رام الله | لم يأتِ أنتوني بلينكن، في زيارته إلى الأراضي المحتلّة، بجديد للسلطة الفلسطينية، مُعيداً على مسامعها تكرار اللوازم المعهودة بشأن «الالتزام بحلّ الدولتَين»، ومعارضة المساس بـ«الوضع القائم»، والتعهّد باستئناف تمويل المؤسّسات المعنيّة بالفلسطينيين ولاجئيهم، في مقابل الطلب إلى محمود عباس الإبقاء على «التنسيق الأمني» مع إسرائيل، والذي لم يكن لإعلان وقْفه قبل أيام أن يجد سبيله إلى التنفيذ أصلاً. أمّا على المقلب الإسرائيلي، فأعاد بلينكن التشديد على ضرورة خفْض التصعيد، في ما بدا تجلّياً جديداً لحرص إدارة جو بايدن على عدم دفْع الأوضاع في فلسطين نحو انفجار شامل، سيكون من شأنه التأثير على انشغالها بملفّات إقليمية ودولية أكثر إلحاحاً، على رأسها إيران وأوكرانيا اللذان حضرا بوضوح خلال لقاءات الوزير الأميركي بالمسؤولين الإسرائيليين
واصل العرّاب الأميركي، هذه المرّة ممثَّلاً في وزير الخارجية أنتوني بلينكن، زياراته للأراضي المحتلّة، انطلاقاً من قاعدة إبداء الدعم لإسرائيل، والالتزام بـ«أمنها وحمايتها» بالدرجة الأولى، في متلازمة لا تملّ الإدارات الأميركية من تكرارها، من دون أن تُغفل مصالحها في الإقليم والعالم، وضرورة كبْح جماح حليفتها، ومنْعها عمّا من شأنه الإضرار بتلك المصالح. ومن هنا، تسعى إدارة جو بايدن إلى لجْم تصرّفات ائتلاف اليمين المتطرّف في دولة الاحتلال، كي لا تنزلق الأوضاع في الضفة الغربية أو قطاع غزة إلى مواجهة شاملة، بما يؤثّر على الجُهد الأميركي المتركّز على ملفَّي الحرب الأوكرانية وإيران. ولا ترغب واشنطن، في الوقت الراهن، في أيّ صُداع جديد لها يمكن أن تَحمله التطوّرات في الأراضي المحتلّة، ممتنِعةً في الوقت نفسه عن ممارسة ضغوط جادّة وحقيقية على حكومة نتنياهو، أو إطلاق أيّ مبادرات سياسية، مكتفيةً بالطلب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ضبْط سلوك حكومته، والضغط على السلطة الفلسطينية لإدامة تنسيقها مع إسرائيل وتقويته، وفي الوقت نفسه بذْل جهود أكبر في محاربة المقاومة في الضفة. وبالنتيجة، لا يحمل بلينكن في جُعبته لرئيس السلطة، محمود عباس، أيّ جديد سوى الطلب إليه العودة عن قرار وقْف «التنسيق الأمني» - والذي لم يكن أصلاً ليجد سبيله إلى التنفيذ بأيّ حال من الأحوال -، ومُضاعفة اشتغاله على تهدئة الشارع، وهو ما يمكن التقدير أنه حظي بقبول عباس، وإنْ كان الأخير حرص على اجترار جملة مطالب لا تفتأ رام الله تكرّرها في كلّ مناسبة، كوقف اقتحامات المدن والخطوات الأحادية الإسرائيلية وخُطط الاستيطان، وإنهاء اعتداءات المستوطنين، وإلغاء العقوبات التي أقرّها «الكابنيت» على الفلسطينيين بما فيها اقتطاع أموال الضرائب، وإعادة إطلاق العملية السياسية.
الحسابات الأميركية تبدو مُفارِقة لحصاد الميدان الفلسطيني المشتعل


على أن الحسابات الأميركية تبدو مُفارِقة لحصاد الميدان الفلسطيني المشتعل؛ إذ بينما كانت رئاسة السلطة تستقبل بلينكن، كانت سجون الاحتلال تغلي على وقْع الاعتداء الكبير الذي نفّذته قوّات القمع الإسرائيلية ضدّ الأسيرات في سجن «الدامون»، واللواتي أَحرقْن بدورهنّ غرفهنّ ردّاً على ذلك الاعتداء. ويأتي هذا التطوّر ليضيف عامل تفجير جديداً إلى المشهد، الذي لا تفتأ حكومة نتنياهو، منذ تَسلُّمها السلطة، تلعب بأعواد ثقابه، بدءاً من اقتحام وزيرها لـ«الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، المسجد الأقصى، ومن ثمّ إطلاقها يد الاستيطان وتوسيعها رُقعته في الضفة وتشريعها قوانين الضم، وصولاً إلى اتّخاذ خطوات إضافية على طريق تهويد القدس وطرْد المقدسيين، وليس انتهاءً بارتفاع وتيرة جرائم القتل في الضفة، والذي جعل شهر كانون الثاني الأكثر دمويةً منذ سنوات بتسجيله 34 شهيداً، فضلاً عن العبث بملفّ الأسرى. وعلى هذه الخلفيّة، أعلنت الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الاستنفار العام، موضحةً أنها ستبدأ أولى خطواتها برفض ما يسمّى «الفحص الأمني»، وإغلاق الأقسام كافّة بما يعنيه من توقّف مظاهر الحياة الاعتقالية اليومية، والتمرّد على الأنظمة، فيما أبلغت الهيئات التنظيمية، إدارة السجون، أن المساس بالأسيرات خطّ أحمر، وأن خيارات الردّ ستكون مفتوحة.
على أن التصعيد داخل السجون لن يبقى، على الأرجح، محصوراً داخلها، بل قد يكون من شأنه تقريب موعد المواجهة الشاملة. وفي هذا الإطار، حذّرت حركة «حماس»، أمس، من أن «اعتداء الاحتلال على الأسيرات يسرّع الوصول إلى مرحلة الانفجار الكبير، ويشكّل صاعق تفجير للأوضاع»، منبّهةً إلى أن «المعركة لن تظلّ داخل المعتقَلات»، وهو ما سبق وأكّده أيضاً رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية. هكذا، تتسابق صواعق التفجير في الأراضي المحتلّة، فيما يبدو أن الذي سيسبق منها الآخر ستطاول شظاياه البقيّة، ما يعني أن المعركة المقبلة ستشمل الساحات كافة، ومن بينها القدس التي لم تهدأ منذ العمليتَين الفدائيتَين الأخيرتَين في قلْبها، إذ تعيش المدينة المحتلّة على صفيح ساخن، يغذّيه التوحّش الإسرائيلي في هدْم منازل الفلسطينيين ومداهمتها وتنفيذ اعتقالات عشوائية ضدّهم، مُقابل إصرار المقدسيين على المواجهة، وهو ما تجلّى في إعلان الإضراب الشامل أمس في جبل المكبر، ردّاً على قرار بن غفير هدْم عشرات المنازل. وإذ تسعى إدارة بايدن، إزاء ذلك، إلى الحدّ من الاستفزازات الإسرائيلية، فهي تحمل للسلطة الفلسطينية بيدها اليمنى التحذير من تبعات التصعيد، وبيدها الأخرى الوعود القديمة - الجديدة التي لم تبصر النور البتّة، كإعادة فتْح قنصلية أميركية مستقلّة للفلسطينيين في القدس، وضخّ مساعدات مالية تخفّف من ضائقة السلطة المالية وتَحول دون انهيارها. وفي هذا الإطار، كان الصحافي الإسرائيلي، يوني بن مناحيم، توقّع أن يَطلب بلينكن من عباس استئناف «التنسيق الأمني»، ناقلاً عن مصادر في حركة «فتح» أن «أبو مازن سيُوافق على هذا الطلب، وسيعمل على إنفاذه بشكل سرّي».


إلّا أن زيارة بلينكن تبدو غير مقتصرة على الملفّ الفلسطيني، بل شاملةً ملفّات أخرى أضاءت على بعض منها زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، للأراضي المحتلّة الأسبوع الماضي، والتي تبعتْها زيارة رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، يوم الخميس، في كثافة تؤشّر إلى أن ثمّة هدفاً يتجاوز الساحة الفلسطينية، وإنْ تزامنت تلك الزيارات مع المجزرة الأخيرة في مخيّم جنين والتي راح ضحيّتها عشرة شهداء. وتبدو الحرب في أوكرانيا، ومن ثمّ الملف الإيراني، على رأس أجندة الولايات المتحدة، التي تشتغل، على ما يَظهر، على نسْج تفاهمات مع إسرائيل بهذَين الشأنَين، بينما رفعت حكومة نتنياهو من حدّة تهديدها تجاه إيران، وأقدمت أوّلاً على تنفيذ هجوم بمسيّرات صغيرة على منشأة عسكرية في مدينة أصفهان الإيرانية، وثانياً على استهداف قافلة شاحنات آتية من إيران إلى سوريا على الحدود السورية - العراقية، وذلك كلّه بعدما نفّذت أيضاً مناورة عسكرية مع القوّات الأميركية، حاكت سيناريوات حرب على طهران.
وعلى ضوء تلك التطوّرات، وفي ظلّ تخوّفها من ردّ إيراني على هجوم أصفهان، وإدراكها أيضاً أن موجة المقاومة والاشتباك الفلسطينية في الأراضي المحتلّة لن تؤول إلى نهاية قريباً، رفعت دولة الاحتلال حالة التأهّب في صفوف قوّاتها. وبحسب الإعلام العبري، فإن أجهزة الأمن الإسرائيلية تتوقّع أن يُراوح الردّ الإيراني بين استهداف سيّاح إسرائيليين أو رجال أعمال في الخارج أو سفارات ومقرّات تابعة لوزارة الخارجية، وبين شنّ هجوم بالصواريخ أو المسيّرات الانتحارية المتفجّرة، قد ينطلق من اليمن أو سوريا، ويستهدف مواقع إسرائيلية. وأفادت «القناة الـ11» العبرية بأن ثمّة قلقاً إسرائيلياً أيضاً من إمكانية أن تستهدف إيران سفناً تابعة للعدو أو مرتبطة به، مضيفة أن ذلك يسبّب «صداعاً» لأجهزة الأمن، معتبرةً أن هجومَي أصفهان والبوكمال يعزّزان «الحافز» لدى طهران لشنّ هجمات ضدّ تل أبيب ومصالحها. هكذا، وبعدما هزّت عملية القدس أركان حكومة الاحتلال، ودفعتْها، لأوّل مرّة، إلى نشْر جنود من جيشها في شوارع المدينة لدعم الشرطة، تحسّباً لعمليات فدائية إضافية، وفي محاولة لبثّ الطمأنينة والشعور بالأمان في صفوف المستوطنين الذين أبدوا نقمتهم تجاهها، تأتي حالة التأهّب الآن خشيةً من ردّ إيراني، لتُلقي عبئاً جديداً على كاهل نتنياهو وائتلافه، اللذَين يبدو أن أسابيع مفخّخة كثيرة تنتظرهما.