لم يكُن تعيين بديل من رياض سلامة، في أيّ يوم من الأيام، مطروحاً بجديّة كما هو اليوم. تماماً كما لم يكُن سهلاً على القوى السياسية الذهاب إلى هذا الخيار، بكل ما كانَ لبقائه في منصبه أن يرتّب من احتمالات. ولعلّ زلّة لسان وزير المالية يوسف الخليل قبلَ شهرين، حين تحدث عن احتمال التمديد لسلامة لصعوبة إيجاد البديل فضحت ما كان البعض يهيّئ له، إذ كانت أغلبية الجهات التي ترفع الصوت عالياً ضده تواجه واقعاً مُركّباً ومُربِكاً يقوم على صعوبات متعددة. صعوبة التخلي عن شخص يدرك تماماً حراك المنظومة ونطاق نفوذها وصعوبة تأمين التوافق على بديل، فضلاً عن شبه استحالة تعيينه من قبل حكومة تصريف الأعمال في ظل الشغور الرئاسي. لكن المناخات تبدّلت، بينَ محاصرة سلامة قضائياً من الخارج والكلام عن مؤشرات إيجابية تمهد لتسوية رئاسية. وعليه، لم يعد النقاش المطروح يتناول الخيارات المُتاحة في حال شغور المنصب أو انعكاس انتهاء الولاية على الوضع النقدي الذي يُعاني انهيارات متتالية، بل بقائمة الأسماء التي يفترض أن تشغل المنصب.صحيح أن فرنسا كانت تأمل أن يكون صديق رئيسها المصرفي سمير عساف هو المرشح المناسب. لكن عقبات كثيرة حالت دون ذلك، أبرزها موقف عساف نفسه الذي لا يجد في المنصب ما يغريه، وهو عندما زار لبنان مرتين خلال الفترة الماضية، كان يستمع الى آراء حول احتمال أن يكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وفي مرحلة تالية، صار يلتقي مصرفيّين وأصحاب خبرة في الشأن النقدي، في خطوة فهم أن مقصدها إعداد لائحة بمرشحين لمنصب الحاكمية.
أسماء كثيرة طرحت في هذا السياق، كان البارز بينها مدير دائرة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور. والأخير لديه مشاريع أخرى، فهو يعرف أنه يجري التداول باسمه كمرشح تسوية لرئاسة الجمهورية، لكن ما حصل في الأسابيع القليلة الماضية، أن اقتناع فرنسا بأن الحل الرئاسي لا يمكن أن يكون خارج التسوية التي تتّجه الى انتخاب سليمان فرنجية رئيساً وتكليف نواف سلام تشكيل الحكومة الجديدة.
وفي إطار هذه التسوية، أظهر الفرنسيون جدولاً من البنود المرتبطة بالتسوية، وطرحوا مع فرنجية، كما مع الرئيس نبيه بري ومع حزب الله، أنهم يفضّلون تولي أزعور لهذه المهمة، وخصوصاً أنهم نقلوا عن البطريرك الماروني بشارة الراعي «ثقته به وبخبرته»، ما يوفر الغطاء الماروني له، ونظراً الى تجربته في صندوق النقد. لكن أزعور لم يظهر أيّ ردة فعل إزاء هذا الأمر، وإن كان يميل الى الاعتذار.
ويبدو أن فريقاً من القوى السياسية، بين أعضائه فرنجية نفسه، يفكرون بخيار بديل، ويقترحون الوزير السابق كميل أبو سليمان، انطلاقاً من كونه خبيراً بالشؤون المالية والنقدية والمصرفية، ولديه خلفية قانونية قوية في هذا المجال، كما أنه على علاقة وثيقة بالأميركيين الذين يهتمّون لمنصبَي حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش أكثر من اهتمامهم بمنصب الرئيس نفسه.
عملياً، تحرّك أبو سليمان على أساس أن حظوظه كبيرة، وخصوصاً عند الدول الراعية للحل، ولذلك تلقّى هو نصيحة بأن يقوم بجولة اتصالات تشمل جميع القوى البارزة للحصول على الغطاء المناسب، باعتبار أن منصب الحاكم لم يعد حكراً على طرف واحد، وأن التركيبة الجديدة ستجعل الكل شريكاً في هذه المهمة.
لا يخفي أبو سليمان أنه قام بدور المحامي الشرس في الدفاع عن المصارف اللبنانية ضد المودعين في الخارج


أبو سليمان، العامل في حقل المحاماة، اشتهر منذ عام 1994 في عمله المتصل بكل إصدارات اليوروبوند التي تقوم بها الدولة اللبنانية. ارتبط اسمه بداية بالرئيس فؤاد السنيورة الذي عمل مع الرئيس الراحل رفيق الحريري لإدخاله إلى مصرف لبنان. وقبلها كانَ من الأساسيين الذين صاغوا قوانين تنظيم قطاعَي الكهرباء والخلوي التزاماً بــ «باريس -1» و«باريس -2». دفعت تجربته هذه دولاً عدة إلى الاستعانة به، من بينها مصر والأردن، ما ساعده على تحقيق أرباح مالية كبيرة. وهو أصلاً عمل محامياً للرئيس نجيب ميقاتي، ولآل رحمة، وكان الوسيط بينهم وبين رجل الأعمال علاء خواجة والشركة اليونانية لترتيب صفقة دير عمار. وقد شكل الأخوان تيدي وريمون جسر عبور له إلى الحياة السياسية التي دخلها من بوابة معراب التي طالبت به وزيراً للعمل من حصتها في حكومة سعد الحريري بعدَ انتخاب ميشال عون رئيساً. يومها أرادت «القوات» وجهاً جديداً لسياستها مغلفاً بالتكنوقراط. وانطلقت «القوات» من معرفتها بخلفية الرجل لناحية عصبيّته المسيحية من جهة، وتفكيره الإجمالي الذي لا يختلف مع القوات. لكنه عاد واختلف مع سمير جعجع بعدَ اتهامه بتجيير عمل الأمينة العامة السابقة لحزب «القوات» شانتال سركيس لمصلحة أعمال تخصّ تجمعاً انطلق أولاً من مجموعة «كلنا إرادة» ثم تحول الى الحملة الانتخابية لمجموعة وجدت أن أبو سليمان يصلح لأن يكون مرشحها لرئاسة الجمهورية.
لا يخفي أبو سليمان أنه قام بدور المحامي الشرس في الدفاع عن المصارف اللبنانية ضد المودعين في الخارج. وهو أحد مُنظّري الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ورفع شعاراً عاماً يقول بـ«محاسبة كل من أوصل البلد إلى هذا الانهيار غير المسبوق»، مع أنه الأكثر التصاقاً بأركان المنظومة منذ التسعينيات.
في العلن، لم يرِشح الوزير السابق نفسه إلى حاكمية مصرف لبنان ولم يتبنّ ترشيحه أحد. وفي اتصال مع «الأخبار» رفض أبو سليمان التعليق على أخبار ترشحه أو تسميته بديلاً من سلامة. لكن من يدقق في مداولات أزمة الشغور المتوقع في موقع الحاكمية في تموز المقبل. يعرف أنه كانَ الأكثر حركة في الفترة الأخيرة. وهو عقدَ اجتماعات مع عدد من القوى السياسية، من بينها الرئيسان بري وميقاتي، وتواصل مع مسؤولين في حزب الله، ومع نافذين في جمعية المصارف وشخصيات في قوى التغيير، إضافة الى تواصل خاص مع فريق عمل رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
تعدّد الروايات بشأن الطرف الذي طرح اسمه ليكون حاكماً للمصرف المركزي، لا يحجب أن مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف كانَت أول من اقترحه في زيارتها الأخيرة للبنان، وطلبت من السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا تسويقه. ومن المؤكّد أيضاً، أن الرئيس ميقاتي يتقدّم القوى السياسية في دعمه وهو الذي أبلغ أبو سليمان أن ليف «طلبته بالاسم». وينقل عن رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل عدم رفضه له وإن كان يفضّل غيره لهذا المنصب. لكن المفارقة تتمثل اليوم في أن مشكلته الأكبر هي مع «القوات اللبنانية» التي تعيد رواية أسبابها «من صلته بشانتال سركيس الى التباين الكبير معه على نقاط تتعلق بصندوق النقد الدولي»، ولا سيما أن أبو سليمان كان محطّ انتقاد دائم من قبل النائب جورج عدوان.
أما بالنسبة إلى حزب الله، الذي التقى أبو سليمان بعض المسؤولين فيه، فيبدو حتى الآن غير متحمّس له. لكن الحزب يرى أن النقاش حول هذا المنصب يجب أن ينطلق في الموعد المناسب، وأن من الأفضل ترك الملف الى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وقالت المصادر إن «اللقاءات التي جمعته بالحزب شهدت نقاشات عامة حول آلية الاتفاق مع صندوق النقد والسياسات الشاملة المطلوبة لمواجهة الانهيار، وتصوّر أبو سليمان للخروج من الأزمة». أما بالنسبة إلى الفرنسيين، ورغمَ أنهم يفضّلون أزعور لأسباب تتعلق بطبيعة المرحلة المقبلة اقتصادياً ومالياً، لكنهم غير مرتابين من طرح اسم أبو سليمان، بينما خرجت في الأيام الأخيرة أخبار تتحدث عن حركة مصرية تدعم اسمه لتولي المنصب.
يبدو واضحاً من الاتصالات أن التعامل مع تسمية حاكم مصرف جديد للمركزي بدأ يعادل في أهميته انتخاب رئيس للجمهورية، ليس بسبب البعد الطائفي وحسب، بل لاتصاله بالوضعين السياسي والنقدي الذي يعاني انهيارات متتالية. ويظهر أن مختلف القوى تقارب تسمية الحاكم الجديد بموضوعية، وهناك شبه تسليم بعدم قدرة تعيين أي بديل لسلامة لا ترضى عنه الولايات المتحدة، لأنه حتماً لن ينجح في تنفيذ أهم مهمّتين موكلتين إليه: الأولى من الخارج وهي توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والثانية من الداخل وهي إصلاح القطاع المصرفي.
وعلى وقع هذا الجو، ثمّة أسئلة جوهرية تناقش في الكواليس بالتوازي مع التداول باسم أبو سليمان، أبرزها: هل يُمكن تعيينه من قبل حكومة ميقاتي الحالية في حال انتهاء ولاية رياض سلامة قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ وهل سيقدّم المحامي الدولي، في حال تسميته (هو أو غيره) تبرئة ذمة لقوى المنظومة السياسية والمصرفية التي دفعت البلد إلى الانهيار ويقلب الصفحة، طاوياً ثلاثين عاماً من الإدارة الخاطئة من دون محاسبة، أم سيكون لديه «خطّة» مزدوجة تصيغ مستقبل المصارف من دون إغفال جرائم الماضي؟