لم تتدخل الديبلوماسية الفرنسية في الأزمة التي تواجهها الحكومة اللبنانية مع السعودية. كل الأجواء المحيطة بها تؤكد أنها لم تقارب وضع رئيسها نجيب ميقاتي، ولم تطلب منه عدم الاستقالة. ما يتم تداوله لبنانياً، منذ أن انفجرت الأزمة بين بيروت والرياض والحديث عن أدوار خارجية للملمة الوضع وإجراء مساع لترطيب الأجواء، لا يعني باريس ولا علاقة له بدوائرها التي تقول كلاماً مختلفاً.بحسب أوساط الديبلوماسية الفرنسية، فإن باريس أجرت جولة استطلاع حول ما حصل في بيروت، لا أكثر ولا أقل، وهي لم تعمل على أي تحرك يفهم منه سعيها إلى معالجة الأزمة والضغط لعدم تقديم رئيس الحكومة استقالته. التعبير الأكثر وضوحاً يكمن في ضرورة تحمّل اللبنانيين مسؤوليتهم في الأحداث واليوميات السياسية، بدل أن يتحملها الآخرون عنهم دائماً. ولا يمكن لباريس أن تتدخل في كل شاردة وواردة، على غرار تدخلها في القضايا الكبيرة والأساسية. فهناك أزمات على لبنان أن يعالجها من دون أن يطلب دوماً تدخل العواصم الخارجية لحلها، فيما تحتاج الاستحقاقات الكبرى إلى مقاربات دولية وإقليمية مختلفة.
وبحسب المعطيات، استفهمت باريس عما جرى وحاولت جس نبض السعودية من باب الاستطلاع فقط، مع علمها المسبق بأن الرياض لا تزال غير معنية بمجريات الوضع اللبناني. ثمة كلام يقال في هذا الإطار بأن السعودية لا تزال على موقفها منذ انتخاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهي غير مهتمة بكل ما يجري في لبنان من تطورات، ولن تكون الأحداث الحالية مناسبة لتغيير موقفها. لا بل شهدت السنوات الخمس الماضية فترات ديبلوماسية مماثلة، وهي وإن لم تصل إلى حد سحب السفراء، إلا أنها شهدت غياباً متقطعاً لديبلوماسييها. واستطراداً، فإن الأزمة على اختلاف وجهتها الحالية ليست جديدة، وباريس على رغم الآمال التي عقدتها على تمويل السعودية لمؤتمرات عقدتها من أجل لبنان، تيقنت أكثر من مرة أن الرياض ليست في وارد تغيير مواقفها أو إعادة ضخ أموال في أي قطاع، أو صرف قرش واحد في لبنان. وتالياً، فإن حل الأزمة الراهنة لن يغير في واقع الأمر شيئاً أساسياً في سياسة السعودية بعدم الاستثمار أو الدفع أو تقديم هبات، ما دام الوضع السياسي بالنسبة إليها لا يزال على حاله.
باريس متيقنة بأن الرياض ليست في وارد تغيير مواقفها أو صرف قرش واحد في لبنان


وتعتبر باريس أنه تبعاً للسياسة السعودية والتجارب السابقة، فإن من غير الممكن توقع الفصل التالي حيال ما جرى مع لبنان، لا ديبلوماسياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً. وليس في مقدور أي طرف البناء على الاحتمالات في شأن الخطوة السعودية المقبلة. ما يعني أن كل شيء متوقع، ولكن الرياض لن تكشف أوراقها إلا بحسب التوقيت الذي يناسبها. وهذا الكلام تردد في بيروت لدى السؤال عن الإجراءات التي تنوي السعودية اتخاذها، فكان الجواب أنها غير مستعجلة لتعلن عما يمكن أن تقدم عليه، لأنها ليست الطرف الذي يتعرض للضغط، في حين أن لبنان هو القلق على كل المستويات من تبعات الخطوات السعودية والخليجية.
المعطيات الفرنسية تتقاطع مع ما هو متداول في الوسط السياسي، حول أداء رئيس الحكومة وموقفه من الآن وصاعداً تجاه السعودية. فطرح إمكان استقالة ميقاتي، والتواصل الخارجي معه لإقناعه بالتريث، ليس أكثر من بالون اختبار رماه رئيس الحكومة لأسباب محلية صرف. والمعنيون في لبنان، وعارفو رئيس الحكومة، مدركون جدياً أنه ليس في وارد الاستقالة ما دامت الكرة لا تزال في ملعبه. صحيح أنه يضغط لاستقالة الوزير المعني جدياً من أجل إصلاح العلاقة مع السعودية، لكن ضغطه هذا نوع من تقديم أوراق اعتماد للرياض التي لا تزال على موقفها الرافض لحكومته. أما تقديم استقالته فيحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير، خصوصاً أن ميقاتي لا يعيش تناقضاً مع قوى 8 آذار في الإطار السياسي العام، ولا يتعرض في المقابل لضغط الشارع السني أو رؤساء الحكومات السابقين ما يجعله حالياً في مأمن من رفع الغطاء السني عنه. لا بل إنه يتصرف من خلال استمراره في العمل على ملفات داخلية، ومنها الحوار مع صندوق النقد، خارج الإطار الرسمي لمجلس الوزراء، وكأن الأزمة مع السعودية، متروكة للحل خارجياً، كما يحصل من خلال الجامعة العربية. أو أن الرهان على استمرار واشنطن في الحفاظ على الحد الأدنى من تطبيع الوضع الداخلي كفيل بتأمين ما يلزمه من أجل البقاء في السرايا الحكومي إلى حين موعد الانتخابات النيابية. لكن الكلام الفرنسي عن خطوات الرياض غير المتوقعة، يترك المجال واسعاً لتكهنات حول المرحلة المقبلة، التي قد لا تبقي رؤساء الحكومات السابقين والشارع السني في منأى عن الضغط لاستقالة ميقاتي أو الوزراء السنة. وهذا كله رهن بما قد يفعله لبنان لوحده من دون اللجوء إلى وساطات خارجية كما تلوّح باريس.