كل سلطة تزداد إمكانية انحرافها نحو المصالح الضيقة بمقدار ما تتحرر من الضوابط، وكل سلطة تسعى للتوسع والتمدد ما لم ترسم لها سلطة أخرى حدوداً. فالسلطة عادة ما تتحرك في اتجاهين متعارضين، تزداد تركزاً وضيقاً في داخلها فيما تسعى لأن تزداد اتساعاً وشمولاً في خارجها (البعض يسميه الجوع الطبيعي للسلطة) وكلما سارت السلطة في هذا الطريق تحوّلت إلى سيطرة. وفي لحظة ما وسياق ما يتحوّل هذا التعارض إلى مقتل لصاحبها. لذلك كثرت النظريات التي سعت لتنظيم السلطة السياسية بالتوازن والرقابة والمداولة. فأصل المشكلة ليس في السياسيين أنفسهم بالضرورة، بل إن تبنينا النظرية الموقفية في علم النفس السياسي (الوضع الذي أنا فيه يحدد سلوكي) فإننا حتى إن وضعنا شخصاً صالحاً في سلطة منفلتة فستزداد حظوظ انحرافه بمرور الوقت. فكيف إن كان من أتيت به للسلطة يراها مجرد غنيمة له ويفتقد ثقافة الخير العام وقليل التدبّر وقصير النظر.

هذه الدينامية لانغلاق السلطة على نخبة قليلة تستفيد مما يُسمى «قانون القصور الذاتي» الناتج عن رغبة الجمهور بالحفاظ على أولئك الموجودين في رأس الهرم القيادي نتيجة خليط من العاطفة التقليدية والرغبة بظروف مستقرة. يطوّر روبرت ميشالز هذا القانون حيث يضيف إليه وجود ميل متنامٍ لدى النخبة من صناع القرار لملء مراكزهم بوسائل الامتياز ولممارسة قوتهم المالية وهكذا تتحول هذه النخبة إلى «طبقة مقفلة». وحينها حتى الانبعاث المتواصل لقوى المعارضة لن يستطيع تغيير هذا الميل. فالمعارضة يجري إما احتواؤها وإما تكسب وحينها تتغير طبيعتها حتى تصبح غير قابلة للتمييز عن القيادات القديمة. وهكذا يستخلص روبرت ميشيلز «القانون الحديدي للأوليغارشية» وبمحصلته يصبح ثوريّو الحاضر رجعيي المستقبل.
هذه هي معضلة الكثير من النخبة السياسية في لبنان، فهي لديها كل الشروط التي تتيح لها أن تكون سيئة بل شديدة السوء بلحاظ معيار تحقيق الصالح العام. ربطاً بالمقدمة، لماذا لن يحاول السياسي الذي يأمن من الرقابة والمحاسبة والمداولة استغلال السلطة لخدمة مصالحه الضيقة إلى أقصى حد ممكن؟ وتزداد مشروعية هذا السؤال كلما كانت البيئة السياسية صراعية وتفتقد للآليات المؤسساتية التي تفرض الرقابة والتوازن داخل المجال السلطوي. يمكن أن يكون الجواب من منظار عقلاني بأن السعي للمصالح الضيقة يجب أن يكون له حدّ حتى يستطيع السياسي ضمان بقاء مصادر الثروة والسلطة لينتفع منها بدل تجفيفها بالكامل. والرد هنا أن هذه العقلانية تكبحها آليات السلطة نفسها حيث تخنقها شبكات مصالح الأقربين التي تحيط بصاحب القرار ومخاوفه من منافسيه وعزلته بمرور الوقت، بعد تحوّله إلى أسطورة، عن الأصوات العاقلة التي تصمت إما خشية وإما يأساً وإما استبعاداً من شبكات المصالح أعلاه، عدا ميله النفسي للتجبّر والإنكار.
كيف يمكن تفسير سوء أداء صنّاع القرار في لبنان بما أوصل إلى هذا الانهيار ثم إدارته بهذا الشكل الكارثي؟ باختصار، لماذا من الطبيعي أن يكونوا بهذا السوء؟

أولاً: بُنية النظام وإرث الحرب
جزء كبير من الطبقة السياسية التي أدارت المجال السياسي بعد عام 1992 هم نتاج الحرب الأهلية اللبنانية، هم المنتصرون فيها أو الناجون منها. والأهم أن هؤلاء مثلوا جماعات لطالما كانت على هامش النظام السياسي منذ استقلال لبنان ولذا كانت حوافزهم لافتراس السلطة عالية مدفوعة بمشاعر متراكمة من التهميش والإقصاء من ناحية وبحسابات القلق والخوف نتاج المناخات الإقليمية الدائمة التوتر والصراع من ناحية ثانية. لم تنته الحرب بانتصار طرف واحد أو ائتلاف واحد لديه مقاربة لبناء الدولة وسعى إلى تطبيقها بل جرى إنهاء الحرب بتكريس فكرة ميثاقية الطوائف أي توافق رموز الطوائف المحمي بالتشبيك والتخادم مع المنظومة الاقتصادية والمالية لما بعد الاستقلال وامتداداتها الخارجية (المصاهرات بين المستويين السياسي والمالي تفسّر الكثير). الاستدلال الأبرز على ذلك هو الإطاحة بالمرحلة الانتقالية ومستلزماتها عام 1992 وهي التي كان يُفترض أن تنتهي عام 1994 بإقرار عدد من القوانين الإصلاحية التي ترتبط بإعادة توزيع السلطة والثروة.
كان مفهوم الدولة وتجربتها في لبنان جنينياً ولا يزال. ولذا كان سعي السياسيين لتحقيق الصالح العام مضطرباً تحت سطوة المصالح الخاصة والضيقة. مرّ في تاريخ لبنان رجال دولة على شكل ومضات لم تكن كافية لإقامة الدولة، في حين أنه لا الخارج أراد قيام دولة ولا امتيازات أصحاب رؤوس الأموال ولا المنتفعون من الطائفية. أما القدرة على الحكم فكانت مرتبطة بوجود مركز قوي في قلب النظام، مثل رئيس الجمهورية في بعض الفترات قبل الحرب الأهلية أو الإدارة السورية بعد الحرب الأهلية. وحين كان يتراجع هذا المركز القوي تتبعثر سلطته على مراكز قوى الأمر الواقع التي تتأثر قدرتها على إنجاز توافقات بينية بحدّة الصراع الخارجي والداخلي على المصالح والموارد.
إذاً يتصف الواقع اللبناني بغياب مفهوم الدولة، ووجود بيئة للصراع الداخلي الدائم، وتأصّل بنية الدويلات وسطوة شبكات رؤوس الأموال وامتيازاتها. وهذه ليست أموراً قهرية بل نتاج تفاعل النخبة اللبنانية نفسها منذ قيام لبنان الكبير، تفاعلها البيني وتفاعلها مع الخارج وهنا مربط مسؤوليتها. ولذلك لا يمكن للنخبة اللبنانية التذرّع بأنها كانت مكرَهة على التصرف بطريقة معينة لأن بنية النظام لها شكل محدد، فبنية النظام إلى حد بعيد هي نتاج التفاعل المستمر بشكل معين بين هذه النخب السياسية والمالية والاقتصادية والطائفية وبينها جميعاً مع القوى الخارجية. إن دور الخارج العميق في لبنان يجب أن لا يتحوّل في أي وقت إلى ذريعة تبرر ارتكابات قوى الداخل، فالسياسي الذي انخرط فيما يفرضه الخارج مدان فكيف إن كان انتفع منه وتخادم معه لأجل مصالحه الضيقة.

ثانياً: الرعاية الخارجية للنظام والزعامات
هذه الرعاية مع ما وفّرته من موارد ودعم جعلت السياسيين أكثر قدرة على المغامرة باستغلال تدميري للدولة والمجتمع ثم الرهان على عدم دفع الثمن. ولذلك كان يمكن لهم ارتكاب كل هذه السياسات الكارثية بدل السعي لاسترضاء الناخبين أو المجتمع وهم يأمنون المساءلة ويتوقعون جرعات من المساعدات الدورية على شكل قروض أو استثمارات أو «هبات» وتمويلات. وإن كان الكثير (خطان تحتها) من الهجوم الداخلي على المقاومة له صلة بمشاريع خارجية (أغلبها معلن)، إلا أن باقي النخبة السياسية وعبر ارتباطها بالخارج وكثرة تدخلاته كان يمكن لها تصوير أية معارضة داخلية على أنها مجرد استهداف خارجي بما يُقيد إمكانية محاسبتها.
تمكّن الأكاديمي شون يوم (أستاذ مساعد مختص بالسياسات المقارنة والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط) من خلال كتابه «من الصمود إلى الثورة، كيف زعزعت التدخلات الخارجية الاستقرار في الشرق الأوسط» (كولومبيا يونيفرسيتي برس، 2006) من الربط بين استمرار الأنظمة السياسية بشكل مستقر والدعم الخارجي. يثبت البحث كيف أن عنصراً في المنظومة الدولية، مثل دعم قوة كبرى، يؤثر في المخرجات المحلية في دول مختلفة من خلال تشكيل القرارات التحالفية التي تؤخذ خلال ولادة نظام سياسي جديد. وميّز الكاتب بين عدة أشكال من تأثير العامل الجيوبوليتيكي على بناء الدول وأنظمتها السياسية.
الشكل الأول مرتبط «بالعزلة الجيوبوليتيكية والنظام المستدام». هذه الأنظمة لم يتوفر لها دعم خارجي كافٍ (بسبب أهميتها المحدودة أو رفضها ذلك) فاضطرت للقيام بمساومات وإصلاحات داخلية (ربطاً بتوزيع السلطة والثروة) تسمح للمعارضين بالاندماج في النظام السياسي وبناء تحالفات أوسع (الكويت نهاية الثلاثينيات). هنا يتحول الأفراد إلى رعايا لديهم مكتسبات مادية ورمزية في النظام السياسي الجديد، ولكن الإصلاحات لا تعني التخلي عن أدوات القمع لاستخدامها حين يتجاوز المجتمع التفاهمات المتبادلة. هذه الاستثمارات في بناء التحالفات رغم أنها مُقيدة ومكلفة ولكن مردودها سيظهر بعد عقود خلال الأزمات الحادة (انهيار اقتصادي أو صراع عسكري). فهذه التحالفات تقلل احتمال لجوء المواطنين لمقاومة النظام من ناحية وكذلك تسمح بظهور معارضة معتدلة من ناحية ثانية (يتحول السؤال من إذا كان يحق للنظام أن يحكم إلى حول كيف يحكم). وفي هذه الحالات يكون القادة بحكم قربهم من الناس ومعرفتهم بهم أكثر ميلاً للإجراءات غير العنيفة لمعالجة السخط الشعبي قبل أن ينتشر ويتطرف (مثل إطلاق وعود موثوقة بالإصلاح السياسي والتواصل مع المعارضة).
العلاقة بين الخارج والطائفية ورأس المال شديدة الصلة. لقد رعى الخارج وجود نخبة مالية وسياسية عصية على المحاسبة لتكون قادرة على مجاراة مصالحه حتى النهاية


أما الشكل الثاني فهو «الاستبدال الجيوبوليتيكي والانهيار الثوري» وهو يتحقق في الأنظمة التي كانت تتلقّى رعاية خارجية (دعم مالي وأمني) لأسباب جيوبوليتيكية فلم تجد ذاتها مضطرة للقيام بإصلاحات، بل عزّزت من بناء مؤسسات إقصائية وفضّلت العنف للتعامل مع المعارضين. وهكذا تقلل الرعاية الخارجية من كلفة القمع فتصبح السلطة أقل رغبة بالمساومة. فبدل التنازل عن الصلاحيات والموارد ومشاركتها مع عدد إضافي من اللاعبين تلجأ السلطة إلى استعادة النظام من خلال العنف والإكراه وبمجرد نجاح ذلك تراه الاستراتيجية الأفضل بدل المساومة. تتعرّض هذه الأنظمة على المدى البعيد للاهتزاز والصراعات أكثر بكثير من أنظمة الحالة الأولى. ففي هذه الأنظمة تتجه السلطة والموارد إلى المزيد من التركيز بيد القلة وتتسع المسافة بين المجتمع والسلطة وبذلك تنمو «الثورة» في رحم التهميش والاستغلال. ولذلك حين تنفجر أزمة كبرى سيبدو النظام وحيداً وفاقداً المصداقية لتقديم أية تنازلات على شكل وعود إصلاحية مع معرفة قليلة بكيفية التفاهم مع المعارضة (تجربة إيران الشاه).
لبنانياً ومنذ انكشف جبل لبنان لتدخل خارجي واسع في منتصف القرن التاسع عشر، أتقنت النخبة اللبنانية اللعب مع القوى الخارجية وإغواءَها وكانت تتوسّل تعظيم التدخل الخارجي لزيادة مصالحه في الداخل وتالياً التزاماته بحمايتها ودعمها، وبذلك تصبح أقل حاجة إلى التحالفات والإقناع والرضا الشعبي وقادرة على التفرد والاستحواذ دون خشية من المحاسبة أو التغيير. وفعلياً بنت القوى الخارجية شبكات متينة من المصالح عبر النخب اللبنانية ضمن منافسات توازن القوى الإقليمي والدولي مع محاولة كل دولة حماية حلفائها، وكانت ذروة ذلك نزول القوات الأميركية والفرنسية في لبنان أكثر من مرة لحماية الوضع القائم ومؤتمرات «إنقاذ» لبنان أكثر من مرة أيضاً (مثل سلسلة مؤتمرات باريس). ويصل الأمر أن تتواطأ النخبة اللبنانية أحياناً في لعبة تصعيد بينية محسوبة لاستدراج الوسطاء الخارجيين لإعادة إنعاش الوضع القائم المتهالك من النهب وسوء الإدارة والاختراق الخارجي.
ومن هنا وُجدت الفكرة القائلة بأن القوى الخارجية لن تسمح بانهيار لبنان لما لها فيه من استثمارات ومصالح. بالمناسبة بقاء هذه الفكرة يشير إلى أن النخبة اللبنانية كانت غافية حين كانت السياسة الدولية والإقليمية تتغير في السنوات الأخيرة. إن تشظي القوة بين القوى الدولية والإقليمية وحدة انقساماتها، وتراجع دور لبنان في حسابات قوى أساسية وعمق مأزقه وصعوبة السيطرة عليه بفعل المقاومة، كل ذلك جعل العديد من القوى الخارجية إما أن تراهن على الانهيار أو تغامر بحدود ما منه أو أن تعجز عن التدخّل لضبطه. إضافة إلى أن بعض القوى الكبرى أخذت خطوة أو أكثر بعيداً عن حلفائها التقليديين بعد أن تحولوا إلى عبء كبير وبدأت تدعم نخبة جديدة موازية حتى تقدّم نفسها للشعب اللبناني الساخط على أنها بريئة من الانهيار وترغب بالإصلاحات استعداداً لإدارة المرحلة المقبلة.

ثالثاً: التمترس الطائفي
تتيح الطائفية، ولا سيما بعد الحرب الأهلية التي كرّست هيمنة عدد محدود من الزعامات على مجالها الطائفي، حصانة متقدمة للنخبة السياسية. من خلال التمركز داخل البنية الطائفية يضيق مجال المشروعية الشعبية المطلوبة، يكفي السياسي رضا جماعته الطائفية أو أكثريتها بالتحديد. وهكذا تصبح الكثير من الأفعال غير المشروعة من ناحية وطنية متاحة وممكنة لو أنها أنتجت ما يمكن ترويجه باعتباره مكسباً للأكثرية داخل الطائفة، ولو لم يكن كذلك واقعاً. عبر وضع الطوائف بعضُها مقابل بعض، أصبح مفهوم «وحدة الطوائف» هو الدينامية المنتجة لكل شيء آخر. هذه السطوة للبنية الطائفية تتيح لرجل السياسة مصدراً رمزياً هائلاً لتحصيل المشروعية بكلفة قليلة وتعفيه من آليات المحاسبة، ولا سيما متى أصبح شخصه يعادل الطائفة، كرامتها من كرامته ووجودها من وجوده (ولو كان علمانياً أو ملحداً حتى) في تصورات كتلة وازنة من مجتمعه الطائفي. هنا يستفيد الزعيم السياسي بالتحديد من النخبة الدينية والثقافية والفكرية داخل طائفته لتتولى تقديم رواية عاطفية وأسطورية عنه فلا يعود قابلاً للمس.
وحين يدرك السياسي منافع الطائفية الجمّة يزداد شراسة للتقدم في هرم سلطة الطائفة، ولهذا يحتاج إلى الموارد أكثر ليبني شبكات النفوذ والتأثير والأتباع والمناصرين. تتأتّى هذه الموارد من خلال السطو على الدولة والمال العام أو الدعم الخارجي. ويجري ذلك من خلال بناء شبكة شراكات مع أصحاب رؤوس الأموال وكبار التجار والمقاولين ومنحهم شروطاً تفضيلية عبر مؤسسات الدولة لمراكمة الثروة، ونيل امتيازات داخل المؤسسات الرسمية وتلك الموازية لها التي تنخفض فيها الرقابة إلى الحد الأدنى. هذه كلها تدفع السياسي للانزلاق بدون قيد نحو مصالحه الخاصة التي تصبح قناة أساسية مع قاعدته الشعبية (وتتقزّم مصادر المشروعية الأخرى). إلا أن إحدى المعضلات أنه بمرور الوقت تكتسب الشبكات المحيطة بالسياسي نوعاً من النفوذ تجاهه فتزيد من تمركز الأرباح لديها وتقل حصة القاعدة الشعبية الحاضنة من فتات الزبائنية.
وهنا العلاقة بين الخارج والطائفية ورأس المال شديدة الصلة. انتفع الخارج ورعى وجود نخبة مالية وسياسية عصية على المحاسبة لتكون قادرة على مجاراة مصالحه حتى النهاية. لنأخذ المثال الأميركي استناداً إلى كتاب إيرين جيندزير بعنوان «ملاحظات من حقل الألغام: تدخّل الولايات المتحدة في لبنان والشرق الأوسط 1945 – 1958» (كولومبيا يونيفرسيتي برس، 2006). تجادل الكاتبة أن واشنطن وجدت في النظام الطائفي اللبناني «أمراً مفتاحياً لحماية الوضع القائم في فترة تغيير سياسي محتدم وصراعات تؤثر في المنطقة». في هذا السياق جرى تطوير «اتفاق ودي» بين شبكات من علاقات قائمة على الحماية والتربّح، وهذه خاصية للسياسة الخارجية الأميركية في مرحلة ما بعد الاستعمار. أدى هذا الأمر إلى تقوية سلطة النخب المحلية اللبنانية مسنودة بترتيبات عسكرية وأمنية أميركية ضخّمت قدرة النخب على التحكّم بالسياسات المحلية.
وتشرح جيندزير أن قطاع النفط الأميركي وداعميه في وزارة الخارجية الأميركية وجدوا مصلحة واضحة للتعاون مع البرجوازية اللبنانية التجارية والمالية نظراً إلى تأثيرها على اتجاه الدولة والإقليم بما يناسب المصالح الأميركية. ومن ناحية طبقية كان هؤلاء معادين للحركات الديمقراطية والإصلاحية والاشتراكية والوطنية، أي أن هذه النخبة «لم تشكّل مشاكل للقيادات الأميركية السياسية والتجارية». لكنّ واشنطن كانت تدرك مخاطر النظام لناحية الفساد المستشري وهشاشة الإجماع الوطني، وقد ناقش الأميركيون ذلك ولكن أي نقد كان «لا مبرر له» حيث إن دعم أميركا في لبنان كان يستند إلى هذه الطبقة وهذا النظام وذلك في مرحلة تدخّل أميركي متزايد في المنطقة وتدخّل سري في سوريا وحاجة إلى إدارة أزمة السويس 1956.
التفتت الكاتبة إلى أمر غاية في الأهمية لبحثنا هنا. تجادل جيندزير أن الطائفية لقيت تقديراً كاملاً من المسؤولين الأميركيين الذين أدركوا حسناتها لمصلحة سياسات بلدهم. وتستشهد بتوصية من مجلس الأمن القومي عام 1958 مفادها «التأكيد داخل لبنان وخارجه على قيمة لبنان كتجربة ناجحة جداً حيث يعمل أناس من أديان وثقافات متنوعة معاً ودياً وبشكل فعّال لتطوير بلدهم». لكنّ الكاتبة لاحظت أن هذا المديح للطائفية ناقض تقريراً مماثلاً صدر عام 1952 حيث كان الامتداح للطبقة التجارية لكون مواقفها السياسية علمانية وتحل اختلافاتها وتتعاون بتناغم لتحقق تبادلات مربحة. وتفسّر هذا التحوّل بأن واشنطن أدركت أهمية النظام الطائفي في حماية الوضع القائم في بيروت كما ترغب به. وتصل الكاتبة إلى نتيجة مفادها أن هذا المديح الأميركي للطائفية كان بهدف أن تبدو الانتقادات الموجهة من المعارضة اللبنانية إلى النظام اللبناني على أنها موجهة نحو طائفية أصيلة حامية للاستثنائية اللبنانية وتوجهها الغربي.

خاتمة:
إذاً المزايا الخاصة بالتجربة اللبنانية تتيح فرصاً للنخبة السياسية لأن تكون سيئة إلى هذا الحد بكلفة محدودة. وهذه المزايا لم تُفرض ولا نتاج مصادفات بل إن النخبة نفسها ساهمت في إنتاجها بدرجة ما. من مسؤولية السياسي أن يتصف بصفات أخلاقية وقيمية تجعله يلتزم بالمصالح العامة والخير العام، ومن مسؤولية السياسي أن يطور آليات النظام بما يضمن أن يعمل بطريقة تخدم مصالح مواطنيه، ومن مسؤولية السياسي أن يتفاعل مع أقرانه ومع الخارج بما يخدم معايير العدالة والمساواة والحرية والاستقلال، ومن مسؤولية السياسي أن يناضل لإحداث التغييرات التي تضمن ذلك ويخاطر بتحمّل الأعباء والأثمان بدل أن يختار الانتهازية، ومن مسؤولية السياسي أن يكون بعيد النظر ولا يستسلم للمكاسب الآنية الضيقة على حساب تدمير مستقبل بلاده ومجتمعه. وإن كان الناس مسؤولين ومطالبين بتحصيل الوعي والنضال لأجل قضاياهم ولكن مسؤولية الأزمة هي في الأساس مسؤولية النخبة، فالجماهير ليست من تحرّك التقدم أو الإصلاح أو التغيير، هذه مسؤولية النخبة التي تصدّت لقيادة المجتمع وطرحت الوعود والشعارات.
إن كنا نريد للسياسيين، مطلق سياسيين، أن يتغير أداؤهم فيجب أن يصبحوا عرضة للرقابة والسؤال والمحاسبة والمداولة، وهذا يكون من خلال تعزيز مشاركة المواطنين وقدرتهم على إنتاج السلطة وتنشيط المنافسة داخل المجال العام وتطوير النظام السياسي وتحرير المؤسسات الرقابية والقضائية. وهذا كله يستوجب الحد من نفوذ الخارج في لبنان وتقويض الطائفية وضبط سطوة رأس المال، هذا ما نعبر عنه بالعقد الاجتماعي الجديد. ما تقدّم لن يتحقق بدون نضالات مضنية وأثمان باهظة تفرض تغييراً في موازين القوى ناتجاً عن معركة ما أو انهيار ما. إذاً الأزمة ليست أخلاقية في المقام الأول بل في الشروط المادية المُنتجة للسلطة والنخب. يجب أن يخاف السياسيون وأن يقلقوا بأن أيّ شيء لن يعود مضموناً لهم سلفاً، ويجب أن يصبح متاحاً للسياسي الجيد أن يطرد السياسي السيّئ من «السوق». هناك اقتباس لجيمس كلارك (مؤلف وكاتب أميركي) يوضح الفارق بين هذين النوعين من السَّاسة: «الفرق بين السياسي ورجل الدولة أن السياسي يفكّر بالانتخابات المقبلة ورجل الدولة يفكّر بالجيل التالي».
* أستاذ جامعي