أصبح لمفردة «لبنان» جملة استخدامات سيئة كما في الحديث عن «اللبننة» لتوصيف أي نظام محاصصة طائفي أو استخدام تعبير «اللبنانيون» للإشارة إلى كبار الفاسدين في أميركا اللاتينية. والآن لدينا الأزمة الاقتصادية التي قد تضيف لمفردة «لبنان» استخداماً سلبياً جديداً كما الحال في مفهوم «المرض الهولندي» أو «أزمة الديون اليونانية». تجاوز «النموذج» اللبناني الذي بني بعد الحرب الأهلية ذروته ويسير نحو الأفول ولهذا المسار ثمن باهظ على شريحة ما أن تحمل قسمه الأكبر بمعزل عن مسؤوليتها عنه.يمكن رصد أربع اتجاهات رئيسية تقارب الأزمة الاقتصادية – المالية التي يتخبط بها النظام اللبناني. الأول يرى أن الخيار الأنسب هو الوصول للانهيار (دعوا النظام ينهار) وثم بناء النظام على أسس جديدة، ومبرّر ذلك أن هذا النظام غير قابل للإصلاح (لأسباب داخلية وخارجية). الاتجاه الثاني يشخّص أزمة النظام كما الاتجاه الأول ولكن يدعو إلى العمل لتغييره عبر الخروج من الطائفية السياسية وإقامة دولة المواطنة. أما الاتجاه الثالث فيرى من الواجب إصلاح النظام كبديل عن تغييره، وإصلاحه ضرورة كونه جرى تأسيسه لإثراء القلة بعد أن بني على افتراضات نيوليبرالية (مثل حرية الأسواق وجذب الرساميل الأجنبية وتحرير التجارة واستقلالية المصرف المركزي وتهميش الدولة والقطاع العام) وممارسات مافيوية. الاتجاه الرابع تتجسد مصالحه في «ترقيع» وإنقاذ النظام القائم لا إصلاحه بذريعة أن النموذج الاقتصادي - المالي الحالي صحيح في ذاته، ولكنه يعاني من انحرافات طارئة عليه وهي ما يلزمها المعالجة الموضعية فتُحلّ الأزمة.
ترتبط هذه التباينات بطبيعة الحال برؤى ومصالح كلّ اتّجاه وموقعه من النظام القائم. أنصار «الانهيار» يجدون في هذا الخيار بديلاً من الثورة المستحيلة، فإن لم يكن ممكناً استئصال النظام من الخارج فيمكن المساهمة بتحفيز تفككه وانهياره من الداخل. يتقاطع أنصار اتجاهي الانهيار والتغيير في اعتقادهم أن الطبيعة الطائفية للنظام مركز أزمته، إلا أن اتجاه الانهيار يرى أن هذه الطائفية لا يمكن معالجتها إلا بعد أن يتفكك النظام من حولها ويتداعى، فيما اتجاه التغيير يرى أن البداية من إلغاء الطائفية فيتحوّل النظام.
يقوم هذان الاتجاهان بتقليص مشروعية نخب النظام السياسي والاقتصادي إلى أقصى حد من خلال تعبئة المواطنين وخلق وعي لديهم تجاه الأزمة وشحن الخطاب الإعلامي والسياسي بالعداء للنظام ونخبته وجذب مجموعات متزايدة إلى خارج طوائفها (بالمعنى السياسي) وتنظيم أشكال من الاحتجاج وعرض للبدائل. هذا الضغط يقلّص هامش قوى الأمر الواقع على القيام بإجراءات «إنقاذية» ويربك أداءها ويزيد من انقساماتها.
يتعرّض أنصار اتجاه الانهيار لأربعة انتقادات رئيسية. الأول أن الانهيار في الحالة اللبنانية من المحتمل أن يكون من دون قعر، أي لا يمكن ضبطه، ومن أمثلة ذلك سعر صرف الليرة الذي في حال أُفلت بالكامل لا يمكن توقّع أين سيستقر نظراً إلى الخلل الهائل في ميزان المدفوعات (العجر في الميزان التجاري لوحده يقارب 17 مليار دولار سنوياً). وثانياً، أن الانهيار سيُلحق ضرراً جسيماً بالشرائح الأكثر فقراً التي لا تحظى بضمانات اجتماعية ولا وظائف مستقرة، وهذه شريحة ربما تعادل نصف اللبنانيين اليوم ولا سيما في مناطق الأطراف. يردّ أنصار اتجاه «دعه ينهار» بأن هذا الثمن ينبغي احتماله على المدى القصير للخروج من الأزمة على المدى المتوسط والبعيد، بدل المساكنة على المدى القصير واحتمال الخسائر على المدى البعيد. ثالثاً، من يضمن أن النظام الناشئ بعد الانهيار لن تشكّله ذات القوى التي تسببت في الانهيار بما لديها من موارد وخبرات ودعم خارجي، ولذا أليس الأفضل الاشتباك معها من داخل النظام والدولة. ورابعاً أن لهذا الخيار مخاطر أمنية في ظلّ أوضاع داخلية وخارجية هشّة.
الجيل الحالي يُراد له أن يعيش مستعبداً ليضمن سداد الدولة لفوائد الدين العام


انطلاقاً من مخاوف الانهيار السالفة الذكر يشرعن أنصار اتجاه الإصلاح مقاربتهم ومشروعهم. يتقاطع أنصار الانهيار والتغيير والإصلاح عند تعريف أزمة النظام لكن تتباين جذريتهم في رفض الوضع القائم. لا ينكر أنصار الإصلاح أن السمة الطائفية تمنع قيام الدولة، ولكنهم يرون أنه يمكن في ظلّ الطائفية إقامة إدارة توافقية حميدة وفعّالة وهو أمر متاح اليوم مع ضعف نخبة الطائف. لذا الإصلاح هنا يجري من داخل النظام كون خيار إسقاطه يحتمل مخاطر اجتماعية واقتصادية عالية وأيضاً لأن جزءاً من تركيبة النظام القائم (توافقيته لا فساده) يلبّي مصالح استراتيجية لقوى الإصلاح.
يطرح الإصلاحيون أنه بدل الاشتباك مباشرة مع الطائفية السياسية يمكن إضعاف أدواتها ووسائلها وقنواتها داخل الدولة من قبيل الفساد والهدر والزبائنية وتركّز الثروة واحتكارها وهي مجالات لا يمكن لنخبة النظام خوض مواجهة علنية للدفاع عنها. يجد الاتجاه الإصلاحي أن الخيار المتاح هو «النضال» من داخل الدولة وذلك من خلال الانخراط في إصدار تشريعات، وإعادة إنتاج الأجهزة الرقابية والقضائية، وتطوير قانون الانتخاب، وتفعيل الإدارة العامة، وتغيير السياسات النقدية والمالية والاقتصادية. بطبيعة الحال يصطدم الإصلاحيون بقواعد وكتل ومصالح في كلّ واحدة من هذه المجالات تسعى لحماية الوضع القائم، إضافة إلى كون هامشهم ليس مطلقاً نظراً إلى ما يربط بعض مصالحهم بمفاصل من النظام القائم.
بمعنى آخر المراد إعادة إنتاج معنى التوافقية في النظام، لا إلغاؤها، عبر: (1) تضييق مساحات التوافق الطائفي بعد ما اعتراها من توسعة مطردة منذ الطائف (لا سيما بعد 2005 و2008)، من خلال إخراج جملة موضوعات إلى خارجها وإخضاعها لمنطق الدولة والصالح العام للمواطنين. وهذا يمكن إنجازه من داخل اتفاق الطائف حتى، من خلال تفسيرات دقيقة أو متحفظة للتوافقية. فلماذا ينبغي التوافق حول تعيينات موظفي ما دون الفئة الأولى أو محاسبة الفاسدين أو التلزيمات أو تقرير السياسات العامة التي لا تمسّ بالطوائف؟ (2) تعبئة الثغرات في المجالات التوافقية المتبقية بدل تركها للاجتهادات وموازين القوى وهو ما يؤدّي إلى تعطيل متكرّر للعملية السياسية كما في الانتخابات الرئاسية أو تشكيل الحكومة أو ضبط مفهوم الميثاقية في جلسات مجلس النواب.
يعتقد الإصلاحيون أنهم - من خلال انخراطهم داخل الدولة - قادرون على خلق مسار للخروج من الأزمة، مراهنين على ترهّل النظام القائم. ومن خلال ضبط قوى الفساد سيكونون قادرين على التفاوض مع مراكز قوى النموذج الاقتصادي القائم، باعتبار أن الطرفين صاغا علاقة تخادم منذ الطائف، طرف ينهب من خلال الفساد وسوء الإدارة وطرف ينهب من خدمة الدين والامتيازات والمضاربات. فالتغيير الجذري للنظام من خارجه يراه الإصلاحيون طرحاً غير واقعي ويمكن أن يؤدي لفراغ خطير أو لإشعال اقتتال طائفي أو لتدخل خارجي.
يُواجَه الإصلاحيون بجملة انتقادات: أولاً أنهم يقومون من خلال محاولتهم الإصلاحية بمنح النظام القائم نوعاً من المشروعية. وثانياً أنهم لن يكونوا قادرين على الإصلاح لأسباب ذاتية وموضوعية ولن تفضي جهودهم إلا لبعض الإجراءات التصحيحية التي ستطيل عمر النظام ومخاطره، فنتجنّب الانهيار على المدى القصير وندفع الثمن على المدى المتوسط والبعيد. ثالثاً، إن قوى حماية الوضع القائم ستجرّ الإصلاحيين إلى داخل لعبة النظام وتسمح لهم باندماج محدود ثم تكبلهم بتقديم تنازلات محدودة لهم.
الاتّجاه الرابع يتمثّل بقوى حماية الوضع القائم (نواتها الزعامات الطائفية وأرباب القطاعات المالية) وهي تتمثّل بمنظومة فاعلة مؤلفة من شبكات متداخلة تضمّ نخباً سياسية وطائفية ومالية ومقاولين وكبار العاملين في أجهزة الدولة (المستويات العليا من موظفي الإدارة والدولة هي صمامات منظومة الفساد لكون شاغليها يستمرون لفترة طويلة في مواقعهم ويبنون شبكات نفوذ ويحركون الموارد ويراكمون الخبرة ومن الصعب استبدالهم) مدعومة بشبكات خارجية من النظام المالي العالمي. يخوض هذا الاتجاه صراعاً ضارياً لمنع أي مسعي إصلاحي جديّ ويصر على أن الأزمة نتيجة انحراف في إدارة الدولة وليس في النموذج. يحاول أنصار الوضع القائم تحويل الأزمة نحو المجتمع (الطبقات المتوسطة والفقيرة) والقطاع العام، فالأزمة، بحسب هؤلاء، هي وليدة تضخّم القطاع العام وكلفته وتقديمات الدولة وضعف الجباية والهدر، وليس في كلفة خدمة الدين أو الخلل في النظام الضريبي أو التدمير الممنهج للقطاعات الإنتاجية.
يتجاهل أنصار هذا الاتجاه أنهم بنوا هذا النموذج الذي أثراهم من خلال التخادم مع منظومة الفساد وأن مصالحهم توسّعت على حساب إضعاف الدولة (إخضاع اقتصاد ومالية الدولة للجهاز النقدي) والتدمير الممنهج للقطاع العام والمؤسسات العامة الخدمية (كهرباء، مياه) وبناء أجهزة موازية للوزارات بمسميات مختلفة (مقدمو الخدمات، مجالس، صناديق). يعمل هؤلاء بمساعدة نخبة النظام على تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح، قبل الأزمة يسيطرون على معظم موارد الدولة وبعد الأزمة يطلبون منا جميعاً حمل العبء الأكبر من الخسائر. يعاني أنصار هذا الاتجاه من أن قاعدتهم الاجتماعية في انكماش مستمر، إضافة إلى أن مساعيهم «الإنقاذية» تصطدم بالحاجة لتوافقات واسعة وعميقة تطلب وقتاً في حين أن كرة الأزمة تتدحرج بشكل متسارع جداً.
الحدود بين هذه الاتجاهات الأربعة ليست ساكنة تماماً بل تتداخل أحياناً أو يحصل نوع من السيولة خاصة تحت وطأة الأزمة الحالية، حيث مثلاً يبدي بعض «الجذريين» من الاتجاهين الأول والثاني مرونة تجاه طروحات الاتجاه الإصلاحي، أو يقبل بعض أنصار الوضع القائم بتطبيق إجراءات تصيحيحة في النموذج بدل التشبث الصلب في الخندق الدفاعي. لكن يبقى تباين المصالح العميقة بين هذه الاتجاهات الأربعة واضحاً ويزداد بروزاً.
ثلاثون عاماً على نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، الجيل الذي ولد مع نهاية الحرب واعتُبر محظوظاً كونه تجنّب ويلات الحرب يكتشف اليوم أنه في معظمه عاجز عن العمل والزواج والسكن والحياة الكريمة، وبعكس جيل الحرب عاجز أيضاً عن الهجرة. جيل الحرب كان دوره أن يقاتل ويموت لأجل زعماء الطوائف وأمراء الحرب، أما الجيل الحالي يُراد له أن يعيش مستعبداً ليضمن سداد الدولة لفوائد الدين العام لزعماء الطوائف وشركائهم وحواشيهم. نحن في سباق كبير، ولا خيارات سهلة أو مضمونة أو مريحة، هناك ثمن مؤلم ويجب دفعه، ما هو ومن سيدفعه وإلى متى؟ هذا ما سنكتشفه من الآن حتى الانتخابات النيابية المقبلة بعد سنوات ثلاث، وجيل ما بعد الحرب الأهلية هو بالتحديد أمام لحظة اختبار جدية، وربما أمام فرصة أيضاً.
* أستاذ جامعي