هكذا، تبدو إسرائيل أقرب إلى جماعات منفصلة أو شبه منفصلة عن بعضها، تسعى كلّ منها إلى استحصال ما أمكنها في ظلّ حكومة نتنياهو، بما يشمل مطالب من شأنها الإضرار بـ«الدولة ونسيجها العام وحوكمتها». وبات أكثر من نصف الجمهور اليهودي، بالفعل، يستشعر قلقاً من أن تستغلّ الحكومة الجديدة تسلّمها السلطة لإطاحة النظام القائم، والدفع بنظام بديل قائم على التعصّب والفاشية والمصالح الشخصية والاستبداد والأحكام التلمودية، والتثمين المفرط للذات بالاستناد إلى اعتقاد بالتفوّق والتفرّد و«حبّ الإله الخاص» لجماعاته اليهودية، وتفضيله إيّاها على الجماعات الأخرى الدونية والهامشية. ومن هنا، يبدو ذلك القلق مبرَّراً، خصوصاً أن من يتوعّدون بتلك الإجراءات يمتلكون القدرة على تنفيذها، لكن هل يكفي اجتماع النيّة والسلطة لتمكينهم ممّا يريدون؟ الإجابة هنا ليست قاطعة، بل غير مرجَّحة.
عام 1977، طرأ تغيّر كبير على الحياة السياسية الإسرائيلية، تَمثّل في انتقال حزب «الليكود» اليميني من المعارضة إلى السلطة، وتسلّم مناحيم بيغن هذه الأخيرة، وسيطرته ومعسكره على «الكنيست» حيث تستولد إسرائيل قوانينها. آنذاك، وكما هو الحال الآن، عبّر نصف الجمهور الإسرائيلي عن قلقه من وصول متطرّفين إلى مراكز القرار، وصولاً إلى وصْف هؤلاء بـ«الفاشية المتسلّطة» التي ستعمل على ضرب حزب «العمل» وشركائه، والتوجّه المعتدل والوسطي واليساري، وكذلك النُّخب الإسرائيلية على اختلافها. لكن سرعان ما اتّضح أن بيغن أكثر ليبرالية ممّن سبقوه؛ إذ حافظ على قواعد اللعبة الداخلية، كما صان مؤسّسة القضاء ومنَع زعزعة مكانتها وقدرتها على ضبْط اللعبة السياسية، بل إنه استطاع فعْل ما عجز عنه حزب «العمل» تاريخياً، عبر تحييد مصر عن الصراع العربي - الإسرائيلي.
على أن حكومة إسرائيل الحالية قد تكون مختلفة، بل قد لا يمكن تشبيهها بأيّ من الحكومات السابقة. وفي هذا، يُشار إلى الآتي:
- كان قرار حكومة بيغن في ذلك الوقت، «ليكودياً» بحتاً، مع إسناد من جانب الشركاء الذين اكتفوا بفُتات المصالح في المقابل. أمّا اليوم، فإن نتنياهو هو الذي يمثّل موضع ابتزاز، فيما حلفاؤه بأيديهم أوراق قوّة تتعلّق بمصيره السياسي، وربّما الشخصي أيضاً، ما يدفعه إلى التضحية بمصالح كبرى لـ«النفاد بجِلده».
- في الموازاة، لم تَعُد «الصهيونية الدينية» التي كانت ممثَّلة في عهد بيغن في حزب «المفدال»، تعبيراً عن قطاع ضيّق في الحلبة السياسية، يمكن تجاوز إرادته وتطلّعاته، بل باتت مكوّناً حاسماً لديه القدرة على إسقاط الحكومة في حال قرّر الانسحاب منها.
- كذلك، كان «الحريديم»، الذين تَمثّلوا في عهد بيغن بأربعة مقاعد فحسب، على هامش اللعبة السياسية، وجلّ ما طالبوا به حينذاك هو التملّص من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بينما اليوم يمتلكون حصّة وازنة في «الكنيست» قادرة على إطاحة الائتلاف، كما استحصلوا على مطالب كانت بالنسبة إليهم حلماً في السابق، إلى الحدّ الذي باتوا معه يطالبون بفرض نمط حياتهم التلمودية على الآخر اليهودي في إسرائيل.
لم تَعُد «الصهيونية الدينية» كما كانت في عهد بيغن، تعبيراً عن قطاع ضيّق في الحلبة السياسية
- تلقّف بيغن، في حينه، مبادرة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، ليتوصّلا إلى تسوية شملت الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، وهو ما أثار «الصهيونية الدينية» التي كانت عاجزة عن فعل أيّ شيء مضادّ. أمّا حالياً، فهي تمنع مجرّد الحديث عن مفاوضات مع الفلسطينيين ولو شكلية، فيما تتطلّع إلى إسقاط اتّفاقات سابقة تمهيداً لضمّ الضفة الغربية كاملة إلى إسرائيل، وطرْد الفلسطينيين منها.
- تمسَّك بيغن بمكانة القضاء الإسرائيلي، بوصفه حَكَماً يجب الامتثال لقراراته، حتى وإنْ عمد إلى إبطال قوانين واجراءات تنفيذية. كما أبقى صلاحيات المستشارين القانونيين في الوزارات والمؤسّسات على حالها، في حين أن نتنياهو وشركاءه يتطلّعون إلى إضعاف القضاء، لا فقط تمكيناً للأوّل من إسقاط محاكمته، بل أيضاً تيسيراً أمام الأخيرين لفرْض إرادتهم عبر قوانين وأنظمة، لن تتمكّن المحكمة العليا من إلغائها، حتى وإن كانت تعبيراً عن عنصرية فجّة وتغليب للمصالح الشخصية أو الفئوية، بما لا يستثني اليهود أنفسهم وعلاقاتهم البينية.
على رغم ما تَقدّم، يَصعب، من الآن، تقدير ما إن كانت حكومة نتنياهو ستتمكّن من تحقيق ما تتطلّع إليه، وبالتالي يتعذّر أيضاً تقدير مآلاتها المحتملة وتأثير سقوطها أو بقائها على إسرائيل. لكن الأكيد أن هذه الحكومة تطمح إلى نقل دولة الاحتلال إلى تموضع وهوية مغايرَين وسياسة اجتماعية مختلفة عمّا هو قائم حالياً، الأمر الذي يمثّل مكمن التهديد الأكبر والأشمل للكيان العبري.