اشتهرَ كتاب سيث أنزيسكا، «منع فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو» قبل أن يصدر قبل أسابيع عن دار نشر جامعة برنستن. المؤلّف روّجَ لكتابِه كثيراً (في مقالات صحافيّة)، كما روّج له رشيد الخالدي (المُشرف على أطروحته في جامعة كولومبيا قبل تحويلها إلى كتاب). لكن قراءة الكتاب تجعلك تستغرب: هل يستأهل هذا الكتاب كل هذه الضجّة التي رافقت صدوره والحديث عن العثور على وثائق جديدة دامغة؟ الجدّة في الكتاب قليلة مع أن الكتاب يتضمّن سرديّة مفيدة جدّاً عن «مسيرة السلام» الأميركيّة خصوصاً من عهد كارتر إلى مرحلة أوسلو، وإن كان التركيز أفضل في مرحلة عهد كارتر منه من تغطية عهود أخرى. الأطروحة كانت بعنوان «ظلّ كامب ديفيد: أميركا وإسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة، ١٩٧٧-١٩٩٣»، في قسم التاريخ في جامعة كولومبيا عام ٢٠١٥. كان أفضل لو أن عنوان الكتاب حفظ اسم كامب ديفيد لأن محور الكتاب هو في تأثير كامب ديفيد وتوابعه ونتائجه على القضيّة الفلسطينيّة. وكانَ المؤلّف قد نشرَ مقالات مِن قبل (في «نيويورك تايمز» و«نيويورك ريفيو أوف بوكس») للحديث عن اكتشافه وثائق عن مسؤوليّة أميركيّة: في إعطاء الضوء الأخضر (وليس الأصفر كما ورد في مقالات من قبل (1)) للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، وأيضاً في السماح الأميركي لحكومة العدوّ بارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا. هل كنّا، نحن العرب، نجهل المسؤوليّة الأميركيّة في الحالتيْن، وفي الحالات الأخرى، مثل عدوان تمّوز؟والكتاب يُقلّلُ من سمعة المؤلّف بأنه ناقدٌ لإسرائيل. هناك مشكلات كبيرة وصغيرة، سياسيّة وأكاديميّة، في الكتاب. أولاً، إن الكتاب يتحدّث عن «منع فلسطين» (من التحقّق أو الإنجاز) في حديثه عن مسيرة السلام. لكن هذا الطرح يُغيّبُ عنصر الإرادة والفعل الذاتي عن الشعب المعني، أي إن الشعب الفلسطيني وفعل إرادته غائب عن صنع القرار والتأثير في كتاب ينطلق من الاهتمام (النظري) بقضيّة فلسطين. ثم هل تحرير وطن من الاحتلال يكون منّةً مِن دولة ثالثة نحو شعب ما؟ وهل قرار تحقيق فلسطين يكون فقط في يد الحكومة الأميركيّة عبر إدارات متعاقبة؟ وهل القرارات الأميركيّة عن فلسطين تنطلق من مصلحة فلسطين أم هي قراءة للمصلحة الأميركيّة - لا بل المصلحة الإسرائيليّة أيضاً - وطرق رعايتها عبر التخفيف من عناصر الضرر على هذه المصلحة؟ تخال أن منطلق الكتاب لا يختلف عن منطق السادات (وياسر عرفات من بعده) عن أن كل أوراق الحلّ هي بيد أميركا.
ثانياً، الكتاب الموثَّق بدقّة لكل مراحل السياسة الأميركيّة، خصوصاً في مرحلة كارتر وريغان من بعده، لم يعتمد على الرواية الفلسطينيّة لكل مراحل النقاش والتفاوض حول القضيّة. وهذه الضعف يرتبط بالنقطة السابقة. صحيح أن الكاتب استشهد بشهادة شفيق الحوت وبيان نويهض الحوت، لكن كمّاً هائلاً من الكتب العربيّة عن كل مراحل القضيّة الفلسطينيّة قد نُشرَ. حتى في مرحلة اجتياح لبنان فإن الكاتب يعتمد على المراجع الإنكليزيّة. لكن هذا الضعف ليس مشكلة سياسيّة فقط بل أكاديميّة من حيث افتقار الكاتب إلى معرفة بلغات غير الإنكليزيّة، وهذا ضعف متزايد في إعداد طلبة الدكتوراه هنا. كان إعداد الدكتوراه يتطلّب معرفة بلغات ثلاث أو أربع في الجامعات «المرموقة» (كم أمقتُ هذه العبارات) لكن هذا الشرط لم يعد مُطبّقاً في كثير من الجامعات. إن إعداد أطروحة من هذا النوع كان يتطلّب الاستعانة بمراجع بالإنكليزيّة والفرنسيّة والعبريّة والعربيّة لكن المؤلّف هنا اعتمد فقط على الإنكليزيّة (مع بعض المراجع بالعبريّة). وهذا النقص، خصوصاً في مراجعة وثائق ومذكّرات وشهادات فلسطينيّة بأي لغة، أثّرَ في وجهة الكتاب وحساسيته نحو الضحايا.
تنتاب الكتاب معايير أخلاقيّة صهيونيّة مفضوحة، فليس هناك من لهجة تنديد أخلاقي إلا ضد أعمال المقاومة


ثالثاً، لماذا رصد ودراسة «عمليّة السلام» الأميركيّة يبدأ في عهد كارتر؟ إن هذا الفصل التاريخي بين ما سبق وما لحقَ يأتي في مصلحة كارتر إذ إنه يجعل من اهتمام كارتر بالقضيّة الفلسطينيّة إنسانيّاً في منابعه وليس سياسيّاً. وهل اهتمام نيكسون بـ«مسيرة السلام» ومبادرة روجرز المشؤومة كانتا خارج سياق المسيرة الطويلة التي بدأت بعد ١٩٦٧ وهي الآن في عهدة صهر الرئيس الأميركي؟ إن تمييز عهد كارتر عن غيره يُسبغ مسحة إنسانية عاطفيّة على إدارة كارتر، وهي مسحة لا تستحقّها الإدارة ولا يستحقّها كارتر. وهذا الفصل التأريخي يجعل من الاهتمام الأميركي بمصالح أميركا وإسرائيل خارج سياق السياسة الإمبرياليّة، وخارج سياق رعاية الكيان الصهيوني.
رابعاً، إن التناقض بين بعض السياسات الأميركيّة وبعض السياسات الإسرائيليّة لا يعني أبداً أن هناك إمكانيّة لحسم هذا التناقض في مصلحة أي دولة عربيّة (أو مصلحة عصابة أوسلو في رام الله)، أو في اتجاه مضاد لدولة العدوّ الإسرائيلي. إن هذا التناقض هو غالباً اختلاف في تحديد مصلحة العدوّ الإسرائيلي، التي تراها كل إدارة أميركيّة نصب عينيْها.
خامساً، صدّقَ أنزيسكا مزاعم جيمي كارتر حول اهتدائه بحقوق الإنسان في سياساته الخارجيّة. لكن المؤلّف يلحظ في كتابه تهليل كارتر لأنور السادات (ذي التاريخ النازي والمعادي للساميّة) والأمير فهد وشاه إيران. لم يجد كارتر غضاضة في الثناء على الطغاة في دول العالم مع مضغه لخطاب حقوق الإنسان. ثم ربط مساعي كارتر لـ«السلام» في الشرق الأوسط - حسب الرؤية الإمبرياليّة - بحقوق الإنسان هو ربط ساذج، لا بل خبيث، ويفترض أن تسويغ السياسات الخارجيّة يساوي عوامِلها المُقرِّرة.
سادساً، تنتاب الكتاب معايير أخلاقيّة صهيونيّة مفضوحة. ليس هناك من لهجة تنديد أخلاقي في الكتاب إلا ضد أعمال المقاومة الفلسطينيّة فيما تكون لهجته ضد عدوان وإرهاب إسرائيل مُخفَّفة جدّاً. لم يصف الكاتب عدوان إسرائيل بالإرهاب مرّة واحدة. لا بل هو تحدّث عن «قلق إسرائيلي حقيقي من اعتداءات إرهاب في السبعينيّات» (يرد ذكر «الإرهاب» في سياق أعمال عسكريّة للمقاومة الفلسطينيّة في ص٧٠ وص ٨١ وص ١١٨ وص ١٢٠ وص ١٧٤). لا بل هو قبل بوصف عمل مقاوِم ضد هدف عسكري إسرائيلي بـ«الإرهاب» (ص. ٧٧). أما في جانب العدوّ، فهو يتعاطف في لهجته مع العدوّ في حرب ١٩٧٣ ويذكّر أنها جرت في «عيد الغفران»، كأن حروب العدوّ كانت تتوقّف في أيام الأعياد الإسلاميّة والمسيحيّة عند العرب. ويصرّ الكاتب على التقليل من عدد ضحايا اجتياح ١٩٨٢ إذ يستعمل رقم خمسة آلاف (ويضيف «على الأقل»، ص. ١٩٥) مع أنه يعترف في حاشية (رقم ٤، ص. ٣٦٨) بأن الرقم «قد يكون» ٢٠٠٠٠ ضحيّة لبنانيّة وفلسطينيّة (والرقم، مثلاً، ذكرته جريدة «النهار»، غير المعروفة بمواقفها القويّة ضد الصهيونيّة أو عدوانها).
لكن الكتاب سيُعتبّر أنه بات يمثّل الرواية شبه الكاملة لتاريخ مسيرة السلام خصوصاً في أوجّها في عهد كارتر، ويمكن تدريس الكتاب في مادة الصراع العربي-الإسرائيلي لما يحتويه من معلومات وتوثيق مضن، لكن يجب تعريضه وتحليله بعين فاحصة وناقدة. البداية هي في تحليل شخصيّة وأهداف كارتر نفسه، الذي يكنّ له المؤلّف إعجاباً كبيراً. يعترف كارتر أن هدفه في مساعيه كانت دائماً المساعدة في جلب «السلام لإسرائيل وجيرانها» (ص. ١)، أي تطبيع وجود الكيان الاحتلالي بيننا. والهدف الثاني لكارتر، كما أخبرَ باراك أوباما في لقاء بينهما، هو في منع حلّ الدولة الواحدة. أي إن الرجل، الذي ينطلق في رؤيته للصراع (كما في كتابه «دماء إبراهيم») من نظرة مسيحيّة متعصّبة تُجري إسقاطاً على ذكر إسرائيل في العهد القديم على الصراع الحديث بين العرب والإسرائيليّين.
أما في إدارة كارتر، فلم تكن هناك رؤية واحدة للصراع، بل انتابت عمليّة صنع السياسات تجاذباً وصراعات بين عدّة أجنحة معنيّة بالمسألة الفلسطينيّة (أو الإسرائيليّة، حسب مفهومهم هم): ١) الرؤية الأولى مثّلها المستعربون من أمثال ويليام كوانتس ونيكولاس فيليوتس الذين أرادوا سياسة أقل انحيازاً لإسرائيل لكن من وجهة نظر مصالح أميركا في الشرق الأوسط كما يراها خبراء المنطقة في الإدارة. يجب أن نتذكّر أن دول الخليج كانت، في الظاهر على الأقل، مندّدة بالانحياز الأميركي إلى العدوّ، وكان اللوبي الإسرائيلي يمانع في تسليح تلك الدول، لا لشكّ في احتمال استعمالها ضدّه بل لأنه لم يكن يثق باستقرار تلك الدول (عرضت إسرائيل في محادثاتها مع الأميركيّين في السبعينيّات، وما بعد، أن تتدخّل عسكريّاً لمنع تحقيق الشيوعيّة في السعوديّة). وكانت رؤية المستعربين هؤلاء ترى أن المصلحة الأميركيّة تتضرّر إذا لم توازن الحكومة بين حلفها مع إسرائيل، وحلفها مع دول الخليج والدول العربيّة المحافظة. أي إن الموضوع لم يكن إنسانيّاً ولم يكن أبداً منطلقاً من معاداة للصهيونيّة (لم تؤثّر معاداة الصهيونيّة في المستعربين إلا على هؤلاء الذين عانوا من معاداة لليهوديّة، مثل السفير الأميركي السابق، أندرو كيلغور). ٢) الرؤية الثانية تمثّلت بالجناح الصهيوني المتصلّب الذي لم يكن يريد أن تقوم الحكومة الأميركيّة بأي جهد لتحقيق السلام إذا كان ذلك يزعج أو يحرج إسرائيل، بصرف النظر عن هوية الحزب الحاكم. وقد مثّل هذا الجناح خير تمثيل نائب الرئيس الأميركي نفسه، والتر مونديل (لم تكن صهيونيّته بريئة عن طموحاته الرئاسيّة المبكّرة، وهو بالفعل أصبحَ المرشح الرئاسي الديموقراطي ضد رونالد ريغان عام ١٩٨٤). وكان مونديل ينسّق مع الحكومة الإسرائيليّة لتعطيل أي مبادرة أميركيّة يمكن أن تزعج الحكومة الإسرائيليّة. ٣) الجناح الثالث مثّله مستشارو الرئيس المعنيّون بالسياسة الداخليّة وشأن الانتخابات النيابيّة. هؤلاء كانوا يدركون قوّة ونفوذ اللوبي الإسرائيلي وكانوا يخشون من تأثير مواقف كارتر في السياسة الخارجيّة في حظوظ إعادة انتخابه. وهذا ما عناه رئيس أركان موظّفي البيت الأبيض في عهد كارتر، هاميلتون جوردن، عندما علّق ساخراً على جهود كارتر في كامب ديفيد أن ذلك يمكن أن يسمح بانتخابه رئيساً للضفّة الغربيّة (وليس لأميركا - وجوردون زعم أنه أكتشف فقط في سنوات دراسته الجامعيّة أن جدّته لأمه هي يهوديّة، وهذا النوع من الاكتشافات في الحياة السياسيّة الأميركيّة يعود بالنفع الكبير على مُكتشفه أو مُكتشفته).
٤) الرؤية الرابعة تمثّلت بفريق الأمن القومي الذي رأى أن تسوية القضيّة الفلسطينيّة يساعد على تعزيز موقف الحلف الأميركي في الشرق الأوسط في مواجهة الاتحاد السوفياتي. أي إن تحقيق تسوية لنزاع الصراع مفيد لصراع أميركا مع الشيوعيّة. أما كارتر نفسه، فكان قريباً جدّاً من الجناح الرابع الذي نطق باسمه مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، زبغنيو برجنسكي. ويعود موقف برجنسكي (أغفلَ المؤلّف في سرده المفرط في الإيجابيّة عن عهد كارتر، تصريح برجنسكي الذي جاء فيه «وداعاً منظمة التحرير الفلسطينيّة»، والذي ورد في مقابلة مع مجلّة «باري ماتش» في أواخر عام ١٩٧٧) (2)، إلى سنوات عمله الأكاديمي. وتأثّرت أفكار برجنسكي بوثيقة مؤسّسة «بروكنز» في ١٩٧٥، الذي كان مع ويليام كوانت من الموّقعين عليها. والوثيقة لم تدعُ، خلافاً لسيطها في حينه، إلى دولة فلسطينيّة وإنما هي تسوية تضمن أمن الكيان الإسرائيلي مع انسحاب إلى أراضي الخط الأخضر في ١٩٦٧. هي دعت إلى حق تقرير مصير لكن مشروط (كيف يكون حق تقرير المصير مشروطاً؟)؛ الوثيقة رأت أن تحقيق حق تقرير المصير يمكن أن يأخذ شكل «دولة فلسطينيّة مستقلّة تقبل التزامات وتعهدات اتفاقات السلام أو كيان فلسطيني مرتبط فيدراليا طوعياً (كيف يكون هذا الارتباط غير المستقل طوعيّاً؟) مع الأردن». وكان كارتر قد قرأ التقرير وتأثّر به (ص. ٢٢) (يمكن أيضاً ملاحظة تأثير وليد الخالدي في برجنسكي، الذي عرفه لسنوات من قبل). وبرجنسكي كان قد شارك عام ١٩٧٥ في كتابة مقالة تقبل كيانيّة دولة فلسطينيّة (3)، لكن هذه الأفكار لم ترد على لسانه أثناء تبوئه منصبه في البيت الأبيض. أما أوّل وزير خارجيّة في عهد كارتر، سيروس فانس، فكان يقبل بـ«شكل ما من حق تقرير مصير» للشعب الفلسطيني، كما أورد في مذكّراته.

صحيح أن مشروع الإدارة عام ١٩٧٧ كان أوّل مشروع شامل للحلّ على الطريقة الأميركيّة لكنه كان منقوصاً


ويختلق المؤلّف الأعذار لتسويغ تراجع مواقف ووعود كارتر عن القضيّة الفلسطينيّة فيذكر انشغاله بالإطاحة بحليفه، شاه إيران، وأزمة الرهائن بالإضافة إلى توتّر علاقة الجبّاريْن. لكن الداوفع السياسيّة الانتخابيّة لا ترد في حسبان أنزيسكا. هو لا يذكر في كتاب تفصيلي عن «مسيرة السلام» في عهد كارته ومواقفه من الصراع العربي-الإسرائيلي أن خشيته من تحوّل الناخبين اليهود ضدّه كانت وراء مبادرته لإنشاء «متحف المحرقة». أراد من الفكرة أن ينزع الصورة السلبيّة الذي تركتها رعايته لمفاوضات «السلام» بين مصر وإسرائيل عند الناخبين اليهود. وفي واحدة من أهم خطبه في حملته الانتخابيّة، كان كارتر قد عبَّر عن مشاعره نحو إسرائيل قائلاً: «لقد أعجبتُ بدولة إسرائيل وكيف أنها، مثل الولايات المتحدة، فتحت أبوابها للمشردين والمضطهدين» (ص. ١٧). من المشكوك فيه أن يكون كارتر الذي قرأ عن الصراع أن يجهل أن هذه الدولة طردت السكّان الأصليّين وأغلقت أبواب وطنهم أمامهم، وقتلت مَن حاول أن يعود إلى وطنه منهم كأنهم «طيور الصيد». ولو أن المؤلّف درس مواقف كارتر نحو الفلسطينيّين في سياق سياساته العامّة لكان ربط بين عدم حساسيته نحو المضطهدين في فلسطين وبين مواقفه المتذبذبة والجبانة نحو الحقوق المدنيّة. (4)
لكن عهد كارتر تميّز عن العهود التي سبقته التي تلته في تاريخ «مسيرة السلام» العدواني في أنه تبنّى أفكاراً أميركيّة خاصّة بالحل النهائي للصراع العربي-الإسرائيلي. هذا التبنّي زال بمجرّد وصول رونالد ريغان إلى الحكم، وتجنّبت كل الإدارات اللاحقة تبنّي مشروعاً أميركيّاً خاصّاً إذ إن الإدارات لم تكن تصدر مواقف يمكن أن تتعارض مع مواقف حكومة إسرائيل. كان هناك خلافات حول المستوطنات في عهد بوش الأب، لكن حتى تلك الإدارة لم تقدّم مشروعاً خاصاً بها. لكن إدارة كارتر قدّمت أفكاراً للحلّ ثم سرعان ما تملّصت منها إذا رأت فيها خلافاً مع حكومة إسرائيل، أو إذا رأت أن كلفة الالتزام عالية في السلوك الاقتراعي لليهود الأميركيّين. ويُعوِّل أنزيسكا على اختلاف منهج كارتر من منهج هنري كيسنجر الذي عمل على منح إسرائيل تسويات ثنائيّة منفردة لعزل العنصر الفلسطيني عن أي تسوية، من أجل تسهيل احتلال إسرائيل لأرض فلسطين. رأى كارتر أن منهج كيسنجر لا يمكن إلا أن يثمر «تسوية محدودة» (ص. ١٢)، فيما سعى إلى تسوية تنهي الصراع بين إسرائيل والعرب بالكامل. أي إن منهج كارتر لا يقلُّ فائدة لإسرائيل عن المنهج الأوّل.
لكن رغم الكلام عن حق تقرير المصير للفلسطينيّين، فإن وزارة خارجيّة كارتر لم تكن ترى الكيانيّة الفلسطينيّة - بأي شكل من أشكالها المحدودة - إلا وهي مرتبطة بالأردن، كي يتولّى النظام الذي تمرّس في قتل وقمع الشعب الفلسطيني أمور السياسة الخارجيّة والدفاع لأن ذلك يدخل الطمأنينة إلى قلوب قادة العدوّ - لكن حتى هذا الحلّ كان دون ما قبله العدوّ في حينه (أو في مسيرة أوسلو الشنيعة). ولم تكن الحكومة الأميركيّة في كلامها على انسحاب إسرائيلي من الضفة والقطاع ترتأي ضرورة الانسحاب الكامل من ٢٣٪ من فلسطين، بل تركت دائماً (كما في الإدارات اللاحقة) أمر تحديد مدى الانسحاب لحكومة العدوّ كي تقتطع لنفسها ما تريد من المزيد من أرض فلسطين التاريخيّة. صحيح أن مشروع الإدارة عام ١٩٧٧ كان أوّل مشروع شامل للحلّ (على الطريقة الأميركيّة طبعاً)، كما نبّه أنزيسكا (ص. ٣٢) لكن هذا الحلّ كان منقوصاً في كل بنوده (حق العودة كان رمزيّاً فقط، ويقترح التعويض عن أملاكهم). والقدس تكون غير منقسمة ويكون رئيس بلديّتها يهوديّاً على أن يكون نائبه عربيّاً.
(يتبع في جزء ثانٍ ويتناول موضوع لبنان).

المراجع
1- زئيف شيف سخر من الشكوك العربيّة في مشاركة أميركا للقراء الإسرائيليين في الاجتياح وخفّف من وطأة التواطؤ. راجع زئيف شيف، «الضوء الأخضر»، مجلّة «فورين بوليسي»، رقم ٥٠، ربيع ١٩٨٣، ص. ٧٣-٨٥.
2- أوردت وثيقة لـ«ويكليكس» من ذلك الزمن التصريح المذكور وردود الفعل عليه من السفارة الأميركيّة في بيروت مع كلام نقلته عن بشير الجميّل الذي كان قد عاد حديثاً من زيارة إلى واشنطن ونقل أجواء تُبشِّر بغزو إسرائيل للبنان مع موقف أميركي مُوافِق. وبالفعل، بعد أشهر معدودة فقط غزا العدوّ جنوب لبنان. انظر الوثيقة: https://wikileaks.org/plusd/cables/1977BEIRUT06560_c.html
3- راجع المقالة بعنوان «السلام في إطار دولي»، «فورين بوليسي»، رقم ١٩، صيف ١٩٧٥.
4- اعتبر عالم السياسة كنيث أوريلي في كتابه «بيانو نيكسون»، الذي درس فيه كل المواقف العنصريّة ضد السود عند كل رؤساء أميركا، أن كارتر كان مهملاً للحقوق المدنيّة في إدارته.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)