على رغم إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خصوصاً منها تلك التي يتزعمّها «الليكود»، على المُضيّ في بناء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين بذرائع أمنية، إلا أن ثمّة اليوم ما يشبه الإجماع بين كبار أعضاء مؤسّسة الدفاع على أنه «حتى وإن كانت فكرة مساهمة المستوطنات في الأمن القومي سائدة في الماضي، فإنها باطلة اليوم». ففي وثيقة بحثية بعنوان «الأمن القومي والمستوطنات»، أعدّها أفيشاي بن ساسون جورديس، رائد احتياطي في سلاح الاستخبارات وزميل باحث في «معهد موليد»، عُرضت ثلاثة أسباب تدحض التبرير الأمني للمستوطنات، وهي كما يلي:أولاً: اختفاء التهديد التقليدي في الشرق، والمُتمثّل في الجيش الأردني أو العراقي، بسبب التغييرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، لناحية توقيع «معاهدة سلام» مع الأردن عام 1994، واحتلال العراق عام 2003. بدلاً من ذلك، أصبح التهديد من الجبهة الشرقية مُتمثّلاً في الصواريخ الإيرانية التي لا تتمّ مجابهتها من خلال المستوطنات.
ثانياً: تغيير طبيعة المستوطنين ودورهم أثناء الحروب. ففي الماضي، كان كلّ من هؤلاء يحمل المحراث في يد والبندقية في أخرى، ليُشكّلوا الطليعة العسكرية التي تقاتل في الحرب، أي إن المستوطنات كانت في خدمة الجيش. أمّا المستوطنون الجدد، فهم مُرفّهون ويعتبرون أن من واجب الجيش حمايتهم، إلى حدّ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين اعتبر أنهم «يُشكّلون عبئاً على المؤسسة العسكرية». وتشير التقديرات إلى أن نحو 80% من قوات جيش الاحتلال تعمل على تأمين المستوطنات، بينما الـ20% المتبقّية تتولّى المهمّة نفسها داخل الخطّ الأخضر، وهو ما سيتضاعف في أيّ حرب مستقبلية.
ثالثاً: القدرات التكنولوجية العالية الذي يحوزها جيش الاحتلال، وتُلزمه بالتخلّي عن الأساليب التقليدية في «الدفاع عن وجوده». وفي هذا الإطار، يرى نائب رئيس الأركان السابق، موشيه كابلينسكي، أن «التصوُّر بأن الاستيطان يخدم الأمن عفا عليه الزمن، ومفهوم الاستيلاء على الأرض لتحقيق الأمن كان منطقياً قبل أن تكون لدينا تكنولوجيا».
هذه المحاججة تُعزّزها جملة معطيات، لعلّ أبرزها فشل المستوطنات في تحقيق «الأمن» إبّان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهو ما زعزع الإجماع الإسرائيلي على الاستيطان. وتزايدت تلك الشكوك مع اندلاع انتفاضة الأقصى، حيث ألقى الإسرائيليون داخل الخطّ الأخضر باللوم على مستوطني الضفة الغربية. كما أن المستوطنات، التي أريد منها «تأمين» الجبهة الشرقية، فشلت في حماية «غوش دان» من صواريخ «سكود» التى أطلقها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في حرب الخليج الأولى. أمّا مستقبلاً، فإن المستوطنات تُمثّل عبئاً أمنياً في أيّ مواجهة على الجبهة الشمالية مع حزب الله، أو الجبهة الجنوبية مع المقاومة في غزة؛ إذ يَعتقد مسؤولون في المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية أن المستوطنات في الضفة الغربية تَهدر موارد الجيش وتُعطّل جهوده. وفي هذا الإطار، يقول مسؤول في وزارة الدفاع إنه «لا يزال هناك الكثير للقيام به للإعداد للحرب مع حزب الله. لكن المشكلة هي أننا مُقيّدون في قدرتنا على تحسين الكفاءة، لأن جزءاً كبيراً من قواتنا مستثمَر في الضفة الغربية». كذلك، لا يُتوقّع أن تُوفّر المستوطنات «الحماية» للمراكز الحيوية في إسرائيل في حال اندلاع حرب مع حزب الله؛ فبحسب تقرير صادر في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 عن «مركز القدس للشؤون العامة وشؤون الدولة»، فإن «جيش الاحتلال سيضطر إلى إخلاء 22 مستوطنة في أيّ حرب مع لبنان. وسيستخدم حزب الله صواريخه الدقيقة على منطقة غوش دان، ما سيجعل 27% من مواطني إسرائيل من دون حماية».

تاريخ استيطاني طويل
يُعدّ الاستيطان الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني في فلسطين، إذ يهدف إلى إحلال العنصر السكّاني اليهودي محلّ العنصر السكّاني الفلسطيني من خلال احتلال الأرض. وعلى رغم أنه بدأ بدوافع دينية وإيديولوجية، إلا أن الطابع الاستراتيجي والأمني أخذ يهيمن عليه منذ ما بعد حرب حزيران 1967. وتعود بدايات الاستيطان إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث مَثّلت «مكفا يسرائيل» أوّل مستوطنة زراعية يهودية، تأسَّست عام 1870 في لواء القدس. وبتأسيس الحركة الصهيونية، بدأت موجات الهجرة الجماعية لليهود، فوصلت موجة الهجرة الأولى بين عامي 1882 و1903، ليتركّز الاستيطان في هذه المرحلة في المناطق الساحلية والسهول. ومع أنه اتّسم آنذاك بغياب التنظيم، إلا أنه أرسى الأسس التي قامت عليها الحركة الاستيطانية المنتظمة في ما بعد.
بصدور وعد بلفور واستعمار بريطانيا لفلسطين، مُنحت الحركة الصهيونية وضعاً رسمياً من أجل التمهيد لإنشاء «وطن قومي لليهود»، فأصبح الاستيطان في هذه المرحلة يتّخذ طابعاً استراتيجياً، بغية تشكيل حدود «الوطن القومي»، مستنداً آنذاك إلى نموذج المستوطنة الزراعية التعاونية، أي «الكيبوتس» و»الموشاف». وبعد النكبة عام 1948، سعت إسرائيل إلى توسيع الاستيطان خارج الخطّ الأخضر بهدف تحقيق «أمنها»، وهي فكرة تَعزّزت لاحقاً مع رئيس الأركان الأسبق، موشيه ديان، عام 1956، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، حيث أقيمت مستوطنتان في رفح وشرم الشيخ، قبل أن يُجبَر الكيان على تفكيكهما بفعل الضغط الدولي.
أريد من المستوطنات في الضفة الغربية تعزيز قدرة الكيان الإسرائيلي على الردع


إبّان نكسة 1967، كرّست حكومة «حزب العمل» الارتباط بين الاستيطان و»الأمن»، بموجب خطّة صاغها إيغال ألون، وهو شخصية أمنية شغلت منصب وزير العمل. اقترح ألون إنشاء منطقة أمنية عازلة بضمّ أراضي بعمق 10-15 كلم على طول وادي الأردن والبحر الميت و»غوش عتصيون»، لتكون لإسرائيل «حدود قابلة للدفاع عنها». وبحسب «مشروع ألون»، يتركّز الاستيطان في هذه المرحلة في المناطق «ذات الأهمية الأمنية» في وادي الأردن، ومنحدرات السلسلة الشرقية لمرتفعات الضفة الغربية والجولان، و»غوش عتصيون» ومناطق متاخمة للقدس، فيما يتمّ تجنُّب المناطق المأهولة بالفلسطينيين.
وعلى رغم أن القانون الدولي يُجرّم إقامة المستوطنات على الأراضي المحتلة عام 1967، فقد دُشّنت في عام 1968 مستوطنة «محولا» في غور الأردن، كأوّل مستوطنة عسكرية تابعة للواء «ناحال». وتَركّز بناء المستوطنات في تلك المرحلة على المناطق الزراعية الخصبة في الجولان وغور الأردن، للدمج بين المبرّرات الأمنية واحتياجات المستوطنين. وإضافة إلى النموذج الاستيطاني الزراعي، ظهر نموذج المستوطنة العسكرية والمدرسة الدينية - العسكرية «يشيفات ههسدير». ومع وصول حزب «الليكود» إلى الحكم عام 1977، تصاعد بناء المستوطنات، وانصبّ الجهد على زيادة عدد السكّان اليهود، فيما أصبحت «غوش إيمونيم»، وهي حركة دينية قومية، الدينامو الرئيس للنشاط الاستيطاني؛ إذ سعت الحركة، لاعتبارات دينية وتاريخية، إلى الاستيطان في المناطق الجبلية الآهلة بالسكّان العرب، ونادت بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة. وبين عامَي 1990 و1992، تبنّت الحكومة الإسرائيلية خطّة استيطانية شاملة قَدّمها وزير البناء والإسكان آنذاك، آرييل شارون، الذي سعى - لاعتبارات أمنية - إلى الاستيطان في جبال الضفة الغربية وزرع المستوطنات بمحاذاة الطرق.
مثّلت فكرة الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين القاسِم المشترك بين جميع الأحزاب السياسية الإسرائيلية، وهو ما أفضى إلى وجود أكثر من 200 مستوطنة يسكنها نحو 620 ألفاً، يشكّلون الآن عقبة أمام إقامة دولة فلسطينية، وفق منطق الداعين إلى «حلّ الدولتين»، إذ إن الاستيطان قطّع أوصال التجمُّعات السكّانية للفلسطينيين، وحَوّلها إلى كانتونات من خلال إنشاء شبكة واسعة من الطرق لربط المستوطنات. حتى إن «اتفاقية أوسلو» لم تعرض مسألة الاستيطان باعتبارها من المسائل المتعلّقة بالحلّ النهائي. وتحافظ إسرائيل بموجب ذلك على سيطرة شبه تامّة على 60% من مناطق الضفة الغربية (مناطق ج)، تشمل الصلاحيات الأمنية والمدنية.
والجدير ذكره أن المستوطنات في الضفة الغربية أريد منها تعزيز قدرة الكيان على الردع، وتوفير المدّة الزمنية اللازمة للإنذار المبكر لتعبئة جنود الاحتياط، إذ أقامت إسرائيل محطّات الإنذار المبكر على قمم جبال نابلس وهضبة الجولان، بما يُمكّنها من مراقبة الجيش السوري وأيّ قوة عسكرية على الأراضي الأردنية. كذلك، ثمّة اعتقاد بأن المستوطنات استهدفت توفير «الحماية» لمنطقة «غوش دان»، التي تُعدّ بمثابة المركز السياسي للكيان وعصب الاقتصاد الإسرائيلي، والتي تشمل عدداً من المدن الرئيسة في مقدّمتها تل أبيب. وتغطّي هذه المنطقة مساحة 1500 كلم مربع، ويعيش فيها 44% من الإسرائيليين، ما يُرتّب على استهدافها خسائر اقتصادية وبشرية فادحة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا