هكذا هو الحال إذاً، في بلد أنجح حاكم مصرف مركزي في العالم: العملة تنهار، والاقتصاد ينهار والدولة تنهار والشعب يجوع ويئنّ ويموت، ويبقى رياض سلامة واقفاً، ويقول للجميع: «لا فيكم تشيلوني، لا فيكم تخلّوني».إنها معادلة الاقتصاد «المدولر» والمنتفخ بلا زراعة ولا صناعة ولا تنمية مستدامة، تلك التي تُوصل موظّفاً، مرضياً عليه أميركياً، أو مُودعاً من واشنطن على رأس القطاع المصرفي اللبناني، أحد أكبر مراكز التأثير الاقتصادية الأميركية في لبنان والمنطقة. فالذين يعتقدون أن دولارات سلامة الممنوعة، تفعل فعلها في لبنان وحده، مخطئون. إنه «أثر الفراشة» يرتدّ عبر المصارف اللبنانية من بيروت إلى أربيل ومن دمشق إلى عمّان، على أعتاب نهاية عصر وبداية عصرٍ جديد. فرياض سلامة ليس شخصاً، بل دَور.
قبل يومين، صعد الدولار إلى 7 آلاف ليرة في السوق، الجامد أصلاً، في ارتفاع مدمّر لأي قدرة للبنانيين على الصمود ربّما لأسابيع مقبلة، فانفجر الشارع ولم يهدأ من وقتها، ولن يهدأ. وبالأمس، امتد مسلسل الاحتجاجات وقطع الطرقات وتطوّر الأمر في بيروت وطرابلس إلى حرق مصارف ومبانٍ في وسط مدينة بيروت، وكرّ وفرّ مع الجيش اللبناني. ووسط هذا، تُنهك المؤسسة العسكرية من شارع إلى شارع على مساحة لبنان، وهي الواقعة بين ضرورتَي حفظ الأمن وضبط الانفلات الأهلي بكلّ أشكاله، وبين غضب الناس المتألمين من فقدان أبسط مقوّمات الأمن الغذائي والاجتماعي والسياسي مع كمّ يسير من اليأس. وصار القلق على المؤسسة مضاعفاً، من قوى الداخل وبعض قوى الخارج، التي تخشى تراجع قدرة الجيش على لجم الفوضى مع تطوّر الأزمة وامتدادها وتأثر مداخيل العسكريين.
الوقائع السياسية في اليومين الماضيين، عادت لتؤكّد أن «حزب سلامة» هو الحزب الأقوى في البلد. فعلى الرغم مما قيل عن قرار بإقالته، وانقسامات حوله بين الكتل السياسية، فإن أحداً لم يطرح مطلب إقالة سلامة، بل كلّ ما جرى هو مشاورات حول الطريقة التي من الممكن فيها إيقاف انهيار الليرة وارتفاع الدولار، ومن ضمن هذه المشاورات، احتمال الإقالة. وبحسب المعلومات، فإن الرئيسين ميشال عون وحسان دياب والوزير السابق جبران باسيل أجروا قبل أيام اتصالات بالرئيس نبيه بري وحزب الله وآخرين للتشاور حول آليات وقف انهيار الليرة، وجرى السؤال إن كان بإمكان هذه الخطوة أن تجمّد الانهيار. وجاء ردّ حزب الله وبرّي محدّداً أن كل الخيارات مفتوحة، لكن يجب أن تكون هناك بدائل وضمانات بأن لا يتم رفع سعر الدولار بشكل متسارع وتنهار الليرة بأضعاف، ما يفجّر فوضى شاملة في البلاد.
وليل الخميس - الجمعة، تمّ الاتفاق بين القوى الرئيسية على تأجيل البتّ بمصير سلامة والضغط عليه لضخ دولارات في السوق لتهدئة الليرة وإعادتها إلى حدود أدنى، وعقد اجتماع بين الرؤساء الثلاثة في قصر بعبدا قبل جلسة مجلس الوزراء.
وعدا عن مداخلة وزيرة العدل ماري كلود نجم النارية ضد سلامة خلال الجلسة، فإن نقاش الإقالة لم يُطرح خلال الجلسة، بخلاف ما جرى الحديث في الإعلام في ساعات بعد الظهر.
لكنّ حزب سلامة ممتّد محليّاً ودوليّاً، وبمجرّد أن شعر الحاكم بأن نقاشاً حول إقالته قد فتح، حتى استنفر حزبه للدفاع عنه والتهويل بانهيار الليرة. طبعاً، لا يمكن أن تترك السفيرة الأميركية دوروثي شيا سلامة من دون دعم متجدّد. وإن كان عدم إعادة تعيين نائب الحاكم السابق محمد بعاصيري في التعيينات الأخيرة، قابلته ضغوط أميركية انعكست كجزء من أسباب ارتفاع سعر الدولار، فإن أي تفكير في إقالة سلامة شبّهته شيا بطريق من دون «خط رجعة» وتكفّل جماعة السفارة بنشر التهديد هنا وهناك، مقابل لباقة ودبلوماسية مفرطة أمام عون في بعبدا قبل يومين، مع تبريرات بشأن ما نُشر عن مشروع لمعاقبة حلفاء حزب الله، أبرزهم بري وباسيل.
ومع أن سلامة خضع أمس لضرورة ضخ دولارات في السوق لتهدئة انهيار الليرة، إلا أنّه تراجع عن قراره بالرفض سابقاً، بأن هذا الإجراء مؤقّت وأن السعر سيعود إلى الارتفاع مجدداً وسيضطر لضخ المال مجدداً.
ليل الخميس - الجمعة تمّ الاتفاق على تأجيل البتّ بمصير سلامة، والضغط عليه لضخّ دولارات


لا أحد يثق بأن حاكم مصرف لبنان سينجح في حماية العملة الوطنية، وهو الذي لا يزال يدير هندسات مالية غير معلنة بالتوافق مع المصارف، ومع كبار المودعين هذه المرة. حتى إنه فتح الباب أمام تسويات تنقذ بعض المؤسسات من خطر السقوط بعدما غرقت في الدين ولا من يطالبها. اليوم يقف سلامة وخلفه وأمامه حشد من كبار المضاربين العقاريين وأصحاب المواقع وأصحاب وسائل إعلامية ورجال سياسيين وشخصيات في أرفع المناصب في الدولة. كل هؤلاء يعرفهم سلامة واحداً واحداً منذ اليوم الأول لتورطهم في عملياته المالية، إذ أقاموا الشركات وموّلوا المشاريع وحسّنوا أوضاعهم مقابل ديون تعتبر اليوم هالكة، لكن ما من أحد يحقق ويحاسب. وسلامة عاد للتواصل مع جميع هؤلاء، ولديه من الرسل من يذكر الجميع بأن لديه من الملفات ما يكفي للإيقاع بالجميع إن هو وقع. وأظهرت الاتصالات التي جرت خلال الساعات الـ24 الماضية، أن بعض الوسطاء الذين يعملون على الملف المالي والنقدي هم أقرب الى سلامة من بقية أركان الدولة. وهم الذين يهاجمون «حزب المستشارين» رداً على الهجوم على «حزب المصرف». وهؤلاء النافذون موجودون اليوم في قلب مركز القرار. وهذا كاف ليكون سلامة محاطاً بأسوار من الحماية السياسية وحتى القضائية. وخشيته الوحيدة هي من أن «يفلت» الشارع من قبضة السياسيين ويتقدم خطوة كبيرة نحو إحراق الجميع. وهذا ما شعر به رئيس الحكومة الذي كان خائفاً على مصير حكومته، وخصوصاً أنه استفسر من قوى بارزة عن سبب الاندفاعة التي ظهرت عند الرئيس سعد الحريري الذي يردد أنه على وئام مع جميع القوى «ما عدا القصر والصهر»... والقلق على الحكومة ساد غالبية وزارية شعرت خلال الساعات الماضية بأنها أقرب الى رحلة العودة الى البيت وأجرى بعضهم اتصالات سياسية للتثبت من عدم وجود قرار بإطاحة الحكومة.

لدى سلامة رسل يذكّرون الجميع بأن لديه من الملفات ما يكفي للإيقاع بهم إن هو وقع


منذ عام 2016، ومصرف لبنان يعتمد سياسة لَمّ الدولارات حتى جفّت، في اقتصاد مدولر من أوّله إلى آخره. ثم يأتي سلامة أخيراً، ليصدر تعميماً مهولاً، يخضع فيه من يريد شراء دولارات مهما كانت قيمتها إلى «تفييش» أمني في مصرف لبنان، ويحتاج معه إلى يومين لكي يحصل على المبالغ المطلوبة المعروفة الوجهة والنتيجة. وهذه الآلية الجديدة، ليست إجراءً نقدياً وحسب، بل تحمل دلالات أمنية وسياسية خطيرة بالقضاء على أي أسواق بديلة موجودة في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل.
إجراءات سلامة تعني تقنيناً للدولار، فضلاً عن حجز أموال المودعين بالدولار ومصادرة التحويلات الآتية للبنانيين من الخارج. ويستغرب الجميع لماذا يرتفع سعر الدولار؟ فمن الطبيعي، أن الكتلة النقدية الضخمة التي صارت بحوزة اللبنانيين بالليرة نتيجة الطبع المستمر من قبل المصرف المركزي، ستحفزهم على شراء الدولار خشية فقدان هذه أموالهم لقيمتها، ما سيرفع السعر أكثر فأكثر. أمّا الأسوأ، فهو الاعتقاد بأن تعميمات سلامة والاعتقالات الأمنية للصرافين قد توقف ارتفاع السعر، بينما أثبتت التجارب أن هذا الإجراء لا يمكن أن يؤتي ثماره. فكيف إذا كان ذلك مدعوماً بقرار أميركي لاستغلال الدولار كوسيلة ضغط على حزب الله؟ بينما في المقابل، يُفتح في البلد سوق على مصراعيه، اسمه سوق الشيكات، يهرَّب عبره الدولار الكاش بعد أن يتنازل أصحاب الودائع عن نسب تكاد تصل إلى 50% من ودائعهم مقابل أموال نقدية من الصرافين.
بالأمس، اعترفت الدولة على لسان الرئيس نبيه بري بسعر شبه رسمي للدولار، يصل إلى 4 آلاف ليرة، الأمر الذي يدفع سريعاً إلى ضرورة القيام بعملية تصحيح أجور بوجود أربعة أسعار شبه رسمية للدولار، وإلّا فإن مئات آلاف الناس مهددون بالجوع في وقت قصير مع تراجع القدرة على دعم السلع الأساسية في المرحلة المقبلة وغياب العدالة في التوزيع. وكلّ هذا الخراب، والنزف اليومي بالعملات الصعبة، تستمر الحكومة بالسماح باستيراد الكماليات والأطعمة غير اللازمة والمواد الفاخرة، ونصف الشعب يكاد يئن من الجوع.