ إيران وحلفاؤها ويقبلون بأن يتخلوا عن القذائف الصاروخية التي يتعدى مداها الحد الذي تسمح به الإدارة الأميركية.
ولكن التجربة العراقية أثبتت أن إتلاف القذائف الصاروخية يمهد للغزو والاحتلال وتجزئة البلاد وتفرقة الناس. لماذا اللف والدوران وخداع الذات. إنّ حرباً يشنها تحالف يضم الولايات المتحدة الأميركية وأتباعها وأمراء النفظ، في مقدمهم آل سعود، وتنظيم القاعدة وفروعها، ليست هذه الحرب بثورة. هذه الصومال وأفغانستان والعراق وليبيا. إن الغاية من هذه الحرب هي التطهير المذهبي والطائفي والتدمير. لقد حرّفوا الرسالة المحمدية. وأجهضوا الاتحاد العربي في مهده. إنهم يرتكبون في بلاد العرب جريمة ضد الإنسانية. مجرمون ومتواطئون!
* كاتبة لبنانية