ليست ثمّة أيقونة. ثمّة أمّ، أمّ فحسب، تعضّ على الجراح المُثخَنة التي يبدو مُحالاً التئامها. أمٌّ لَفّت منذ زمن جسدها بالسواد، عندما لم يَعُد محبوبها إلى البيت، في ذلك المساء البارد والقاسي... المساء الذي سرعان ما استحال زمناً طويلاً يمتدّ إلى ما لا نهاية، مِثل سهم خرقَ مساراً موازياً لعالمٍ يتابع تدفّقه بوقْعٍ متواتر رهيب. أمّهات الشهداء، هُنّ القدّيسات، الجميلات الملائكيات. لا يزلْن يبكين في الليالي المقرورة، مُنادِيات: «يا ولدي... يمّا حبيبي وينك؟»، ولكن لا مَن يجيب ليقول: «أنا هُنا يا حبيبتي!». وحده الصدى الآتي من أعماق تراب فلسطين، يردّد على مسامعهن: «أنتِ أمّي قبل أمّي يا بلادي، وأبي قبل أبي»
هنيّة سلامة: وكلّ ما يتمنّى المرء يدركه


«بقولوا عنه أسمر، وين العريس؟ وينو؟». هكذا راحت هنيّة سلامة، أم إيهاب، تُردّد بينما هي تجول في رواق المستشفى، متأبّطةً ما تَبقّى لها من أولادها، وباحثةً عن شهيدها الذي كان قبل ساعات قليلة فقط يذبح العجول، مهيّئاً وليمة عُرسه لليوم التالي. كان سيُزفّ عريساً، بعدما كلّت الأم وهي تبحث في بيوت مخيم جنين عن عروس لقمرها، مستعدّة لأن تحمل الأمانة في عنقها، فتصبح زوجةً لمطارَد من الاحتلال. وجدتْها أخيراً، ولكن «ع الفاضي»، إذ لم تستطع، حتى بهذه الحيلة، إقناع نجلها بأن يظلّ هنا، فحوّلت طموحها إلى أن تَشبع منه فقط، لكن لعلّها اقتنعت في النهاية بأن هذا الأمر مستحيل أيضاً.
في يوم تشييعه، انهارت هنيّة، فالموت وقع مدويّاً على قلبها. كانت تنتظره أن يدخل من باب «بيت الدراويش»، الباب الذي يبدو وكأنه برزخ ما بين عالمَين، والذي آوى فاروق خلْفه المساكين والأيتام، والشهداء قبل أن يَلقوا ربّهم. لطالمت تمنّت أن تَراه قادماً عَبره، وهو يلبس البزّة التي كوتْها، وينتعل الحذاء الذي لمّعته. ليالٍ ونهاراتٌ قضتْها وهي تُحضّر مع نساء المخيم أكياس الحنّاء، وتوزّع الحلويات والمُلبّس في صُرر صغيرة، وتشرف على ربطها وتنسيقها داخل السلال وبين الورود الموزَّعة بإتقان. «كنت سأسجد حمداً لله عندما أراه عريساً، قلت له ذلك، ولكنه كان في عالمه الآخر. قال لي ستسجدين حمداً لله عندما ترينني شهيداً. اليهود فكروا إنهن راح يكسرونا، بس هني أعطوا فاروق اللّي كان يتمناه، وهو انزفّ شهيد بيوم عرسه، وكل الذبائح عملناها وليمه عن روحه».
تتحدّث سلامة عن نجلها إلى «الأخبار»، بينما هي في السيارة إلى جانب زوجها، يشقّان طريقهما من جنين إلى نابلس لزيارة والدة الشهيد تامر الكيلاني. نسألها: «من أين أتيتِ بالقوّة وأنت تسألين وينو العريس؟ كنتِ تعرفين أن نجلك استشهد، ولكنك بقيت قوية!». لم تفكّر مرّتَين، أجابت سريعاً: «عشان فاروق! منحني الله القوة حتى لا أنكسر، لأن ابني عريس، وليس أحلى من الشهادة عرساً». وتتابع: «أنا حنونة جداً ع أولادي، وفاروق خاصة قريد العش (الابن الأصغر)، كان يوقظني عند صلاة الفجر، وكنّا نصوم معاً. ابني كان مؤمناً، ويحبّه الجميع. لا تتمنّى الأم أن تفقد أولادها، ولكنّني ربّيتهم منذ الصغر على أن يكونوا أقوياء وألّا يتنازلوا عن حقّهم. ذات يوم، كان يرشق الحجارة على جنود الجيش الإسرائيلي على حاجز الجلمة، كان طفلاً عمره 15 سنة، ضَربه الجندي كفّ، ما تْحمّل، رجع وبصق بوجهه. كان عمر فاروق تسع سنوات عندما اجتاح اليهود مخيم جنين، لقد كبر أولادي وهم يعايشون الظلم والجرائم بحق شعبنا». تَنقل الهاتف إلى والده الذي أبلغها باستشهاد فاروق قائلاً يومها: «لَمين بتنظفي البيت؟ لفاروق عشان يعيش فيه مع مرته؟ ابنك مات. فاروق استشهد يا هنية». بقلب راضٍ يردّ الأب: «كيف لإنسان أن يصمت أمام هول المجازر والفظاعات؟ الوطن بده، وكلّ الغالي برخص قدام الوطن يا عمي».

يعيش الشهداء في عالمهم الخاص، المتداخل مع عالمنا. صحيح أنهم يشاركوننا مساحات الحزن والألم والضعف، وفي المقابل هوامش القوة والرفض لتقبّل الذلّ والهوان، ولكن لعلّ لهم عيناً ثالثة ترى أبعد ممّا نرى. إنهم يتركون هذا البقاء الفاني ليذهبوا إلى الأبد. تقول هنيّة: «بعد ما استشهد وديع الحوح، جابلي فاروق مسبحة وديع، وقالي خليها معك، فسألته لماذا أفعل ذلك؟ قال خليها معك فقط. لم أكن أعرف الكثير عن عمل ابني في المقاومة، ولكن قلبي أنبأني بأنه سيستشهد. كان ذلك قاسياً، فقد استشهد قبل يوم زفافه»، وتتابع: «بعد ما استشهد رحت على نابلس، أخذني رفاقه في جوله بحارة الياسمينة، فرجوني وين اشتبك وين قاتل معاهم». تحاول الأم حبس دموعٍ تسللت إلى عينَيها، ثمّ تعود لتبتسم راضيةً، وهي تقول إن «لي أمنية واحدة. أن يزورني في المنام وأن يقول لي لقد نلتُها. لقد نلتُ الشهادة يا أمي».

فتحية الكيلاني... الله يحنّ عليك يا أمي


أيّ حِمل قد يناظر ما تَرفعه، وحدها، أمّ عشرينية لرضيعَين - يامن ووتين - استشهد أبوهما للتوّ؟ هذه هي حال شيماء، زوجة الشهيد تامر الكيلاني. مرّ شهر وأسبوع على ذلك الصوت المدوّي، عندما رَكن عميل للاحتلال دراجة ناريّة في زقاقٍ في البلدة القديمة في نابلس، منتظِراً وصول الكيلاني لتفجيرها. حدث هذا بعد خمس دقائق فقط من انتهاء الاتصال الأخير بين الشهيد وزوجته. لا تزال هذه الأخيرة في صدمة، غير مصدِّقة أنه رحل بهذه السرعة. تقول لـ«الأخبار» : «أَحضر (تامر) لي هاتفاً، وأمرني ألّا أعطي الرقم لأحد. كُنّا نتواصل من خلاله؛ إذ كان مُطارَداً منذ 46 يوماً. في اتّصاله الأخير قال لي لا تخافي لقد وجدتُ مكاناً آمناً، ولكنهم كانوا ينتظرونه، لقد وضعوا له عبوة وفجّروا جسده لأنهم لم يتمكّنوا من قتله خلال الاشتباكات، فقد كان قنّاصاً ولم يقووا عليه». وهو ما تؤكّده أيضاً والدة الشهيد بقولها: «طول عمره كان مقبلاً، ولا مرّة تامر كان مدبراً... رفقاته راح ياخذوا بثاره». لم تتماسك أم تامر في يوم الفاجعة، لكنها بقيت هادئة، تبكي بصمت متوسّلة إلى الله أن «يرضى عن ابنها. الله يحنّ عليك يا أمي، ابني عندك يا أَلله».
«يوم دفنوا تامر دفنوا روحي معه. إن روحي دُفنت هناك في القبر، ولم يتبقَّ مني سوى هذا الجسد الذي سيحرس طفلَيه الصغيرَين ويربّيهما أحسن تربية»


في البيت الذي تركه الكيلاني لزوجته، علّقت شيماء مئات الصور. يتنقل الطفل يامن بينها، مشيراً بإصبعه الصغير إلى الوجه الذي ألِفه، منادياً «بابا... بابا». أمّا هي فتنقل شاشة الهاتف إلى غرفتهما، مشيرةً نحو السرير: «هذا محلّه. هون كان ينام. لقد بات فارغاً»، ثمّ تدير الشاشة إلى زاوية أخرى: «هذا عطره. كلّما رغبتُ في شمّه أرشّ منه على الصغير، أحضنه وأقبله. أمّا ثيابه، فلم أغسلها، لا تزال رائحته تعبق فيها». في قصة تامر، لم تكن الأم هي منبع القوة الهائلة فحسب، بل الزوجة أيضاً، تلك التي وصلت إلى المستشفى، ودخلت لترى زوجها الشهيد. تصف اللحظة بالقول: «لا أعرف من أين أتتني القوة لأزغرد فوق جثمانه المسجّى! لا أعرف كيف تمكّنتُ من النظر إلى جسمه المُفَجّر. كان الدم في كلّ مكان. أمّا وجهه فكان جميلاً مثل البدر. بقعة دماء واحدة كانت على طرف خدّه، وكأنها حنّاء. وضعت وجنتي على شفتَيه، كان فمه لا يزال دافئاً».

الشهيد تامر الكيلاني مع زوجته وطفله

سنتان وثمانية أشهر هي عمر زواجهما، ولكن ما بينهما هو الأبد. ارتبطت شيماء بتامر لمّا كان لا يزال أسيراً. تزوّجا، ورُزقا طفلين. كانت لهما أحلام كثيرة وطويلة: «كنتُ فتاة ذكية ومتميّزة، وعلاماتي المدرسية عالية، غير أن والدي وإخوتي لم يسمحوا لي بإتمام دراستي، لقد بقي ذلك حسرة في قلبي، وعدني تامر بأنه سيعلّمني. وقال لي أيضاً إنه عندما أُنجب وتين، وأَرتاح بعد مضيّ الوقت، سيعلّمني كذلك قيادة السيارة، ويشتري لي واحدة. كان يطلب مني دائماً أن أضحك من قلبي، إنه لا يعرف أن هذه الضحكة لا تَخرج إلّا بسببه وفي حضْرته»، تقول شيماء. وتضيف: «لقد قال لي إنني ضحّيتُ بالكثير من أجله، فقد ارتبطتُ به مع أنه اختار هذا الطريق، الطريق الذي فيه فراق للأحبّة، وللدنيا الفانية، والكثير من التضحية والحزن. آه كم كانت لنا من الأحلام، ولكنه خُطف بسرعة ولم نتمكّن من فعل شيء، كان الوقت عدوّنا أيضاً». تتابع مستذكِرةً: «ذات يوم كان عيد ميلاده، دخلنا إلى مدينة الناصرة في الجليل الأسفل، من طريق التهريب. احتفلنا هناك في مطعم وكنّا سعداء... سعداء جداً. كان يحبّ مفاجآتي له، وأنا كذلك».
منذ وقت لم تبكِ شيماء، لكن الحمل ثقيل... ثقيل جدّاً. ترفع يدها إلى حنجرتها، تمسك بشيء ما عالق هناك، ثمّ تُجهش باكية وتقول: «يوم دفنوا تامر دفنوا روحي معه. إن روحي دُفنت هناك في القبر، ولم يتبقَّ مني سوى هذا الجسد الذي سيحرس طفلَيه الصغيرَين ويربّيهما أحسن تربية كما أوصاني... أنا مؤمنة بأنني سألتقيه في العالم الأبدي، في العالم الذي لا يفنى فيه شيء ولا ينتهي فيه الوقت... ولا حتى الدقائق الخمس!».

وفاء التميمي... كم صعب أن لا تجهش أمّ شهيد


ليست وفاء التميمي امرأة معهودة. إنها مِثل نيزك يتساقط من السماء مرّة كلّ ألف عام، تاركاً أثره البليغ في قلب الأرض. هي التي «لم تجهش بعد/ وكم صعب أن لا تجهش أمّ شهيد» (مظفر النواب). لم يسبق، حتى في الحالة الفلسطينية نفسها، أن ظهرت أمّ شهيد بالثبات الانفعالي الذي ظهرت به والدة عدي. صحيح أن أمّهات فلسطينيات كثيرات وقفْن فوق جثامين أولادهن، وزغردْن مبتسمات، عاضّات على الجراح. وصحيح أن المعاجز النسائية الفلسطينية ليست معدودة، وفي مقدّمتها أم الشهيد محمد فرحات (خنساء فلسطين)، التي أرسلتْه بنفسها إلى الشهادة، ولم تَهنأ حتى تلقّت نبأ قضائه نحبه، فخرجت إلى باحة الدار مكبّرة مهلّلة. غير أن أم عديّ شكّلت حالة متفرّدة وربّما عصيّة على الفهم.
بُعيد تنفيذ عديّ عمليته على حاجز مخيم شعفاط، اعتقلت قوات الاحتلال أمّه وفاء، وزوجها يوسف، وابنَيها. في ذلك اليوم، كانت في «صندوق المرضى»، تحاول استحصال كتاب دخول إلى المستشفى لتلقّي العلاج بعدما ظلّت تعاني لشهور. تفيد سائليها بما تَقدّم لتوضح أن حالتها الصحّية لم تكن أصلاً تعينها على تَحمّل الاعتقال والتعذيب: «لا داعي لأتحدّث عمّا فعلوه هناك (في المعتقَل)، ولكن يشهد ربّي بأن دمعة وحدة ما نزّلت قدامهم (أمام المحقّقين الإسرائيليين). في قلبي آه أكيد بحزن عليه وبشتاقله، أنا مش بس كنت أمّه، أنا رفيقته وصديقته هو وإخوته... بس هو عند ربّنا وأنا وكّلته لله، وقلبي وربّي راضيين عليه». قالت ذلك في إحدى المقابلات معها خلال بيت العزاء الذي أقيم لنجلها الشهيد في منزل جدّه في بلدة سلوان في القدس المحتلة.
تتحدّث التميمي بثبات يُعجِز الوصف، فيما لا تُفارق الابتسامة وجهها. تقول: «عدي بطل، عدي أسد، وعدني يوخذني عمرة، والحمد لله العمرة وصلت». هنا، تَصغر عيناها، ويبدو وجهها ملائكياً وكأنه من عالم آخر، فيه كلّ شيء نقي وواضح ومتّسق. قبل أيام، هدمت جرافات العدو مصدر رزق العائلة الوحيد، أي فرن الخبز، فيما يَنتظر البيت المصير نفسه. لكن قلب الأم «في مكان آخر»؛ إذ إن قطعة منها جُمّدت في درجة حرارة 40 تحت الصفر، إلى جانب جثامين الشهداء المحتجَزة في ثلاجات الاحتلال، وهي لن ترتاح حتى يحضن التراب جسد صغيرها النحيل... شهيدها الذي صار بطلاً بطول البلاد وعرضها.

هدى جرار... أجمل الأمّهات


«كان رأسي معلَّقاً بين الأرض والسماء»، هكذا وصفت هدى جرار، والدة الشهيد إبراهيم النابلسي، حالها في يوم استشهاده. لعلّه كان يبتسم لها من هناك، مِن فوق، مذكّراً إيّاها بألّا تَبكيه. هكذا، دبّت القوة في ساعدَيها اللذين حملا نجلها رضيعاً ذات يوم، ويديها اللتين داعبتا وجنتَيه ومرّتا على شفتَيه وهي تعلّمه كيف يناغي. في ذلك اليوم، تمكّنت هدى من حمْل نعش ولدها، والسير به ناظرةً إلى السماء، وكأنها تهتدي بنجمة تشير إلى درب الأنبياء. كانت ضاحكة، في مشهد كفيل بنفي الكلمات، ثمّ عادت وسارت بين الجموع، مكبّرةً مهلّلةً، وهي تحمل رشّاشه الثقيل بيد واحدة. ظلّت مبتسمة، لا بل ضاحكة.
قبل ذلك، ظهرت على مدخل المستشفى مُخاطِبةً جموع الفلسطينيين، وهي تنقل إليهم وصيّة نجلها بألّا يتركوا البارودة. كانت واثقة من أن إبراهيم إنْ ذهب، ففلسطين، ولّادة الأحرار، ستنجب مئة ألف إبراهيم، كما قالت موقنةً. بعد أيام من مواراة ابنها في الثرى، ظهرت في مقابلة تلفزيونية، بعدما كان جنود الاحتلال قد اعتقلوا نجلها البكر إياد، وفجّروا باب المنزل، وتركوا حفيدتها الرضيعة تبكي وحيدة في إحدى غُرفه مُوصدين عليها الباب. «إياد حبيبي، الله يرضى عليه أخدوه. وهدّدوا زوجته إذا ما سلمتينا الهاتف راح نشلّحك الحجاب. حسبي الله على اليهود». مع هذا، ظلّت قوية، ولم تنكسر، فهي أدركت تماماً أيّ شرف مَنحت لهذه البلاد، هي الأم التي أنجبت ولداً كان مقدَّراً له أن يوقظ الجموع من سُباتهم الطويل، ويصحّي الجواد الذي كبا، ويُطلقه في حارة الياسمينة، ليُسمع صهيله في جنين والخليل ورام الله وطول كرم والقدس والجليل والنقب.
لم تنزوِ أم إياد، بل تصدّرت الصفوف حاضّةً الشباب على مُواصلة درب المقاومة، ومتحوّلةً إلى مصدر إلهام لبقيّة أمهات الشهداء. فلا يكاد يمرّ حزن أو فراق أو تشييع إلّا وتَظهر فيه هدى، مبتسمةً مخاطِبةً أمّ الشهيد الجديد بأن «الله اصطفى ابنها، والله لا يصطفي إلّا من يستحق هذا الشرف العظيم الجليل!»