استمرار تل أبيب في التلميح إلى مسؤوليتها عن استهداف مقارّ «الحشد الشعبي» الأربعة، ورفض واشنطن تحمّل المسؤولية، مقابل وقوف طهران إلى جانب الحكومة العراقية وتزكيتها في الوقت نفسه تهديدات حلفائها للولايات المتحدة وانتشارها العسكري في العراق، كلها معطيات تعكس مدى تعقّد المشهد في «بلاد الرافدين»، على وقع الاشتباك الأميركي ــــ الإيراني. وفيما يبدو إلى الآن أن ثمة توزيع أدوار يحكم الأداء الرسمي إزاء التطورات الأخيرة، فاللافت أن بغداد أرسلت إشارات إلى أنها ستقطف ثمرة الاشتباك الأخير بالسعي إلى تطوير قدراتها الدفاعية، وهو ما يعني عملياً إمكانية الانفكاك من طوق «البضاعة» الأميركية.يدفع الاشتباك الأميركي ــــ الإيراني القائم في المنطقة المشهد العراقي نحو المزيد من التعقيد، وما الاستهداف الممنهج لمقارّ «الحشد الشعبي»، منذ تموز/ يوليو الماضي، إلا ترجمة لذلك. الأدوات هذه المرة ليست تقليدية، ومواجهتها أيضاً لن تكون كذلك. ثمة من يقول إن الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي تعيش حالة تخبط، فيما يذهب آخرون إلى أن تناقض الخطاب الحكومي مقصود ومنسّق في ما بين الحكومة وقيادة «الحشد»، على قاعدة ثنائية الدبلوماسية والميدان. وفق هذا الرأي الأخير، ثمة تبادل أدوار بالتنسيق مع دوائر القرار في طهران، من شأنه فكّ لغز «حرب البيانات» بين رئيس «هيئة الحشد» فالح الفياض، ونائبه أبو مهدي المهندس.
الأول دعا في بيان دبلوماسي إلى الالتزام بقرار رئيس الوزراء، فيما حمّل الثاني الولايات المتحدة مسؤولية ما جرى ويجري، لكن الرجلين كليهما أقرّا بأن الحوادث الأربعة لم تكن عرضية، وأجمعا أيضاً على آلية مواجهتها، ما يعني أن الفارق فقط هو في اتهام واشنطن من عدمه. وعليه، فإن بيان المهندس كان من شأنه «إحراج» الحكومة، لذا فضّلت الأخيرة «تجهيل» المسؤولين عن الاستهدافات. وهو موقف تتفهّمه دوائر القرار في طهران، بل إنها تقف خلف بغداد في أي قرار تتخذه، وفق مصادر مطلعة تحدثت إلى «الأخبار»، لكنها في الوقت عينه لن تتوانى، عبر حلفائها، عن توجيه رسائل شديدة اللهجة إلى واشنطن.
اجتماع الرئاسات الثلاث أول من أمس دعا إلى «التحقيق ودراسة جميع المعطيات والمعلومات بشأن ما تعرّضت له هذه المخازن»، مشدداً على «مراعاة سيادة العراق وأمنه واستقلاله، ورفض سياسة المحاور وتصفية الحسابات»، كما على «النأي بالبلد عن أن يكون منطلقاً للاعتداء على أي من دول الجوار والمنطقة، أو حتى ساحة لحرب بالوكالة»، رافضاً «محاولة أي طرف إقليمي أو دولي جرّ العراق إلى حرب وصراعات». خطابٌ رسمي باردٌ سرعان ما سجّل تحوّلاً يوم أمس مع إعلان عبد المهدي، عقب اجتماع «مجلس الأمن الوطني»، المضيّ في تطبيق القرار المتعلق بربط تحليق جميع أنواع الطيران في الأجواء العراقية بموافقته حصراً أو من يخوّله، وتولّي وزارة الدفاع رسم الخطط والإجراءات المناسبة لتسليح قيادة الدفاع الجوي، بما يتناسب مع الوضع الحالي والمستقبلي. وعليه، فإن توجّه عبد المهدي هو مواجهة التحدي الحالي بتطوير القدرات العراقية، بما يتناغم في نهاية المطاف مع المعادلة التي رسمها المهندس، في وقت تفيد فيه معلومات بأن مباحثات تجرى لمدّ «الحشد» بسلاح نوعي فعّال على مستوى الدفاع الجوي. إزاء ذلك، يُطرح سؤال: هل ستقبل واشنطن بتسليح القوات العراقية؟ يجزم المعنيون في المؤسسة العسكرية العراقية بأن الولايات المتحدة ستمنع ذلك. ثمة اقتناع لدى هؤلاء بأن الأميركيين يقدمون/ يبيعون سلاحاً متطوّراً في الظاهر، لكنه أجوف من الداخل، عدا عن إخلالهم بعقود التذخير والصيانة. فالأميركيون، وفق المصادر، «يبيعوننا خردة... وهو أمرٌ سيدفعنا إلى الذهاب نحو روسيا والصين، وبحث هذا الأمر معهم».
ولئن انقسمت القوى السياسية العراقية في توصيف ما جرى، فإن التعامل الأميركي ــــ الإسرائيلي الظاهري مع الموقف يبدو مشابهاً أيضاً. ترفض واشنطن، في العلن، تحمّل مسؤولية الضربات، فيما تواصل تل أبيب تلميحاتها إلى أنها هي التي تقف وراءها. لكن في الواقع، ليس بإمكان إسرائيل تنفيذ ضربات كهذه في «ملعب أميركي» إلا بالتنسيق مع الولايات المتحدة في الحدّ الأدنى، إن لم يكن بطلب منها. في حال صحّ ذلك السيناريو، فالواضح أن الأميركيين يلجأون إليه بحذر شديد، إذ إنهم وفق ما تقول مصادر عراقية «لا يريدون انفلات الساحة، وحريصون على ضبطها، لأنهم أكثر المتضررين»، مضيفة إن «20 ألف جندي أميركي تحت مرمى صواريخ الفصائل، وهذا أمر مقلق جداً للأميركيين، وأي مواجهة قد تقع ستعرّض هؤلاء للموت المحتوم». ويدعم ذلك التقدير ما نُقل أمس عن مسؤول أميركي كبير من امتعاضه من «هجمات منسوبة لإسرائيل نفذت في العراق»، ووصفه تصرفات تل أبيب بأنها «تجاوز للحدود... وقد تسفر عن انسحاب الجيش الأميركي من البلاد».
سيناريوان مطروحان
بناءً على ما تقدم، ثمة اليوم سيناريوان محتملان في العراق: مواجهة أو صفقة. في ما يتصل بالأول، بدت لافتة أمس تصريحات رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الذي رأى أن «تثبيت دور إسرائيل في استهداف سيادة العراق يعرّضه لخطر وخلط للأوراق»، مؤكداً أن «العراق سيرد بالقوّة في حال ثبوت ضلوع إسرائيل بعمليات القصف»، مضيفاً إن ذلك سيجعل «العراق ساحةً صراع تشترك فيها أكثر من دولة ومنها إيران». تشخيص المالكي تزامن مع إصدار المرجع الديني، كاظم الحائري، فتوىً حرّم فيها «إبقاء أيّ قوة عسكرية أميركية وما شابهها، وتحت أيّ عنوان كان»، داعياً القوات المسلحة إلى مواصلة «الدفاع الشريف والمشروع عن بيضة الإسلام، وحرمات البلد وكرامته... فالخيار الوحيد هو المقاومة والدفاع».
هذه الفتوى، المُلزمة لـ«مقلّديه» بوصفه مرجعاً لعدد من فصائل المقاومة، تدفع إلى السؤال عن موقف «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) التي لم تعلّق ــــ حتى الآن ــــ على ما جرى، وسط تكهنات بأن تكون مؤيدة لخيار الدولة وقرارها، فيما تفيد معلومات «الأخبار» بأنه بعد بيان المهندس، وبيانات الأمين العام لـ«حركة عصائب أهل الحق» قيس الحزعلي و«كتائب حزب الله»، ثمة تحضيرات جدية لدى فصائل المقاومة للدخول في أي مواجهة قد تُفرض عليها في المرحلة المقبلة. لكن طبول المواجهة لا تزال تُقرع على أنغام حديث جدي آخر (وها هنا السيناريو الثاني) عن تفاوض محتمل بين الأميركيين والإيرانيين، وفق مصادر عاملة في مكتب عبد المهدي، وما يجري حالياً «ليس سوى عضّ أصابع... واختبارٍ لصبر كل منهما»، في سياق عمليات أمنية من شأنها إما الدفع إلى المواجهة، وإما فتح باب التسوية.