نضال حمد*
في الثامن من كانون الأول سنة 1987 تفجّرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كان ذلك في جباليا، في قطاع غزة المحتل. ثمّ انتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين المحتلّة. يعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة لقيام سائق شاحنة صهيوني بتعمّد دهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز «إريز» الشهير، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية أرض فلسطين المحتلة منذ سنة 1948. استشهد وأصيب في هذا الحادث عدد من العمّال الفلسطينيين.
لم يمضِ وقت طويل على الجريمة البشعة حتى كانت الثورة الشعبية العارمة تعمّ الضفة والقطاع، ليصبح بإمكان العالم أجمع مشاهدة العصيان الشعبي الفلسطيني السلمي على شاشات التلفزيون، وفي الوقت نفسه مشاهدة الإرهاب الصهيوني بحقّ المنتفضين من الكبار والصغار والنساء والأطفال والشباب. كانت المسيرات والتظاهرات والاعتصامات والإضرابات تعمّ كل المناطق الفلسطينية بالرغم من القمع والبطش والهمجية الصهيونية.
مع مرور الأيام والأسابيع والأشهر تطوّرت الانتفاضة وابتدعت أساليب جديدة ونهجاً مقاوماً جديداً امتاز بقيامة الحجر وشموخ أطفال الحجارة وانتصارهم على الجندي والدبابة وسياسة الجنرال رابين لتكسير العظام. لم تنفع الإدارة المدنية الصهيونية سياساتها الإجرامية في قمع الشعب المنتفض، إذ جاء ردّ الانتفاضة على القمع والهمجية والسياسة الدموية الصهيونية بتأليف القيادة الوطنية الموحّدة للانتفاضة، التي توزّعت على الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، بالإضافة إلى الشخصيات الوطنية، وأصبحت تلك القيادة المرجعية السياسية والتنظيمية للانتفاضة. في تلك الفترة الزمنية نفسها كانت فلسطين تشهد ولادة التيار الإسلامي في الضفة والقطاع، حيث برزت حركة «حماس» في بداياتها منافساً وندّاً للفصائل الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظّمة التحرير الفلسطينية. لكنها بقيت غير ظاهرة بقوة لغاية بروز نجم الشهيد المقاوم يحيى عياش مهندس عمليات «حماس» الاستشهادية.
شعرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في منافيها العربية البعيدة بأن هناك مدّاً إسلامياً ينمو في فلسطين المحتلة، وأن فرصتها قد أتت لتخرج من ركودها وعزلتها ولتستعيد دورها المفقود، مستفيدة من مساعدة الشعب الفلسطيني الذي قدّم لها الانتفاضة عنواناً سياسياً عريضاً يمكن عبره المناورة والعمل لفرض شروط تلبي الحد المقبول من الطموحات الفلسطينية في التحرير والاستقلال والعودة.
عرفت قيادة المنظّمة كيف تدخل جسد الانتفاضة وكيف تدير سدّة القيادة فيها، واستفادت من ذلك بإعادة دورها بقوّة وبتعزيز وجودها وتقويته على أرض فلسطين المحتلة. وكان هذا ضرورياً جدّاً للقيادة الفلسطينية والفصائل التي كانت أخذت بعد بيروت تتصارع في ما بينها بأشكال مختلفة وصلت إلى حدّ استباحة الدم الفلسطيني، كما حصل في حصار طرابلس سنة 1983، وفي انشقاق حركة «فتح» كبرى فصائل المنظّمة. ويجدر الذكر هنا أنّ المنظّمة كانت في سنوات سابقة قد اضطرت للخروج من الأردن بعد مجازر أيلول الشهيرة ومعاركها مع النظام الأردني سنة 1970ـــــ1971. إنّ السنوات السابقة كانت سنوات من الجحيم العربي بالنسبة إلى الفلسطينيّين وثورتهم ومنظّمتهم ومخيّماتهم في الشتات، حيث ما زالت أحداث أيلول الأسود في الأردن والحرب الأهلية في لبنان والمجازر بحق المخيمات الفلسطينية ماثلة في الأذهان. ترافقت تلك الحملات مع حملات أخرى صهيونية سياسية وعسكرية واستخبارية منتظمة استهدفت الشعب الفلسطيني في الشتات وقيادة المنظمة وكوادرها، ومن ثم وجودها في الأردن ولبنان بالذات.
لذا رأت تلك القيادة في الانتفاضة مخرجها من المأزق والأزمة التي وقعت فيها بعد فقدانها لبيروت.
بقيت الانتفاضة مستمرّة، وازدادت اشتعالاً يوماً بعد يوم، ولم تتأثّر باعتقال الاحتلال الآلاف من الشبّان. وكذلك باستشهاد المئات وجرح الآلاف من أبناء الشعب المنتفض والثائر على الاحتلال، الحالم بحرية واستقلال وسلام حقيقي وعودة للديار المحتلة. تقدمت الانتفاضة ببرنامج سياسي أكّدت خلاله أن منظّمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وقدّمت جماهير الانتفاضة تضحيات جساماً على مدى عدة سنوات من عمرها. لم تتوقف الثورة الشعبية إلا عندما شرعت القيادة المتنفذة في منظّمة التحرير الفلسطينية بحوار علني وآخر سري مع الصهاينة كانت نتائجه وقف الانتفاضة والتضحية بها وبتضحياتها لأجل اتفاقية أوسلو السوداء.
ما الذي جاءت به وأبرزته اتفاقيات أوسلو؟
جاءت بالفساد وأبرزت الوجوه الزائفة والجنرالات الذين هربوا من ساحات المعارك، وبمخبري الأنظمة، وبفئة من المنتفعين والتجار الذين لديهم القابلية والاستعداد لبيع كل شيء مقابل الجاه والمال والسلطان والسفر والتنقل والانتفاع والظهور في وسائل الإعلام. وجاءت أيضاً، للأسف، بخوارج اليسار الفلسطيني الذين امتهنوا بيع كراماتهم وأصبحوا من أسوأ رموز الهزيمة والتطبيع والفساد والتخلي عن حق العودة. وبعدما تعرّف الشعب الفلسطيني إلى هذه الفئة التي حكمته في زمن أوسلو ونهبت ثرواته وخيراته وأفقرته واستباحته وفرطت بحقوقه وتنازلت عن قداسة قضيته وعدالتها. تفجّرت انتفاضة الأقصى والاستقلال في نهاية أيلول سنة 2000، الانتفاضة الثانية، التي كان عنوانها الأساسي الذي لم يُعلن ثورة على فساد جماعة أوسلو... وعنوانها المعلن ثورة على الاحتلال والاستطيان والإذلال.
* مدير موقع الصفصاف الإخباري العربي النرويجيwww.safsaf.org