نيويورك | حسمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا الأمر، وقررت مجتمعة الانتقال إلى التحكم المباشر والكامل في مستقبل ليبيا بعد تقليص دور الأمم المتحدة إلى أقصى الحدود، أو جعله حضوراً شكلياً لا أكثر. لا بل إن تلك الدول الثلاث لم تعد تفكر في مشاركة دول كان لها مصالح كبرى في ليبيا مثل إيطاليا التي ارتبطت تاريخياً بالجارة الأفريقية أثناء الاستعمار وبعده. دول ساهمت في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي وحجز الأموال، وقدمت المعلومات والرجال والخبرات.
ففي مؤتمر روما الأخير الذي عقد في 4 آذار الحالي، قال البيان الختامي في فقرته الـ15 «اتفق المشاركون على إنشاء شراكة دولية لرصد التقدم المتحقق وتنفيذ المواثيق». والشراكة الدولية كما فهمت من أروقة المؤتمر، هي بين الدول الغربية الثلاث صاحبة الفيتو في مجلس الأمن الدولي. وهي مرحلة جديدة تدخلها الأزمة الليبية منذ ثورة 2011، تلك الثورة ذات الكثير من الآباء والقابلات.
تحدث ليبيون لـ«الأخبار» عن المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد الثورة بكثير من الارتباك والحيرة والخوف في آن واحد. هم يخافون من التحدث بحرّية خشية التعرض للثأر، مع أن الليبيين ثاروا في الأساس من أجل الحصول على الحرية. يقولون إن البلاد لم تعد دولة. وحتى أولئك الذين يسيطرون على أركان الدولة يتصرفون حالياً على أساس أن كل شيء مؤقت، وأن عقد الدولة مكتوب له أن ينفرط، لذلك يقول أحدهم إن «الإنفاق العام يتم خارج الأطر الرقابية، والسرقة متفشية على كافة المستويات، والمؤتمر الوطني العام لم يعد يحظى بأي شعبية وينظر إليه على أنه معادٍ للشعب، والكل يبحث عن حصته من ليبيا الذبيحة».
الإسلاميون تحديداً لا يشعرون أن حظوظهم في العملية الديموقراطية عالية، بعد تجربة الأعوام الماضية. فهم لا يحلمون بأن ينالوا في صناديق الاقتراع ما نالوه بدونها. لذلك تجدهم يتشبثون بالقطاع الأمني عبر شخصيات معينة؛ وكيل وزارة الدفاع خالد محمد الشريف، الملقب بمسؤول جهاز الحرس الوطني، هو المسؤول الأمني الأول الذي لا يتبدل رغم تبدل وزراء الدفاع أنفسهم عدة مرات، وهذا الرجل هو من متخرّجي مدرسة تنظيم «القاعدة». أيضاً عبدالحكيم بلحاج، الذي كان في أفغانستان مقاتلاً مع أسامة بن لادن، أصبح رجل الأميركيين بعد مراجعة ونقد ذاتي مارسه على نفسه بمساعدة قطرية، والآن يسيطر على قاعدة معيتيقة في حي تاجوراء، طرابلس؛ القاعدة التي بناها الأميركيون في الأصل وكانت أكبر القواعد الأميركية في شمال أفريقيا قبل ثورة القذافي، كان اسمها ويلس، وتتسع لأكثر من عشرة آلاف جندي. تلك القاعدة ليست خاضعة لوزارة الدفاع ولا لأي رقابة سيادية ليبية. أيضاً سجن الهضبة لا يخضع لأي رقابة رسمية، هو أيضاً تحت إشراف خالد الشريف مباشرة، وفيه تسجن كبار الشخصيات، على رأسهم عبدالله السنوسي. الأمن شأنه شأن قطاع النفط الذي يباع خارج إطار الدولة بعد سيطرة مجموعات مسلحة على منابع وموانئ.
في مصراتة هناك أيضاً مطار خاص يسيّر رحلات مباشرة إلى إسطنبول بعيداً عن أعين سلطات الأمن العام ورقابة الدولة. منه يتم نقل المسلحين إلى سوريا عبر تركيا. الأميركيون يسيطرون على القطاع الأمني الليبي، ويريدون ربط أمن ليبيا بالحلف الأطلسي عبر شبكة من الإجراءات، بينها نشر المزيد من الطائرات بدون طيار، ترتبط بغرف عمليات متصلة بأقمار اصطناعية. وبذلك تصبح ليبيا مشبّكة مع منظومة استخبارية كاملة، فوق مساحة تقارب مليوني كيلومتر مربع واقعة بين مصر وتونس والجزائر ومالي وتشاد. الأميركيون يهمهم الحرب على الإرهاب في المنطقة في الوقت الحالي أكثر من العائدات النفطية. تركوا مشاريع النفط للبريطانيين، في حين كسب الأتراك مشاريع البناء والمقاولات.
ويبدو أن عبدالحكيم بلحاج لا يتمتع بشعبية تمكنه من الفوز بمقاعد في الانتخابات. أسّس الرجل حزب الوطن، لكنه فشل في الانتخابات الماضية في الفوز بمقعد واحد في المؤتمر الوطني العام. كذلك فإن الليبيين مضطربون ويطالبون بانتخابات عامة مبكرة، لكن الإسلاميين يرفضون ذلك لأنهم يدركون حجم السخط الشعبي عليهم. الإسلاميون يبدون أكثر التصاقاً بالبريطانيين في سياستهم، ولا يخرجون عن طوع لندن، ويتجلى ذلك في علاقتها مع عبدالرحمن السويحلي المصراتي الذي يزعم أنه ممثل مصراتة؛ تمثيل يقتصر على امتلاكه لكتيبة من المسلحين.
يكثر الهمس في ليبيا بأن هذه الشخصيات، لا سيما وكيل وزارة الدفاع خالد الشريف، هي التي تعرقل إنشاء الجيش الوطني الليبي الجامع وقيام الدولة الموحدة، فهم يؤمنون بالأمن القبلي والميليشيات التي تمنحهم قوة، إلى جانب الدعم المستمد من الخارج. هم يعلمون أن العملية الديموقراطية ليست في مصلحتهم كما يقول ليبيون.
في هذه المعمعة، يبدو الوضع الليبي شديد التشابك والتعقيد لأسباب كثيرة لا تقتصر على غياب القيادة الواضحة للشعب الليبي منذ اندلاع الثورة، ولا للدور الخارجي من الناتو وقطر في حسم المعركة نيابة عن الثوار. فليبيا في الأساس مقسمة جغرافياً إلى أقاليم ثلاثة متباعدة، ومقسّمة عرقياً بين عرب وأمازيغ وطوارق وتبو. لعبت الأمم المتحدة دوراً رئيسياً في إعلان استقلال ليبيا عن إيطاليا عام 1951 بمساعدة المبعوث الهولندي الخاص، أدريان بيلت، لتضم الأقاليم الثلاثة طرابلس وبرقة وفزان، وبالتالي يشعر الليبيون أن سجلها نظيف بفضل تلك التجربة.
اليوم تبدو هذه المناطق متناحرة وليست متباعدة وحسب؛ فالأقليات التي تقطن الجنوب بات ينظر في سحب جنسيتها الليبية. وهذا يشمل الأمازيغ والتبو والطوارق، ونسبتهم من مجموع السكان تصل إلى نحو 8 في المئة، لكنهم منتشرون فوق مساحة جغرافية شاسعة ذات امتدادات في العمق الصحراوي الأفريقي. ومن دون ولاء هذه القبائل للدولة المركزية، تكون حدود ليبيا الجنوبية والشرقية والغربية مشرعة. فتاريخياً، ومنذ عهد الرومان، ما كانت هذه الحدود تُحمى إلا من قبل تلك القبائل، عبر علاقات وشراكة بين زعمائها وبين الحكومة المركزية، سواء في روما أو في طرابلس أو بنغازي. لكن هناك من بات يعتقد أنه يمكن السيطرة على البلاد بواسطة الأقمار الصناعية، لذا قاطعت الأقليات المشاركة في الحوار. وليبيا لا يمكن أن تستعيد لحمتها الوطنية من دون مشاركة سياسية فعلية من كافة مكوناتها الاجتماعية على أسس وطنية جامعة واضحة. الإسلام الأصولي لا يجمعها، لأن الشعب مختلف عليه. ليس هناك مذاهب كثيرة في ليبيا، لكن الإسلام فيها بات إسلامات بعد انقسام الولاءات والمنابع العقائدية، كما أن درنة، معقل المتطرفين الإسلاميين، تقاطع الحوار. السؤال يبقى، هل من مصلحة الدول صاحبة الكلمة العليا في ليبيا عودة البلاد موحدة؟ الليبيون لا يخفون شكوكهم.
من أجل ذلك من الضروري أن تبقي الأمم المتحدة على دورها مستقلاً نسبياً في الأزمة الليبية، لكي لا تصبح مجرد مظلة تستخدم للتعمية على مشاريع الدول الثلاث، أو الدول الثلاث + 3. هناك من يتحدث عن تعديلات في بعثة ليبيا وجلب دماء غربية إليها، تحل محل الممثل الحالي طارق متري.

ورشفانة قصة ليبية مؤلمة

ما جرى على مدى عشرة أيام بين 19 و29 كانون الثاني الماضي، في بلدة ورشفانة، يعبّر خير تعبير عن حجم المأساة التي تعاني منها ليبيا من تفسّخ وتعصّب قبلي أعمى. اقتحمت ميليشيات إسلامية قبلية منطقة ورشفانة الواقعة بين طرابلس والزاوية، والتي تبعد عن العاصمة 40 كليومتراً. كان الآلاف من عناصرها مدججين بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، بما في ذلك مدافع ودبابات وعربات مصفحة وراجمات صواريخ. عربدت تلك الميليشيات في المدينة، فقتلت 21 شخصاً وجرحت أكثر من مئة، وخطفت مواطنين على الهوية، وصفّت بعض المخطوفين بينما أمعنت في تعذيب بعضهم الآخر في معتقلات سرية. ثلاثة ممن لقوا مصرعهم تحت التعذيب كانوا مكبّلي الأيدي بعد إلقاء جثثهم أمام إحدى مدارس سوق الجمعة، ونقلهم مواطنون إلى مستشفى الحوادث في أبوسليم.
في العملية تم إحراق مساكن ومحال تجارية بعد سرقة محتوياتها، حسب شهود عيان من المنطقة، وقطعت عنها المياه والكهرباء لعدة أيام، ودمرت مصانعها ومزارعها وأحرقت سياراتها وقصفت عشوائياً، بما في ذلك مساجدها، عرف منها مسجد الصفاء في منطقة السهلة. ولم يقتصر التنكيل على المواطنين، بل شمل المسؤولين حيث جرى خطف رئيس مجلس الشورى والحكماء محمد مختار تنتوش، ورئيس المجلس المحلي للعزيزية الكبرى، عمر علي تنتوش.
رئيس الوزراء علي زيدان نفى علمه بأي شيء عن اجتياح ورشفانة. كذلك قال وزير دفاعه عبدالله الثني. لكن المسلحين قالوا إنهم كانوا ينفذون أوامر بجلب 274 مطلوباً. ورغم الجدل حول صحة الأسماء وعدد المطلوبين، فإن معاقبة منطقة عقاباً جماعياً على هذا النحو ينتهك كل قوانين حقوق الإنسان، ويعدّ جريمة بكل ما في الكلمة من معنى. ويردّ أهل المنطقة على الأوصياء على الأمن في ليبيا بالحديث عن قائمة من 5600 مطلوب في العاصمة طرابلس. ولو اتّبع الأسلوب نفسه في مطاردة هؤلاء، لدمرت العاصمة بمن فيها. لذلك يضعون ما جرى في خانة العنصرية القبلية التي تمارسها ميليشيات ذات لون قبلي واحد، بحق الآخرين.
لم يجد سكان ورشفانة من يشكون إليه الظلم الذي مورس بحقهم بصورة جماعية داخل ليبيا. فالأمن ليس بيد أحد، والجيش الوطني غير موجود فعلياً. لذلك كانت شكواهم إلى منظمات حقوق الإنسان في الخارج وإلى بعثة الأمم المتحدة في طرابلس.




ليبيا أهم مصدر للسلاح غير الشرعي

أعلن رئيس لجنة العقوبات بحق ليبيا في مجلس الأمن الدولي، مندوب رواندا الدائم في الامم المتحدة يودجين-ريتشارد غاسانا (الصورة) أن غياب الرقابة المركزية على مستودعات الاسلحة في ليبيا أدى إلى تحول البلاد إلى اكبر مصدر للسلاح غير الشرعي في العالم. وقال غاسانا مقدماً تقرير خبراء اللجنة أمس إن غالبية المستودعات العسكرية تقع تحت سيطرة مجموعات «غير حكومية وشبه عسكرية». وأكد أنه إضافة إلى ذلك، ادى غياب السيطرة الفعالة على الحدود إلى «تحول ليبيا إلى اهم مصدر للسلاح غير الشرعي، بما في ذلك الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات». وحذر الدبلوماسي من أنه يجري الآن التحقيق في تسليم السلاح الليبي بشكل غير قانوني لـ14 دولة، بما فيها سوريا، قائلاً إن «تهريب (السلاح) من ليبيا يغذي الأزمات وعدم الاستقرار، بما فيه الإرهاب، في عدة قارات، وهيهات أن يتغير الوضع في المستقبل القريب».
(الأخبار)