تفضي قراءة سريعة لما تسرّب عن الاتفاق إلى أنّه قد لا يكون أكثر من خديعة بالتراضي. كيم جونغ أون يبحث عن إنجاز سريع لتبريد شبه الجزيرة، وإرضاء الصين، ودونالد ترامب الساعي للتوجه بكليته نحو الشرق الاوسط... وإيران، إذ لم يرد في الاتفاق سوى الحديث عن نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية. فلا جواب عن مصير برنامج إنتاج اليورانيوم والبلوتونيوم، قاعدة ديمومة أي برنامج تسلحي، فيما كان مثيله الإيراني موضع تفكيك منهجي تحت رعاية الصين، ولا شيء عن المنظومة الصاروخية الكورية العابرة للقارات، والتي هي أهم بكثير من البرنامج الإيراني على مستوى المدى والشحنات، بعشرات المرات. ولم يطلب الأميركي من الكوري تسليم أي وثائق أو الكشف عن حجم برنامجه النووي بعكس طهران التي سلمت وثائقها كاملة إلى مفتشي وكالة الطاقة الدولية. ولم يرد في الاتفاق أي تفصيل عن عودتهم إلى عملهم في كوريا الشمالية، كما لم يتحدث أحد عن وقف التجارب النووية، ولو أن بيونغ يانغ كانت قد دمرت مواقعها أمام الصحافة الغربية، كما أن أحداً لم يشترط أي جدول زمني في تصريحات سنغافورة، ولا في متن الاتفاق، فيما تزدحم آلاف الصفحات في اتفاق فيينا الإيراني، بالالتزامات حتى عام ٢٠٢٥.لن يضيّع الرئيس الأميركي وقت من تساءل عن الغاية من اجتماعه بكيم جونغ أون، وفي سنغافورة نفسها. فمع فراغ الاتفاق من كل تلك العناصر التقليدية لوقف أي برنامج نووي، إلا إذا كان الهدف تجميد الملف الكوري الشمالي، ومهادنة كيم جونغ اون، بالتفاهم مع الصين، من أجل التفرغ لمواجهة طهران، إذ ربط دونالد ترامب في مؤتمره الصحافي على الفور بين «إنجازه» الكوري وبين إيران، واستخلص نتائج تحييد الملف النووي عليها حتى قبل أن يجف حبر توقيع جليسه في سنغافورة على الاتفاق الوليد: «آمل أنه في الوقت المناسب، بعد أن تكون العقوبات قد فعلت فعلها، وهي عقوبات قاسية جداً، أن يعود الإيرانيون إلى التفاوض على اتفاق حقيقي، لأني أرغب في أن أكون قادراً على الاتفاق معهم، لكن الأوان لم يحن بعد... أعتقد أن إيران بلد يختلف عمّا كان عليه قبل ثلاثة أو أربعة أشهر. لا أعتقد أنهم يهتمون بالمتوسط، ولا بما يجري في سوريا، كما كانوا يفعلون بثقة كاملة. لا أعتقد أنهم ما زالوا يتمتعون بنفس الثقة بالنفس اليوم».
يمكن إيراد لائحة طويلة من التساؤلات عن دوافع تلك المرونة الترامبية في التعامل مع النووي الكوري. ولكن ما يتقدم منها هو مواصلة تفكيك كل ما صنعه باراك أوباما في الداخل والخارج. تفكيك إرث السلف وقلب سلّم أولوياته الاستراتيجية رأساً على عقب، هي الوجهة الوحيدة التي قد تستحق وصفها بالثبات، وما يمكن أن يشكّل عقيدة الرئيس دونالد ترامب، إذا ما صح القول بعقيدة ما لترامب، من فرط ما توالى من انقلابات على إنضاج استراتيجية واضحة لهذه الإدارة في فترة قياسية في قصرها لم تتجاوز العام السياسي الواحد، ومن فرط التناقض الواضح في مقاربتها لسياسة تزعم الحد من انتشار الاسلحة النووية بين مقلبها الكوري «التفاوضي»، ونبش فؤوس الحرب وإطلاق صيحاتها المجنونة، في مقلبها الإيراني والشرق أوسطي.
رمّم بولتون كل العدة الأيديولوجية للمحافظين الجدد


نزعم أن الاشكالية الحقيقية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية في سنغافورة ليست الانتشار النووي ولا الحد منه أينما كان وبأي ثمن، بل ترتيب الأولويات مجدداً، ودفع «احتواء الصين» إلى الخلف، وتقديم الشرق الاوسط. ما يمكن الآن القول من دون مخاطرة، إن استراتيجيتها الجديدة تتبلور من خلال تفكيك ما تبقى من الاستراتيجية التي تبنّتها إدارة الرئيس السابق باراك اوباما، وتصفية حسابات المحافظين الجدد العائدين الى قيادة السياسة الخارجية الاميركية من خلف الترامبية، مع صعود قطبها جون بولتون إلى مستشارية الأمن القومي، أو المسيحية الصهيونية التي تقف في ظلال ترامب من خلال نائبه مايك بنس.
كان أوباما قد جعل من الاستدارة نحو آسيا واحتواء الصين أولوية إدارته. أكثر من مفكر استراتيجي اجتمعوا لإلهام التوجه الأوبامي نحو «الصين أولاً» وقبل أي دائرة جيواستراتيجية أخرى: زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي لإدارة جيمي كارتر، برنت سكوكروفت مستشار الامن القومي في إدارة جورج بوش الاب، ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الاميركية. تقاطع دعوات الثلاثي إلى الاعتدال في التركيز على الشرق الاوسط، وأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تركز على قضايا العالم الاخرى، وتجعل من بينها أولوية استراتيجية، من بينها الصين. وعندما اندفع أوباما لوضع حد لأزمة النووي الإيراني، التي اختلقتها الولايات المتحدة نفسها، وقفت اعتبارات كثيرة وراء توقيعه اتفاق الرابع عشر من تموز ٢٠١٥، ومن بينها من دون شك، قلب التوازنات في إيران وتغيير النظام ولكن من خلال الرهان على رفع العقوبات الاقتصادية وإفضائها حكماً إلى تغليب الرئيس حسن روحاني وجناح الاصلاحيين في الصراع مع المحافظين والحرس الثوري. لكن الاعتبار الأول، كان فك الاشتباك مع إيران ضرورياً في لحظة تراجع قدرة واشنطن عن إدارة عدة نزاعات عالمية وإقليمية في آن واحد، كي تتفرغ لمواجهة الصعود الصيني الذي يهدّد هيمنتها على «بحيرتها»، المحيط الهادئ، وعلى الأسواق الآسيوية والأوروبية، ومآلات العولمة.
اعتبارات مشابهة قد تسود في خلفية المرونة الأميركية تجاه قنابل كيم جونغ أون النووية، لا سيما الدفع إلى تغيير سلوك النظام، وليس تغييره برمته، وهو ما يكفي للتعايش مع «نوويته»، من دون أنيابها المسلحة. لكن الاعتبار الرئيسي لتلك المرونة هو التفرغ مرة ثانية للاستدارة نحو الشرق الأوسط، لا سيما إيران.
وليس سراً أن العودة إلى التركيز على الشرق الأوسط، وإيران، مرجعها تلك العودة المظفرة لقطب المحافظين الجدد جون بولتون وتسلمه الامن القومي لرئيس من دون بوصلة. رمّم بولتون كل العدة الأيديولوجية للمحافظين الجدد، ونفض عنه غبار ولايتين متتاليتين لأوباما، وعاد التفكير في أن السيطرة الكاملة على الشرق الأوسط هي المدخل لترميم التراجع الأميركي في ظل أوباما، وترسيخ السيطرة على العالم. وعلى هذا الاساس قدّم المحافظون الجدد الحرب على العراق ضرورة حيوية للولايات المتحدة، وسوّقوها كخيار لا بد منه لإدامة الامبراطورية. يسلم ترامب لهذا الفريق قيادة السياسة الخارجية، لأنه لا يزال يرى كما عشية حرب العراق، ويتفق معه أن الشرق الأوسط هو البطن الرخو للنظام الدولي، ويمكن تحقيق إنجازات واختراقات كبيرة فيه، خصوصاً مع انهيار النظام الاقليمي العربي. كما يتفق معه بالاعتقاد، وهو يلغي الاتفاق النووي مع إيران ويتحدى الأسرة الدولية، أن المواجهة مع إيران، المحاطة بحلفاء واشنطن في الخليج، أسهل من المواجهة مع كوريا الشمالية التي يلوح شبح الصين خلفها في أيّ خيار يتجاوز خيار سنغافورة.