يوماً بعد يوم، تزداد قساوة القيود التي تفرضها المصارف بشكل غير قانوني على عمليات السحب والتحويل. فالتحويل إلى الخارج ممنوع بشكل شبه كامل باستثناء عمليات خاصة تصنّف في مستوى الضرورة القصوى أو النفوذ الأقصى، أما عمليات السحب من الحسابات فقد صارت عملية تسوّل مذلّة. غالبية المصارف عمدت إلى تقليص سقوف السحب اليومي والأسبوعي والشهري المخصصة للزبائن والتمييز بين أصحاب الحسابات الكبيرة، أي الذين تفوق ودائعهم مليون دولار، وأصحاب الحسابات الصغيرة الذين تقلّ ودائعهم عن خمسين ألف دولار. تفترض المصارف أن كبار المودعين لديهم حقّ في الحصول على أموال نقدية أكثر، سواء احتفظوا بها في خزنات منازلهم أو أنفقوها أو استعملوها للمضاربة على الليرة والتربّح من فرق سعر صرف الليرة مقابل الدولار بين المصرف والصراف.اللافت أن المصارف الأكبر حجماً بدأت تخفض سقوف السحب اليومي بنسب أعلى من المصارف الأصغر حجماً. بعض المصارف خفض سقف سحب الدولار النقدي إلى 100 دولار يومياً، وخفض سقف السحب اليومي بالعملة المحلية إلى 500 ألف ليرة يومياً، فيما هناك مصارف لا تزال تمنح كبار المودعين 1000 دولار يومياً وضمن هامش لا يتعدّى 5000 دولار أسبوعياً. مصارف أخرى قرّرت ألا تصرف للزبائن أي شيكات، سواء كانت بعملة الدولار أو بالعملة المحلية إلا في حال أودعت في حساب مجمّد لفترة تتراوح بين 3 أشهر و6 أشهر. وغالبية المصارف ترفض تحويل الودائع عند استحقاقها إلى حسابات جارية قابلة للسحب في أي وقت، إلا بنسبة 10% من قيمة الوديعة.
تشديد القيود على عمليات السحب يأتي بهدف تجفيف السيولة النقدية بالليرة من أجل تخفيف الطلب على الدولارات النقدية من المصارف التي باتت تعاني للحصول على النقد الأجنبي من تجّار العملات. هؤلاء يفرضون على زبائنهم من المصارف تسديد قيمة الدولارات النقدية المطلوب شحنها إلى لبنان في حسابات توضع خارج لبنان، أي أن المصرف يستعمل ودائعه في الخارج ليدفع ثمن هذه العملات النقدية المطلوبة بقوّة من الزبائن، فيما لم يعد لدى المصارف الكثير من الأموال في الخارج. يقدر المصرفيون أن المصارف ليس لديها ما يكفي لتغطية حاجات التحويل الخارجي المقيدة أصلاً وبعض عمليات الاستيراد لأكثر من شهر شباط المقبل.
رغم ذلك، تبيّن أن تجّار العملات باعوا الدولارات النقدية للمؤسسات والشركات بقيمة تفوق قيمتها الفعلية بنسبة 140%. كل دولار نقدي يعادل 140% من الدولار الدفتري في المصرف الصادر بحوالة داخلية أو بشيك مصرفي.
هذا السلوك والمضاربة على ما يمكن تسميته «الدولار اللبناني» يؤدي تلقائياً إلى المزيد من الانخفاض في قيمة الليرة مقابل الدولار، وهو يشكّل ضغطاً كبيراً على عمليات استبدال العملة المدفوعة بهواجس وقلق الانهيار أو الإفلاس المالي، وخصوصاً أن خفض تصنيف لبنان إلى درجة CC من قبل وكالة «فيتش»، ثم خفض تصنيف «بنك عوده» و«بنك ميد» و«بلوم بنك» من قبل وكالة «ستاندر أند بورز» إلى درجة «الإفلاس الانتقائي»، انعكس مزيداً من القلق في السوق وزاد الطلب على الدولار. وتبيّن أيضاً أن الأزمات التي تتعرض لها المصارف، سواء على صعيد المؤونات المطلوبة منها تجاه التوظيفات السيادية، أو مواجهة النقص في سيولتها بالدولار خارج لبنان... أدّت إلى زيادة الضغط على سعر الصرف ودفعته إلى مستوى 2100 ليرة وسطياً مقابل الدولار الواحد، أي بارتفاع 39% مقارنة مع السعر الوسطي المحدّد من مصرف لبنان بنحو 1507.5 ليرات.
غالبية المصارف ترفض تحويل الودائع عند استحقاقها إلى حسابات جارية


ورغم أن مصرف لبنان تلقى الطبعة الأخيرة من الكميات بالليرة اللبنانية التي طلب طباعتها، إلا أن المصارف لا تزال تواجه شحّاً بالليرات المتوافرة لديها، ولا تزال تواجه طلباً كبيراً من الزبائن على سحب الليرات أيضاً. وجود هذه الكميات بيد مصرف لبنان ليس له أثر مباشر على سعر الصرف اليوم، وخصوصاً في ظل القيود الحالية التي تمارسها المصارف على عمليات السحب وتقليص السقوف، إلا أن هذا الأمر سيشكّل تطوّراً خطيراً في الأشهر المقبلة لأنه سيسهم في زيادة معدلات التضخّم بشكل واسع وسيؤدي إلى خفض قيمة العملة وقدرتها الشرائية. الرواتب والأجور بالليرة اللبنانية باتت متآكلة بنسبة كبيرة، فيما الدولة لا تحرّك ساكناً.



هل يلغي «المركزي» غرامات التأخير عن سداد القروض؟


تقول مصادر مطلعة إن مصرف لبنان يعتزم إصدار تعميم ينظّم آليات التعامل مع القروض المتعثّرة أو تلك التي توقف المستفيدون منها عن تسديد أقساطها. وبحسب المصادر، قد يلجأ مصرف لبنان إلى إلغاء الغرامات الإضافية المتوجّبة على المتخلّفين عن السداد منذ ما بعد 17 تشرين الأول، وقد يتم تضمين التعميم المنتظر آليات أكثر مرونة في اتجاه إعادة جدولة القروض وتمديد مهل السداد، فضلاً عن تنظيم عمليات خفض الفوائد على القروض التي لا تخضع فوائدها لمؤشر الـ BRR الصادر عن جمعية المصارف والذي ينتظر أن يعكس تعميم مصرف لبنان الأخير القاضي بخفض الفوائد على الودائع ودفع قيمة الفوائد على ودائع الدولار مناصفة بين الليرة والدولار. يجب الأخذ في الاعتبار أن هذه المناصفة هي التي دفعت ستاندر أند بورز إلى خفض تصنيف ثلاثة مصارف إلى مستوى «الإفلاس الانتقائي».


زيادة رساميل المصارف
لا تزال المصارف تستكمل عمليات زيادة رساميلها من خلال ضخّ مقدمات نقدية بالدولار. بعض المصارف أنجزت هذا الأمر، وبعضها الآخر لا يزال في طور إنجازه، أما من يتبيّن أنه لن يكون قادراً على هذا الأمر فسيواجه مشاكل كبيرة. لكن توقعات مصادر مطلعة أن تجمع المصارف 1.7 مليار دولار من أصل 1.9 مليار مطلوبة منها قبل نهاية السنة الجارية. هذه الأموال تعدّ «طازجة» وستمنح المصارف فسحة قصيرة من الوقت الإضافي.