دمشق | حتى أول من أمس، كانت دمشق في منأى عن العمليات العسكرية، ما جعل الحياة فيها مستمرة بشكل طبيعي، ثمّ اختلفت الأوضاع وسمع أزيز الرصاص في قلب العاصمة. جاءت البداية من قلب المخيمات الفلسطينية التي شهدت تشييعاً لضحايا سقطوا، لتندلع إثر ذلك اشتباكات بين قوات الأمن ومسلحين في المخيم، ردّت عليها القوات النظامية، في اليوم التالي، بقصف المخيم ومعه حيّ التضامن، بقذائف ثقيلة سمعها القاطنون في العديد من المناطق في قلب العاصمة، وهو ما سبّب حالة هلع شديدة لدى أهالي التضامن الذين نزحوا بأعداد هائلة.
وامتدت معها الاشتباكات إلى مناطق كفرسوسة والميدان، كما اقتحمت العناصر الأمنية حيّ قبر عاتكة، ويغمد. في المقابل، عمد عدد من المتظاهرين إلى قطع الطريق التي تربط دمشق بدرعا ومنها إلى الأردن، فيما سمع إطلاق نار، للمرة الأولى، في المدينة القديمة، ما دفع التجار في الوسط التجاري إلى إغلاق محالهم، وهو ما تكرر في حيّ المهاجرين البعيد عن مناطق المعارك، والقريب نوعاً ما من القصر الرئاسي، فيما استمرت، حتى أمس، الاشتباكات في منطقتي الميدان وكفرسوسة، إضافة إلى حيّ نهر عيشة، واستمرّ معها نزوح الأهالي.
وتتعدد روايات الأهالي بشأن ما جرى، في وقت بدأت تتسرب فيه معلومات من ناشطين عن معركة كبرى سيقوم بها المنشقون عن الجيش، وهي ما بات يعرف بساعة الصفر، من دون أن يحدد لها موعد صريح، حتى الآن. هكذا يقول علي، أحد سكان حيّ التضامن الذي غادر منزله بصعوبة. ويشير إلى أن عدداً من النشطاء قد أبلغوا الأهالي ضرورة المغادرة، استعداداً لمعركة صعبة يقوم بها النظام ضد منشقين ومسلحين من «الجيش الحر». وتطوّر الأمر إلى سماع أصوات انفجارات هزّت الحيّ، قبل أن يتمكن العديد منهم من الهرب باتجاه مخيم اليرموك، وأحياء مجاورة أكثر أمناً.
يستبعد الأستاذ الثلاثيني أن تتطوّر المعركة، فبحسب قوله لم يشهد حي التضامن أي إشكالات أمنية تذكر، ويقيم فيه موالون ومعارضون للنظام من دون حدوث أي اضطرابات. ونفى ما قيل عن الإعداد لمجزرة قد ترتكب بحق من بقي من الأهالي، معتبراً أن «هذا ليس سوى فرقعة إعلامية». في المقابل، يشرح محمد، ابن حي الميدان، الوضع في منطقته، معتبراً أنها المرة الأولى التي يشهد فيها هذا الحي الدمشقي معارك بهذا الحجم، وخاصة أنه ذو طبيعة هندسية صعبة للغاية؛ ففي جهة منه تقع أبنية وشوارع عريضة تصله بمنطقة الزاهرة التي تقود بدورها إلى مناطق المخيمات الفلسطينية، وفي جهة أخرى لا يزال يحتفظ جزء آخر منه بطبيعة العمران الدمشقي التقليدي، والأزقة الضيقة ذات المداخل المتعددة، وهي التي تصله من طرف آخر بمنطقة باب مصلى، ومنها إلى حي الشاغور والمدينة القديمة، وهذا ما يمثّل عقبة أمام قوات الأمن بحكم التعقيد الشديد لحارات شديدة الصغر. ويروي الشاب «أن معارك عنيفة وضربات متبادلة بين الأمن ومسلحين للجيش الحر يظهرون للمرة الأولى، فيما اعتلى عشرات القناصة أسطح المباني تمهيداً لمعارك شرسة بين الطرفين، والتزم معظم الأهالي بيوتهم، وأغلقت كافة المحال التجارية». ويلفت الشاب إلى أن بعض الأهالي، ممن يقطنون في منطقة نهر عيشة القريبة من طريق دمشق _ درعا، شاهدوا أعداداً من الدبابات والسيارات المصفحة تعبر نحو دمشق، متوقعاً اشتداد الوضع الأمني مع اقتراب شهر رمضان.
إلى ذلك، أشار بعض الأهالي إلى حدوث محاولات مستمرة لقطع الطريق إلى درعا، في محاولة لعرقلة وصول الإمدادات العسكرية. بدوره، رأى ناشط من منطقة كفرسوسة أن هذه العمليات العسكرية ليست جديدة على كفرسوسة التي تقسم إلى قسمين، الأول يدعى تنظيم كفرسوسة وهو مقر لوزارة الداخلية، والسفارة المصرية، ومقر الاستخبارات العسكرية وأمن المنطقة حيث تعرضا لتفجير ضخم في كانون الأول الماضي، ما حولها إلى مركز أمني شديد التحصين، تقابله سلسلة من الأبنية ذات التنظيم العمراني المتطور والمجمعات التجارية التي تقع خلفها الأحياء القديمة في كفرسوسة التي تتصل بمناطق زراعية وحارات ضيقة تقود إلى حي الميدان من جهة، وإلى مداخل منطقة داريا وريف دمشق من جهة أخرى. ومن المعروف أن كفرسوسة قد شهدت تظاهرات حاشدة وصلت في بعض الأحيان إلى تطويقها بمسلحين من «الجيش الحر». ويشير الشاب إلى قصف متواصل تشهده البساتين وأزقة المنطقة الضيقة منذ يوم الخميس الماضي، مع اقتحام لقوات الأمن بين الحين والآخر، ومداهمات واعتقالات طاولت عشرات الناشطين الميدانيين، واستمرت الضربات والقذائف بالأسلحة المتوسطة حتى يوم أمس، فيما بقي الجزء الأمني المعروف باسم تنظيم كفرسوسة آمناً.
من ناحيته، يخشى عمر، ابن مخيم فلسطين، من تكرار تجارب بابا عمرو ودوما والزبداني في دمشق، حيث يحاصر المسلحون حتى تنفد ذخيرتهم أو تستخدم معهم الأسلحة الثقيلة، فيتكرر مشهد الانسحاب التكتيكي، وتتحول الأحياء الدمشقية إلى أكوام من الدمار والخراب. ولفت إلى أنّ الأسلحة المستخدمة هي أسلحة خفيفة، «ويبدو من الواضح، من خلال ما يصل من أنباء، أن هذه الاشتباكات هي بلا أي تخطيط عسكري أو دراسة لطبيعة الأرض، مقابل ترجيح كفة الحماسة الزائدة التي لن تسقط نظاماً يتميّز بجيش متماسك وقدرة على استخدام أسلحة ضخمة في مواجهة مسلحين أقصى ما لديهم البنادق والرشاشات». ويلفت إلى أن «احتمال هجوم ساعة الصفر هو احتمال ضعيف، رغم أن ما يصل من أنباء يشير إلى أنها لا تعدو كونها حرباً نفسية، لكنها تثير الذعر وقد تؤدي إلى أزمات خطيرة، وخصوصاً أن كافة المحاولات التي قام بها المعارضون لإضافة العاصمة إلى ركب المدن الثائرة قد باءت بالفشل، وبالتالي فإن التعويل على ثورة دمشقية يقوم بها الأهالي ضد النظام هو أمر غير صائب، والاعتماد عليه في مشروع ساعة الصفر سيزيد الوضع سوءاً».