كان سؤال «لماذا يكرهوننا» موجّهاً من أميركا الرسمية إلى ضحاياها، وخصوصاً الشعوب العربية والمسلمة، وكان أقرب إلى التغابي منه إلى الاستفهام. لكن الآن يدور سؤال «لماذا يكرهون ترامب؟»، مع غبار معركة من الجدل داخل النخبة الأميركية المتنفذة نفسها، وصلت حدّتها إلى درجة السعي العلني لإطاحة الرئيس الحالي. فقد وصل التشنّج لدى أنصار الرئيس وخصومه مرحلة ربما لم يصلها أي رئيس من قبل في تاريخ الإدارات الأميركية، تمثّل في أحد مظاهره بشعور رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، المتحدثة باسم جبهة خصوم الرئيس، بانفعال شديد في وجه أحد الصحافيين، وهي تدفع عن نفسها شبهة «الكراهية الشخصية لترامب». لكن هل توجد، بالفعل، مثل هذه الكراهية في أوساط هذه النخبة؟ الإجابة هي «نعم»! بل ثمة إمارات عديدة على أنه حتى المدافعون عن ترامب يتمنّون لو أنهم يتخلّصون منه، من دون إراقة ماء الوجه، أي من دون أن يتكبّد الحزب الجمهوري الثمن السياسي لذلك.
السبب الأساسي للرغبة في التخلّص من ترامب ليس مخالفته لقواعد الحكم أو أخلاقيات السياسة في الولايات المتحدة، كما يُعلن المطالبون بتنحيته، بل التزامه بتلك القواعد والأخلاقيات بشكل فجّ. والفجاجة هنا لا تعني تصريحاته فقط، بل عمله السياسي بالتحديد.
إنّ الغلط الكارثي الذي لا ينفك يمارسه ترامب، يومياً، والذي أصاب مراكز النفوذ بحالة من الصدمة، هو خلع كل الأردية الدبلوماسية والبلاغية التي كانت السياسة الأميركية، تقليدياً، تستخدمها طوال تاريخها أثناء رعاية مصالحها حول العالم. لقد أساء ابن السوق المتحذلق إلى «صورة» الولايات المتحدة، من حيث قَدّر أنه ينفعها. إنّ تلك «الصورة» الزاهية، المخصّصة للتصدير الخارجي، والمصنوعة بمُثُل وقيم يحلم بها كل شعب: الحرية، الديموقراطية، الحقوق المدنية... كانت لافتة برّاقة تُشَن باسمها، وتحت غطائها، الحروب، وتُنتهك البلدان ويُقتل الناس وتُنهب الثروات. ثمّ جاء «على آخر الزمن» رئيسٌ مهرّج ليكشف على الملأ، أنّ تلك المثل العليا هي أكاذيب الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وأنه، شخصياً، سيشنّ الحروب على البلدان، لا باسم أي حرية ولا أي ديموقراطية (فأبناء تلك البلدان «متخلّفون لا يعرفون ما هي الديموقراطية»، كما وصفهم في حديث تلفزيوني)، ولكن ــ ببساطة ــ لكي «يأخذ أموالهم»! (في الحقيقة، هو يوفر، بفجاجته هذه، على اليساريين جهداً كبيراً، ويكشف، بالنيابة عنهم، ومجّاناً، حقيقة اللعبة).
وحيث كان باراك أوباما يعامل ملك السعودية بوقارٍ مبالغ فيه، سحق ترامب كرامة الملك السعودي سحقاً مبالغاً فيه! نعم، كلاهما كان يصل إلى النتيجة نفسها (نأخذ أموالهم!)، ولكن الأول كان ــ مثل أي رئيس أميركي مهندم ــ يؤدّي واجباً وطنياً: تلميع الصورة، أي الكذب اليومي، فيما جاء الثاني ليحطّمها كطفل في حالة هياج. وقل الأمر نفسه عن موضوع الصين، فقد كان الرؤساء السابقون يتصارعون مع العملاق الاقتصادي كما يتصارع ترامب معه الآن. ولكن الأولين كانوا يتحرّكون وفق دراسة معيّنة، انطلاقاً من واقع تَناسب القوّتين الاقتصاديتين في السوق العالمية، فلا يتّخذون خطوات مضادة يعلمون أنّ لها ارتدادات محتملة تضرّ بالاقتصاد الأميركي نفسه. أمّا ترامب، فيتخذ مثل هذه الخطوات بجعجعة متواصلة، لكن فارغة من أي مكاسب حتى الآن، ويبدو أن كل ما يسعى إليه في مفاوضاته الحالية مع الصينيين، هو البحث عن مخرج من حرب التعريفات الجمركية التي بدأها بنفسه، ولم تثمر أي نتيجة.
إضافة إلى ما سبق، لعلّ من خفايا الأمور وراء شعور الكراهية تجاه ترامب داخلياً، هو اتّباعه لمَثيلهِ في الحماقة، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في ما يخصّ القضية الفلسطينية. لم يخسر نتنياهو شيئاً من فجاجة ترامب، في دعم الصهيونية، لكن أميركا الرسمية هي التي خسرت الكثير. صحيح أن دور الصهيونية في السياسة الأميركية، وفي عملية انتخاب الرئيس، معلومة معروفة وعلنية، ولكنّ ذلك لم يمنع أميركا الرسمية يوماً من فرض «صورتها المثالية» على الفلسطينيين والعرب، عبر تمثيل دور «الوسيط!». بهذه اللعبة، لم تحافظ الولايات المتحدة على تدفّق خيرات البلدان العربية إلى خزائنها وحسب، بل كان لدى حكّام المنطقة ذريعة ــ رغم ضعفها ــ وتبريرٌ أمام شعوبهم ــ رغم سخفه ــ لخضوعهم للمشروع الصهيوني وتنفيذهم له كأدوات ليس غير (وإن تظاهروا بأنّهم «أطراف» في الصراع). الآن، لم تعد هذه «الرفاهية» متاحة لهم، ذلك أنّ صراحة ترامب الصادِمة لم تترك أي مجال للتملّص من غضب الشعوب العربية. ومرة أخرى، الصراحة لا تعني هنا تصريحاته فقط، بل أعماله السياسية التي كان أكثرها رعونة الاعتراف بالسيطرة الإسرائيلية على القدس ونقل السفارة الأميركية إليها، وصولاً إلى نشر تفاصيل «صفقة القرن». كلّها أعمال جاءت، وستأتي، نتائجها كارثية على الولايات المتحدة قبل غيرها: فقد عُزلت هذه الأخيرة دولياً، كما أنها أُخرجت من دائرة التأثير الفعلي في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، بعدما قَدّر ترامب أنه ــ بأسلوبه وتصرّفات الأمر الواقع ــ يقوّي هذا التأثير.
إنّ النخبة السياسية المتنفّذة في الولايات المتحدة ليست بجاهلة للعواقب السياسية للدعم الأميركي الأعمى للاحتلال الإسرائيلي. فعقود من الثورات والانقلابات في العالم العربي، على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي، هي ــ في التحليل الأخير ــ نوعٌ من ردود الفعل الجماهيرية على هذا الدعم. فكيف وقد أخذ هذا الدعم شكل خرقٍ صارخٍ لكل الاتفاقيات، التي رعتها أميركا نفسها بين طرفي الصراع، وأيضاً لكلّ القرارات الدولية ذات الصلة؟
لقد وضع الطفل الأهوج دونالد ترامب نهاية لكل التزويق الذي دأب عليه سابقوه بلا استثناء. كانت هذه هي وسيلته الشعبوية للفوز في الانتخابات، ولكنّها الآن أصبحت عالة على النخبة المتنفّذة.
*كاتب عراقي