ليست الأرقام وحدها العالقة بين لبنان وصندوق النقد الدولي، بعد سلسلة متغيرات طرأت على مقاربة الحكومة وتدخلات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومعه ما أصبح يعرف بحزب المصارف. يولي صندوق النقد حالياً اهتماماً بالأشخاص الذين سيفاوضون، وتحديداً وضعية المدير العام المستقيل لوزارة المال ألان بيفاني. ولهذا الاهتمام أكثر من سبب.معروف أن وفود الصندوق تزور لبنان سنوياً، وتقاريره التي تنشر والتي لا تنشر، بحسب موافقة السلطات اللبنانية، كانت ترسم مسار الوضع المالي والاقتصادي، من دون أن تلاقي بالضرورة إجماعاً على تأييد كل مقاربات الصندوق وما يرتئيه من اقتراحات لمستقبل لبنان والآليات المعتمدة في المؤسسات المختصة. لعل آخر تقرير له العام الماضي، وقد نشر بيانه الأولي في تموز، أي في المرحلة التي سبقت التظاهرات وانهيار سعر صرف الليرة، يكشف حقيقة رؤيته لما سيقبل عليه لبنان، وفيه مقاربة شفافة لأول مرة بهذا الوضوح، تحدثت عن سياسات مصرف لبنان، وتناول تفاصيلها وحدّد سلسلة إرشادات للسلطة السياسية والمالية لترتيب الوضع المالي. وإذا كان التقرير الأخير تناول من دون التباس سياسات مصرف لبنان، فإن الوفود التي تزور لبنان، وفيها شخصيات لا تزال على صلة دائمة بما يجري من مفاوضات، أبدت منذ أكثر من ست سنوات امتعاضها مرات عديدة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. قيل كلام كثير ولا يزال يتردّد بحدة أكثر عن سلامة، وعدم تحمّلها لطريقة إدارته للوضع المالي، وعدم استماعه الى النصائح التي كانت ترد في التقارير الرسمية وفي الاجتماعات، إذ ليس الودّ الشخصي المفقود مع سلامة هو وحده الذي بنيت عليه رؤية الوفود لحاكم مصرف لبنان، بل كل ما تجمع لديها من معطيات حول إدارته للوضع النقدي وما نتج عن الهندسات التي اعتمدها مع المصارف، ومجمل أدائه إزاء الاحتمالات التي جرى التحذير منها بسبب ارتداد هذه الهندسات، وغيرها من خطوات خاطئة، على اللبنانيين.
منذ أن بدأ لبنان، بعد انكشاف الأزمة وبدء انهيار سعر الليرة، التعاطي فعلياً مع الصندوق لدرس إمكان الإفادة منه، تبلور أكثر فأكثر هذا الانطباع لدى وفد الصندوق ومسؤولين أساسيين فيه. عدا عن الطريقة والأسلوب اللذين تعامل بهما سلامة مع أولى جلسات التفاوض، فإن من في المفاوضات يدركون تماماً الدور الذي يلعبه من وراء الكواليس وأمامها في الضغط في الاتجاه المعاكس الذي كان الصندوق يتوافق مع رؤية الحكومة الأولى ولا يزال يضغط من أجلها. وهم يرون في استمرار نهجه الذي حذروا منه قبل نحو ست سنوات، استمراراً للممارسات السيّئة التي من شأنها أن تفاقم الوضع لا تخفيف احتقانه.
في المقابل، يتركز اهتمام الصندوق على استقالة بيفاني، ليس من الزاوية الشخصية أيضاً. رغم أن بيفاني بحكم عمله لعشرين عاماً في وزارة المال كان على بيّنة من الوضع المالي ويعرفه الصندوق، كما خبر أداءه على مدى سنوات العمل في لبنان. لذا هناك تقاطع وإشكالية في استمرار وجود شخص كبيفاني مع الوفد اللبناني، ليس من جهة الحكومة فقط بل من جهة الصندوق أيضاً. فالحكومة، أو بالأحرى بعض من في السلطة والحكومة، كانوا يريدون استمرار بيفاني مع الوفد المفاوض لإدراكهم موقع الأخير في رؤية الصندوق الذي يحبّذ بقاءه لثقتهم به في التفاوض. فوجود المدير العام للمالية، في وفد التفاوض، يؤمن التوازن المطلوب بين رؤية سلامة وما يقدمه الصندوق، وكذلك فإنه يؤمن التوازن أيضاً داخل الوفد اللبناني بنفسه، في وقت يوجه الصندوق رسائل تلو أخرى الى الجهات الرسمية بعدم المغامرة في تبنّي خريطة طريق أثبتت حتى الآن فشلها. كذلك فإن تغيير الوفد بعد خضّات متتالية، في مرحلة قطع فيها التفاوض شوطاً مهماً، ويزداد الضغط اللبناني الداخلي نتيجة الانقسامات السياسية، يؤدي الى انعكاسات مباشرة، ولا يسهم في تثبيت استمرارية التفاوض من دون عقبات.
من هنا لا تزال مسألة وجود بيفاني في الوفد المفاوض مسألة تتخطّى استقالته، لأن مرحلة التفاوض بما تحمل من تحديات وشروط تفرض على الأقل وجود طرف قادر على أن يواكب بجدية مسار التفاوض، بعدما جاهر بموقفه المناهض للسياسات التي أسهمت في وصول لبنان الى ما وصل اليه. والمشكلة أن الصندوق رأى مصلحة لبنان في توجيه رسائل حتى الآن تصبّ في اتجاه إيجابي من خلال اعتماد خط لا يتناسب مع ما قررته مصالح القوى السياسية ومصرف لبنان، ولا نتحدث هنا عن مرحلة لاحقة تتعلق بشكل المساعدة والشروط التي تفترضها، بل حصراً بما يجري حالياً في مرحلة التفاوض وتحديد العناوين الأساسية والأرقام الضرورية للانطلاق منها. وفي انتظار بتّ مصير التفاوض، فإن الإشكالية الراهنة تثير أيضاً سؤالاً يتعلق بتعيين بديل له، لمجرد انتمائه الى حزب سياسي. لأن هذا الموقع في مرحلة تحمل في طيّاتها كل العناصر المالية المتفجّرة، لا تحتاج الى تعيينات لمجرد تعبئة المركز فحسب. وليس بالسهولة لأي مدير عام جديد، وقد لا يكون شرطاً ملزما حضوره المفاوضات مع الصندوق، لكنه سيكون في موقع حساس جداً بين ألغام كثيرة داخل الوزارة وخارجها. وتجربة بيفاني بعد كل ما يدلي به، تدل بوضوح على أن المطلوب ليس سيرة حزبية وعائلية، بل سيرة كفاءة وقدرة على تكوين رصيد في وزارة سيادية، العيون المحلية والدولية تنصبّ عليها، في عزّ الانهيار المالي. وأكبر دليل موقف الصندوق الدولي.