لم يكن خطاب رئيس الحكومة، أول من أمس، عادياً. لكنه لم يكن نقطة تحوّل يمكن البناء عليها. في الشكل، قال الرئيس حسان دياب ما يمكن توصيفه بأنه تشخيص واقعي للأزمة. وهو جهد بات معلوماً ومفهوماً من الجميع. وحتى إشارته، مجدداً، إلى الفاسدين أو المسؤولين عن الكارثة ليس فيها جديد. بل إنه لا يزال متخلّفاً خطوات عن الاتهام المباشر الذي وجّهه الشارع إلى من يجب أن يتحمل المسؤولية عن الأزمة. ومشكلة دياب ستتفاقم كلما بقي يهرب من مهمة تسمية الأمور بأسمائها، وعدم تكرار ما يقوله السياسيون عن بعضهم البعض، عندما يطلقون اتهامات عامة، تعني في كل الحالات: لا شيء!ما قاله دياب عن واقع الأزمة وعما يجري من خطوات سياسية من قبل خصومه، وعن تقديره لمتطلبات المرحلة، أمر معروف وليس فيه ما يثير أحداً. وهو لمّح إلى وقائع قال إنها موجودة لديه حول «ليلة الانقلاب الفاشل»، وهدّد بنشرها، لكن لا يبدو أنه سيفعل. والخشية كل الخشية منه أن يفعل ذلك في الوقت الضائع، علماً بأن الكل شعر بأن هناك من رغب في تكرار تجربة أيار 1992، عندما تولّى الراحل رفيق الحريري، بالتعاون مع كل أركان الطبقة (وهم أنفسهم الموجودون اليوم)، إطاحة الحكومة من خلال «سلاح الدولار». الانقلاب تطلّب تحريضاً غير مسبوق، بأبعاد طائفية ومذهبية، وماكينة شائعات جعلت الدولار بسعر خيالي (وفق حسابات اليوم، وقد يكون واقعياً بحسابات الغد)، وكان هؤلاء يتوقّعون مستوى من الفوضى لا يقدر أحد على ضبطه، وعندها تكون المهمة دفع الحكومة الى الاستقالة. لكن ما فاتهم، هو تماماً ما قاله دياب، من أنه شخصياً ليس في وارد الاستسلام. وربما بات على خصومه معرفة حقيقة أنه قليل التأثر بكل أشكال الدعاية. فهو، أساساً، دخل دائرة النار يوم قبل المهمة، وواجه كل محاولات الحرم السياسي والطائفي والمذهبي.
مع ذلك، فإن دياب عندما تحدّث بحرقة عما يحصل، ودافع عن نفسه بأنه ليس من ضمن فريق الخراب في البلاد، كان يعبّر عن قلق مستجدّ. وهو قلق ليس مصدره خصوم الحكومة، بل حلفاء الحكومة. ولذلك، سارع منذ الأربعاء الماضي، وعلى مدى يومين كاملين، شخصياً ومع مساعديه وحلقة وزارية مؤثرة، إلى الاتصال بكل من بيدهم الأمر، وسؤالهم مباشرة عما إذا كانوا في صدد إطاحة الحكومة. وكان حريصاً على سماع الأجوبة الواضحة والمباشرة وغير القابلة للتأويل، والخلاصة التي تهمّه كانت: لا، ليس بيننا من يريد الانقلاب على الحكومة!
هذه الخلاصة سمحت له بقول ما قاله في خطابه. لكن، مع الأسف، هذه خلاصة تخصّ دياب وحده، أو تخصّ حكومته وحدها. لكنها لا تعالج مشكلاته المتفاقمة يوماً بعد يوم، سواء من داخل الحكومة، حيث النقاش بين القوى المؤلفة لها لم يعد موجوداً كما في السابق وعادت الريبة لتسكن الجميع. سليمان فرنجية وطلال أرسلان يراعيان حزب الله. والأخير يهتم بكيفية تقليص حجم التوتر بين التيار الوطني الحر وحركة أمل. والرئيس ميشال عون يريد إنجازات كبيرة، لكنه لا يزال يحمّل الآخرين مسؤولية التعطيل. وحزب الله نفسه لا يريد الانفجار، ويقوم بدور الإطفائي في كل لحظة. لكن الحزب لن يكون قادراً على حماية الحكومة من المفاجآت التي تأتي من دون سابق إنذار. وبالتالي، فإن التحدي الأبرز أمام الحكومة اليوم، وأمام دياب شخصياً، هو في قدرته على إقناع ثلاثي التيار ــــ أمل ــــ حزب الله، بالدخول في نقاش يستهدف التفاهم على آلية إدارة عمل الحكومة في المرحلة اللاحقة. وهو نقاش لا يبدو أنه قريب المنال. لا بل إن الحوارات خارج الحكومة تجري بوتيرة أسرع، سواء تلك التي يقودها الرئيس نبيه بري لتهدئة التوترات بين حلفائه الدروز، أو تلك الجارية من دون نتيجة على جبهة فرنجية ــــ باسيل. لكن نصيب الحكومة من هذه الحوارات لا يبدو مطروحاً على الطاولة. وبالتالي، فإن الخطر على الحكومة من انفجار داخلي يوازي خطر تعرضها لضربة قوية من خارجها.
لم يعد مهمّاً التشخيص وتقدير الموقف والاتّهامات العامّة، والتحدّي بتسمية الخصوم واعتماد آليّات جديدة


على أن الفكرة التي يهرب دياب من مواجهتها تكمن في أن عليه تحديد الخصوم الحقيقيين للحكومة، سواء من خارجها أو من داخلها. وليس معروفاً إن كان قد تعلّم من درس التعيينات. ففي هذا الملف، لم يتمكن من درء مخاطر المواجهة مع التيار الوطني الحر أو حركة أمل، إلا عبر عقد صفقة معهما أمّنت لهما استمرار الإمساك بناصية التعيينات على الخلفيات الطائفية، وتركا له اختبار «لذة المحاصصة» من خلال بعض المناصب التي لن تقدم ولا تؤخّر في مسيرة إدارة الدولة. وما فعله دياب في ملف الكهرباء، مثلاً، وخضوعه الضمني لمطلب جبران باسيل ــــ ولو الشكلي ــــ بالحفاظ على حق سلعاتا في معمل ثالث، كان أكثر الإشارات خطورة. فهو، هنا، لم يراع حسابات داخل الحكومة، بل شرّع حسابات لها بعدها الطائفي لا التنموي، وكل محاولة من باسيل وجماعته لإضفاء طابع تنموي على الخطوة محاولة فاشلة للتستّر على موجة الطائفية ــــ الفدرالية التي تسود أوساط العونيين على وجه الخصوص، وتنذر بمخاطر كبيرة، وخصوصاً أن القائمين عليها لا يبدو أنهم تعلّموا دروس الماضي القريب.
الجانب الآخر من المشكلة يتعلق بالوضع العام للإدارة المالية والاقتصادية للبلاد. ومشكلة حسان دياب، هنا، هي أن توصيفه لواقع المشكلة لا يترافق مع طرح آليات مختلفة أو مناقضة لما كان سائداً. فأولوية إطاحة رياض سلامة لا تخص شخص الأخير، بل آليات عمله. وبالتالي فإن التعيينات المالية الجديدة لن تفيد في شيء ما لم يجرؤ رئيس الحكومة على طرح السؤال المركزي: ألم يحن الوقت لتعديل قانون النقد والتسليف الذي يوفر الحماية للنظام الاقتصادي والمالي العفن الذين تسبّب بكل أزمات لبنان؟
أمر أخير، يتعلق بالحسابات الخارجية. تحدّي «قانون قيصر» لا يتعلق بالقدرة على تحدي الضغوط الأميركية، بل يتعلق، أولاً وأخيراً، بأن لبنان في حال قرر عدم مواجهة هذا القانون سيكون طرفاً في مشكلة إقليمية كبيرة لا قدرة له على تحمل كلفتها. ولن يكون بمقدور أميركا ولا كل الغرب حمايته من آثارها السلبية. وبالتالي، فإن التحدّيات الكبيرة أمام حكومة دياب باتت اليوم أكثر وضوحاً: لقد انتهى زمن التشخيص وتقدير الوضع، وها نحن أمام زمن القرارات الكبيرة التي تتطلّب من دياب الاتّكال على حليف كبير يساعده على مواجهة خصومه من داخل الحكومة أو خارجها. وهذا الحليف هو الفعل الشعبي في الشارع من جهة، وصعوبة توفّر بديل منه لإدارة الحكومة.
بات على دياب الاستماع إلى غير الذين يلتقيهم هذه الأيام، والاقتناع بأن التغيير الحقيقي يشمل كل شيء، لا موقعاً أو اسماً أو وظيفة فقط... وما لا يمكن لدياب أو غيره تجاهله، هو أن فترة السماح تقارب على الانتهاء. وساعتها سيتحوّل الى مجرّد لافتة تنتظر لحظة إزالتها!