غزة | بدا لافتاً، منذ اللحظة الأولى للعدوان، أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية جنّدت كل مكوّناتها العسكرية والسياسية والإعلامية لاجتثاث حركة «الجهاد الإسلامي» تحديداً، بعدما أصبحت، في الأعوام الأخيرة، عقبةً تعترض المخطّطات الإسرائيلية في الملعب الأكثر أهميّة لدولة الاحتلال: الضفة الغربية المحتلّة، التي تسمّيها إسرائيل - في أدبياتها - «يهودا والسامرة»، في إشارة إلى أنها جزء لا يمكن القفز عن أهميته في المشروع الاحتلالي كله.بالعودة إلى الوراء قليلاً، سيتبيّن أن «الجهاد»، منذ انتهاء معركة «سيف القدس» عام 2021، وما بعد عملية الهروب من سجن جلبوع في العام ذاته، أعادت عقارب الساعة في ساحة الضفة إلى أكثر من 15 عاماً إلى الوراء. ونجحت - في وقت قياسي - في إخراج المشهد المقاوِم بكلّه من حالة الإحباط، عبر إعادة بناء المجموعات العسكرية المقاتلة، التي تمدَّدت سريعاً، من جنين إلى طولكرم فنابلس، ثم طوباس، فيما تستعدّ مناطق أخرى للانخراط. وعلى رغم بساطة الفعل المقاوم حالياً، الذي يبدو محصوراً في جوانب الاشتباك الميداني والمشاغلة، إلّا أن الخطر الذي تخشاه إسرائيل هو إعادة استنهاض، ليس خلايا حركة «حماس» العسكرية التي تحاول ذلك بطبيعة الحال، إنّما دفع مكوّن حسّاس مثل «كتائب شهداء الأقصى»، الذراع العسكرية لحركة «فتح»، وحتى الأجهزة الأمنية، للانخراط في الاشتباك، إذ نفّذ خالد حجير، وهو أحد عناصرها، هجوماً، نهاية الشهر الماضي، على حاجز احتلالي بمساندة مجموعة من رفاقه. يشكّل ذلك، ليس ضربة لقطاعات جيش الاحتلال - ولا سيما «الشاباك» - فحسب، وإنّما تقويضاً للجهود الأميركية التي أنفقت عليها الإدارات المتعاقبة مليارات الدولارات، وأوفدت لأجلها الجنرال كيث دايتون، الذي نجح منذ عام 2007، حتى وقت قريب، في نزع سلاح المجموعات العسكرية التابعة لـ«فتح»، عبر مصالحات مع الاحتلال، فضلاً عن تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ونقلها من المربّع الوطني الذي طُبعت به عقب مشاركة قادتها الفاعلة في انتفاضة الأقصى عام 2000، إلى أجهزة عسكرية مهنيّة، منزوعة من السياق المقاوم، تقوم بدور التنسيق الأمني بلا أيّ حرج ومواربة، وتؤدّي دوراً مشبوهاً في مكافحة تمدُّد المقاومة والقضاء على مجموعاتها، بذريعة الخشية من تكرار سيناريو طرد السلطة من غزة.
لماذا «الجهاد»؟ يجيب مصدر في الحركة بأن الضغوط التي تمارسها إسرائيل عبر الوسطاء الدوليين والإقليمين، لم تنجح، منذ عام 2018، في دفعها إلى أن تأخذ منحى «معتدلاً»، إذ ينتهج الأمين العام الحالي للحركة، زياد النخالة، موقفاً جذرياً من إدارة الصراع، «هو يريد أن يعيد المقاومة إلى سابق عهدها، بمعنى أن يحافظ على حالة الاستنزاف المستمرّ للاحتلال، وعدم السماح بأن يشعر المستوطنون بحالة استقرار، بمعزل عن كل الحسابات المحلية في غزة أو الضفة، التي تعقّد السير في هكذا توجه»، بحسب المصدر، الذي يقول أيضاً إنه «في عام 2019 اغتالت إسرائيل بهاء أبو العطا، لأنه كان يمثّل، وفق مزاعمها، ذراع أبو طارق النخالة في القطاع، التي قوّضت بشكل مستمرّ حالة الهدوء، حتى إن النخالة بذاته وُضع على رأس قائمة الاستهداف والاغتيال».
استطاعت إسرائيل، في هذه الجولة، اغتيال كل من القادة: تيسير الجعبري وخالد منصور، إلى جانب عدد من المقاومين أصحاب الرتب العسكرية الميدانية، مثل رأفت شيخ العيد، وهو مسؤول الوحدة الصاروخية في المنطقة الجنوبية، غير أن الساعات الأخيرة من يوم أمس الأحد، شهدت أداءً قتالياً مميّزاً لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي») التي قصفت أكثر من 58 مستوطنة محاذية للقطاع بقرابة 200 صاروخ بشكل متزامن، بمجموع تجاوز حتى كتابة هذه السطور، هامش الـ 700 صاروخ.
شهدت الساعات الأخيرة أمس أداءً قتالياً مميّزاً لـ«سرايا القدس»


هذا الأداء يرى فيه المحلّل السياسي إسماعيل محمد، رسالةَ اقتدار وتقويض للأهداف الإسرائيلية من عملية الغدر. ويقول، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «الجهاد الإسلامي أثبتت، طوال سنوات الصراع، قدرتها على ترميم صفوفها وإعادة بناء كوادرها البشرية من جديد، لأنها ببساطة حركة تستقطب كل الثائرين الوطنيين الذين يرَون في المقاومة الخيار المنجز الأكثر قدرة على تحقيق الأهداف الوطنية. لذا، فإن ثمة خزّاناً بشرياً هائلاً على استعداد دائم للانضمام إلى صفوف السرايا، فضلاً عن أن السرايا تدعم بشكل غير مباشر العناصر الفتحاوية المقاومة». ويذكر محمد أنه، في عام 2007، اغتالت إسرائيل خلال ليلة واحدة، نحو تسعة قادة فاعلين في «سرايا القدس»، كان أبرزهم القائد العام ماجد الحرازين، غير أنها أعادت، في أعقاب ذلك، تنظيم صفوفها وملء الشواغر في المناصب القيادية على نحو ديناميكي سريع، وبدت في معارك لاحقة كأنها لم تُمْنَ بأيّ خسائر نوعية.
وعلى رغم الخسارة الكبيرة في هذه الجولة، إلّا أن مصادر في «سرايا القدس» أكدت، لـ«الأخبار»، أن ثمّة مستويات قيادية ذات تاريخ عريق ومهارة عسكرية تؤهّلها لملء الفراغ على نحو منجز، لافتةً إلى أنه فيما لو اتّجهت الأمور إلى تهدئة في الساعات المقبلة، فإن «السرايا» لن تغلق الحساب، وستتحيّن الفرصة في وقت قريب، للبدء بجولة جديدة، لكن في التوقيت الذي تمتلك فيه زمام المبادرة، وتحقّق فيه عامل المفاجأة.