لم يقدّم لنا حليم جرداق الفن الحديث، في رؤية جمعت بين انتصار الغرب على ذاته وعودة الشرق إلى ذاته، بل قدّم لنا فناناً عرف كيف يوحّد بين كتاباته وبين فنّه وشخصه، بين كتاباته ومجتمعه، بين تراثه وعصره، وبين عقله وقلبه. حفرياته تقول كذلك. في الوقت الذي ذهبت فيه لتقرأ حضارة ما بين النهرين، في ملاحمها وأساطيرها، كانت تتقدّم بخطوات سريعة عن المستقبل. استطاعت هذه الأزياح السوداء أن تكشف لنا عن الضوء الذي يملأ القلب. تجريده يقول كذلك، عندما انفجرت الألوان بين يديه كأنّها البركان أو الطوفان، سرعان ما عمّ اللوحة فرحٌ عظيم. تخبرنا عارياته أننا نستطيع أن نحلّق معها مرتين، مرة بواسطة شفافيّتها وروحانيّتها، ومرة أخرى، بواسطة حسّيتها وجسديّتها. حليم جرداق يقف في الحدّ الضيق الذي يفصل ويصل معاً، لأنه يجمع بين الفكر والعفوية، بين البساطة والتعقيد، بين الحرية والالتزام، بين الفطرة والمعرفة وبين الوحدة والجمع. في كتاباته شاعرية كأنها الصلاة، كأنها التسابيح، وفيها أيضاً فلسفة تجمع بين شرق وغرب، بين مادية وروحية، وفيها أيضاً تأمل وتفكّر، تأخذنا إلى صوفية جديدة، يسكر فيها الوعي، ويفتش فيها العقل. إنّه فنان للمستقبل، هكذا يقول لنا رسمه الذي مضى فوق البياض كما تمضي الموسيقى في الهواء، كما تمضي المياه في الأنهار، كما تمضي النجوم في السماء. ذهبت عنا الآن، سنلقاك غداً.
* فنان ومنظّر لبناني