إذا ما افترضنا أن قيادة العدو العسكرية درست، قبل مجزرة جنين، تداعياتها وردود الفعل عليها، يتّضح أنها لم تكن تتوقّع أن يأتي الردّ عليها سريعاً، وبقساوة غير مسبوقة منذ سنوات. مع ذلك، تتجاوز العملية، في أبعادها، كونها أدّت إلى خسائر بشرية قاسية في صفوف المستوطنين، إذ شكّلت أيضاً إنجازاً نوعيّاً للمقاومة في توقيتها الفوري بعد المجزرة، واختراقاً للأجهزة الأمنية التي كانت في ذروة جاهزيتها واستنفارها. وتتصاعد رسائل العمليّة خصوصاً في ضوء لغة التحدّي والوعيد التي هيمنت على خطاب المتطرّفين الذين أصبحوا عاملاً مقرّراً ورئيساً في حكومة العدو. ولهذه الاعتبارات جميعاً، شكّلت العمليّة نوعاً من المفاجأة للعدو، وأسقطت نظرية تسود دوائر التقدير والقرار بأنه يمكن تجاوز الشعب الفلسطيني عبر احتواء ردوده على أيّ اعتداءات، والتفرّغ، في الوقت نفسه، لمواجهة التهديدات الأكثر خطورة في الشمال والشرق.وليس من المبالغة القول إن عملية القدس وما تلاها وسيتلوها، تكشف قدرة الشعب الفلسطيني على قلْب المعادلة في مواجهة الاحتلال، وتغيير المشهد بشكل جذري. فقد كان جليّاً حجم الإرباك الذي هيمن على مؤسّسات التقدير والقرار في كيان العدو، والذي بعدما كان مزهوّاً بـ»الإنجاز التكتيكي» الذي حقّقه في جنين، تلقّى صفعة في عمق مناطقه، أَدخلت الرعب إلى قلوب مستوطنيه، واستحضرت أمامهم صورة مصغّرة عن سيناريوات الرعب التي تنتظرهم في ما لو تطوّر المشهد إلى ما هو أشدّ. ولعلّ الأكثر إقلاقاً لكلٍّ من المؤسّسات والرأي العام الإسرائيليَّين، هو أن تشكّل العمليّة نموذجاً يحاكيه المقاومون، وهو أيضاً ما بدأ يلوح فعلياً، فضلاً طبعاً عن أن إجراءات العدو القمعية تغذّي هي الأخرى هذا الاتجاه.
ومن النتائج الأبرز لعملية القدس، بلحاظ سياقها وخسائرها البشرية ورسائلها، على طاولة القرار السياسي والأمني، أن التهويل الذي واكب تشكيل الحكومة، فشل في تحصين الأمن الإسرائيلي بالاستناد إلى رهان أن تؤثّر هذه السياسة في حسابات المقاوم الفلسطيني، وتدفعه إلى الانكفاء عن المبادرة بذريعة تجنّب ردود فعل إسرائيلية أكثر تطرّفاً. وهكذا، تلمّس وزراء حكومة بنيامين نتنياهو تطرّفاً من موقع التجربة والقرار، أنهم أمام واقع فلسطيني مغاير لِما يفترضونه في أوهامهم التي أدّت إلى شعور عميق بالخيبة والفشل. ويبقى أن هذه الجولة الأمنية «تشكل الاختبار الأهمّ لحكومة نتنياهو»، كونها الأكثر يمينية، ونتيجة تصريحات غالبية أعضاء «الكابينيت» الحربجية قبل أسابيع.
بادر «المجلس الوزاري المصغّر»، حتى الآن، إلى قرارات انتقامية تهدف إلى محاولة التأثير في إرادة المقاومة


أمام هذا الواقع الذي يؤشّر إلى صحّة ما تخوّف منه العديد من الخبراء حول احتمالات انفجار الساحة الفلسطينية ضدّ الاحتلال، تواجه القيادة الإسرائيلية إشكالية الردّ الناجع الذي لا يُورّطها في مواجهة كبرى. وفي هذا المجال، يحضر على طاولة القرار مروحة من الأسئلة التي يبحث العدو عن إجابات عليها. ما هو الخيار العمليّاتي الأجدى والأقل كلفة في مواجهة هذا النوع من العمليات؟ وهل يجدي استهداف أيٍّ من قيادات فصائل المقاومة؟ وماذا لو تورّطت إسرائيل في مواجهة واسعة في مقابل قطاع غزة؟ وماذا لو أن قرارات المنفّذين ذاتية، وأن هذه الاستهدافات لا تؤثّر في خياراتهم؟ وماذا لو أدّت إلى تعزيز حافزية الشباب الفلسطيني للردّ على المزيد من الاعتداءات؟ وماذا لو تكرّرت عملية مشابهة في العمق، وعلى مستوى الخسائر؟
في ظلّ حالة الإرباك التي تشهدها القيادة الإسرائيلية، حدّد رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، عنوانه العام، بالقول: «سيكون ردّنا قويّاً وسريعاً ودقيقاً، ومن يحاول أن يؤذينا سنؤذيه ونؤذي كل مَن يساعده». إلّا أن التدقيق في تعقيدات الواقع يُظهر أنه ليس أمام قيادة العدو سوى خيارات تقليدية مجرّبة لن تتجاوز السقف التكتيكي، ولا يُتوقّع أن تؤدّي إلى تحقيق النتائج المرجوّة منها. أما استشراف نتائج ومخاطر الخيارات البديلة عمّا تقدم، فيثبت أن خيارات إسرائيل في هذا المجال ضيّقة ومحدودة وتقليدية، وأنه ليس هناك حلول استراتيجية جذريّة، وإنما الذي يهيمن على كل القراءات والتقدير هو أن هناك مخاطر استراتيجية تلوح في الأفق. ولذلك، فإن أيّ ردود، تهدف بالدرجة الأولى إلى امتصاص نقمة الشارع اليميني.
انطلاقاً من إدراك هذه التعقيدات والمخاطر، عبّر معلّقون وخبراء عن مخاوفهم من آثار وتداعيات شعور الحكومة، وعلى رأسها نتنياهو، بالعجز وجلاء هذه الصورة أمام جمهورهم. فقد يدفعها ذلك، إلى محاولة إثبات يمينيتها أمام جمهورها المتعطّش للدماء. ومن هنا، ينبع هامش وقوعهم في التقدير الخاطئ في اتجاه خطوات متهوّرة. وعلى هذه الخلفية، تأتي بعض التحذيرات من السقوط في دوامة من الضربات المتبادلة. إلّا أنهم يراهنون، في هذا المجال، على «عقلانية» نتنياهو وواقعيته من موقع تجربته الواسعة التي أَظهر فيها إدراكه لمحدوديّة قوّة إسرائيل في مقابل المندفعين لإثبات أن وجودهم الفاعل في مؤسّسة القرار تنتج منه سياسات جديدة وواقع فلسطيني جديد!
إزاء ذلك، بادر «المجلس الوزاري المصغّر»، حتى الآن، إلى قرارات انتقامية تهدف إلى محاولة التأثير في إرادة المقاومة والصمود لدى الشعب الفلسطيني، عبر جباية أثمان مؤلمة من عائلات المقاومين وبيئتهم وداعميهم. وبغض النظر عن تفاصيل هذه القرارات، وعلى رغم أن قادة العدو يدركون أنها لن تثني الشعب الفلسطيني عن مواصلة مقاومته، إلّا أنهم وجدوا أنفسهم مرّة أخرى أمام معادلة «المزيد من الشيء نفسه»، وبعبارة أخرى، الالتزام بالمعادلة العقيمة: «ما لا بديل عنه هو البديل عن نفسه».