خلال الأشهر العشرة الماضية، لم تتوقف الاتصالات الدبلوماسية الغربية مع لبنان. ولا يكاد يوجد مسؤول أو جهة لا تعرف أن الرسالة الوحيدة التي حملها كل الموفدين كانت: افصلوا جبهة لبنان عن غزة، واعقدوا صفقة مع إسرائيل!

وإذا كان الأوروبيون «أكثر لباقة» في عرض الأمر، إلا أنهم لم يحيدوا عن جوهر المهمة التي قادتها الولايات المتحدة، وتولّاها بشكل رئيسي الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين، الرجل الذي لم يتعب من جولاته بين لبنان وكيان العدو وعواصم في الإقليم وأوروبا، مكرّراً لازمة أن على لبنان تحييد نفسه عن الحرب الدائرة، ولم يكن يخجل في الحديث عن أن العدو يفكر بضربة كبيرة للحصول على ضمانات تسمح بوقف الحرب وعودة آمنة للمستوطنين إلى مستعمرات الشمال.
في آخر جولة من الاتصالات لم يكن هوكشتين متبنّياً لمطالب العدو فقط، بل كان شريكاً في أكبر عملية تضليل ساهمت بشكل فعّال في غارة العدو على حارة حريك. وربما صار مفيداً أن يتّعظ محاوروه، والمتصلون به، ومن ينقلون عنه الكلام والرسائل، وأن يتصرفوا ولو لمرة واحدة بمسؤولية عالية، من خلال وقف التواصل معه وتحميله المسؤولية الكاملة، بالتكافل والتضامن مع العدو، عن جريمة الضاحية.
ثمّة تفاصيل كثيرة، لكن عنوانها المركزي أن هوكشتين الذي كان يريد الحصول على ضمانة لبنانية بأن لا يرد حزب الله على أي ضربة إسرائيلية، كان هو نفسه من أبلغ المسؤولين في بيروت بأن الضربة الإسرائيلية ستكون خارج بيروت والضاحية. وأصرّ على تسريب هذه المعلومة، في سياق ما سمّاه «نجاح الدبلوماسية الأميركية في منع إسرائيل من القيام بعمل يقود إلى مواجهة شاملة مع حزب الله».
وقد يخرج هوكشتين نفسه، أو من يتواصل معه، ليقول إن الرجل ليس على علم بما تفكر به إسرائيل. وإن واشنطن لا يمكنها إلزام إسرائيل بشكل الرد وحجمه وطبيعته، لكن ما حصل، رسم خطاً فاصلاً بين ما قبل وما بعد. وما على المسؤولين في لبنان، رسميين أو سياسيين، إلا أن يتحلوا بقليل من شجاعة وليد جنبلاط في قول واضح بأن المعركة واضحة، وأن هوكشتين كان شريكاً كاملاً في الجريمة، مهما حاول هو، أو إدارته، أو محبوه في لبنان، التحايل على الوقائع.

أكّد هوكشتين للمسؤولين اللبنانيين أن استهداف المطار أو الضاحية أو بيروت خط أحمر


وبالعودة إلى الاتصالات التي قادها هوكشتين إثر حادثة مجدل شمس، فكانَ هو أول من تولّى الاتصالات على أكثر من خط في لبنان، منطلقاً من «أن مسؤولية حزب الله عن الحادثة غير قابلة للنقاش». وهو عندما تحدّث مع جنبلاط، قال له الأخير إن على الولايات المتحدة أن «تبذل جهودها لمنع إسرائيل من أي خطوة جنونية لأن الحرب ليست في مصلحة أحد»، ناصحاً إياه بعدم نقل تهديدات، ولم يتأخر لاحقاً عن مهاجمته بالقول إن «هوكشتين دوره أن يقوم بوساطة وليس أن ينقل تهديدات».
كما تواصل هوكشتين مع الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي، ممارساً سياسة خداع بالإشارة إلى أن بلاده تقوم بجهد كبير لمنع التصعيد وإقناع إسرائيل بتحييد المدن والمدنيين، مشترطاً انتزاع موافقة من حزب الله على «ابتلاع الرد». أكثر من ذلك، جدّد هوكشتين اقتراحه بانسحاب الحزب من جنوب الليطاني مقابل إلغاء الضربة، لكنّ الحزب رفض النقاش في أي نقطة وأوصل رسالة عبر كل الوسطاء بأنه سيردّ على الضربة بضربة موازية لها، وسيرد على استهداف أي منطقة مدنية بضرب منطقة مدنية داخل الكيان. وهو ما قابله هوكشتين بادّعاء أن إسرائيل ليست في وارد ذلك، وأنها ستضرب هدفاً عسكرياً. ورفع هوكشتين من مستوى التضليل بالقول إن «استهداف المطار أو الضاحية أو بيروت خط أحمر». وإلى الاتصالات الأميركية، دخلت على الخط قوى أخرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا لتلعب أدواراً مماثلة.
وأمس، تكثّفت الحركة الدبلوماسية بعد الجريمة، حيث استقبل الرئيس ميقاتي وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام جان بيار لاكروا، بحضور المنسقة الخاصة جينين هينيس - بلاسخارت وقائد قوات «اليونيفل» الجنرال أرولدو لازارو، وسفير فرنسا إيرفيه ماغرو الذي قال إن «الوضع خطير ودقيق جداً وعملنا كثيراً كي نتجنب التصعيد وانزلاق الأمور أكثر، ودعونا الأفرقاء المعنيّين إلى ذلك». كما استقبل ميقاتي السفيرة الأميركية ليزا جونسون التي دعت إلى «عدم التصعيد منعاً لمزيد من التدهور».